أسمـــــــــاء الله الحسنـــــــــى وصفاتــــــه الحلقـــــــة الثانية والستــون في موضــــوع القـــــوي

نبذة عن الصوت

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية والستون في موضوع (القوي ) وهي بعنوان : ب - الصبر عن معصية الله :

وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحا صبر يوسف عليه السلام على مراودة امرأة العزيز له ، ولقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتلي بها اضطرارا

واختيارا ، وكشف عن هذا السر حين عثر إخوته عليه فقال : ﴿ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ يوسف : 90 ]. قال ابن القيم :

" وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول : كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها : أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه ، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر ، وأما صبره عن المعصية : فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس ، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة ، فإنه كان شابا ؛ وداعية الشباب إليها قوية ، وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته ، وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله ، ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر ، والمرأة جميلة ، وذات منصب ، وهي سيدته ، وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها ، والحريصة على ذلك أشد الحرص ، ومع ذلك

توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار ، ومع هذه الدواعي كلها : صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله ، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه

ولكن الدافع إلى الصبر عن معصية الله؟!

والجواب : إما الخوف وإما الحياء.

أما الخوف فهو من سوء عواقب المعصية وقبح أثرها ، أي خوف المرء مما يصيبه من جرائها في الدنيا والآخرة :

والخوف أيضا قسمان : خوف الدنيا وخوف الآخرة ، أما خوف الدنيا فهو ما ذكره الإمام ابن القيِّم :

" الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإنها إما أن توجب ألما وعقوبة ، وإما

أن تقطع لذة أكمل منها ، وإما أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضا توفيره أنفع للعبد من ثلمه ، وإما أن تذهب مالا بقاؤه خير له من ذهابه ، وإما أن تضع قدرا وجاها قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة ، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقا لم يكن يجدها قبل ذلك ، وإما أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يقارب لذة الشهوة ، وإما أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشهوة ، وإما أن تُشمت عدوا وتُحزن وليا ، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة ، وإما أن تُحدث عيبا يبقى صفة لا تزول ، فان الأعمال تورث الصفات والأخلاق " .

وأما خوف الآخرة وهو مما يلقى العاصي من العقوبة النارية والتقلب بين الأطباق الجهنمية ، فهي العقوبة إن عصى علنا فيكون مجاهرا بذنبه داعيا إليه ، وهي العقوبة إن عصى سِرًّا ليكون هاتكا ستر الله عليه مظهرا غير ما يبطن.

أما الدافع الثاني الذي يدفع إلى الصبر عن المعصية هو الحياء ، لكن ما الحياء؟!

قال الجنيد : " الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء ، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق " .

وهب ربك عفا عنك فأين الحياء مما جنيت يا رجل؟! إن

وسؤال أخير : أيهما أعلى مقاما وأكثر أجرا : الخوف أم الحياء؟!

فصل ابن القيِّم بين الخصمين فقال في كلام ألفاظه أنوار ومعانيه ثمار :

" ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية : كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ، ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ، ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف ، فمن وازعه الخوف : قلبه حاضر مع العقوبة ، ومن وازعه الحياء : قلبه حاضر مع الله ، والخائف مراعٍ جانب نفسه وحمايتها ، والمستحي مراعٍ جانب ربه وملاحظ عظمته ، وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان ؛ غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به ، إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله ، فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها " .

ولابد مع الخوف والحياء لكي يُحدِثا أعظم الأثر من صفتين متلازمتين وهما العلم واليقين ، فبغيابهما يغيب الخوف والحياء ، وبقوتهما يقويان.

فكل من علم أن الذي ينام عن الصلاة المكتوبة يكسر الحجر رأسه في قبره ثم أيقن بذلك : كيف ينام عن صلاة الفجر؟! وكل من علم أن ناشر الكذب ومروِّج الإشاعة يُشقُّ من رأسه ومنخره وعينه إلى قفاه ثم أيقن بذلك قل لي بعدها : كيف يكذب؟! وكل من علم أن الزاني يُحرق بنار أسفل منه وهو عريان ليفتضح في العلن كما كان يأتي الفاحشة في السر ثم أيقن بذلك ؛ فكيف يزني؟! وكل من علم أن أكل الربا يورث السباحة في نهر الدم والتقام الحجارة ثم أيقن بذلك فكيف يرابي؟! وكل من علم أن الوقوع في أعراض الناس يُعاقب فاعله بخمش وجهه وصدره بأظفار من نحاس ، ثم أيقن بذلك ؛

فكيف يُعقل أن يغتاب؟! وهكذا مع كل معصية وعقوبتها.

ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.