أسمـــــــــاء الله الحسنـــــــــى وصفاتــــــه الحلقـــــــة الرابعة والعشرون بعد المائــــــــــــتين في موضـــــــــــــوع القوي

نبذة عن الصوت

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة والعشرون بعد المائتين في موضوع (القوي ) وهي بعنوان :*﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

يقول الله - تعالى - على لسان إحدى ابنتي شعيب - عليه السلام - لما اقترحت على أبيها أن يتخذ سيدنا موسى - عليه السلام - مسؤولاَ بالأجر: ﴿ يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: "تقول: إن خير من تستأجره للرعي، القويُّ على حفظ ماشيتك، والقيامِ عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمينُ الذي لا تَخاف خيانته فيما تأمنه عليه". وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: "أمين فيما وَلِيَ، أمين على ما استُودع".

إن الأمانة من أعظم الركائز التي قامت عليها السماوات والأرض، وأعلى أنواع الأمانة، حفظُ الدين، والذودُ من أجل إقامة فرائضه، وحد حدوده. قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]. قال قتادة: "الأمانة: الدين، والفرائض، والحدود". وقال الطبري: "وقال آخرون: بل عُني بالأمانة في هذا الموضع: أماناتُ الناس".

وترتقي خطورة الأمانة في الإسلام إلى درجة تكون علامة على الإيمان أو عدم الأيمان. قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ" صحيح الجامع.

ومقعد الإنسان في الآخرة هو مقعده في الدنيا، هو يصنعه بيده، وهو يوجهه إلى ما اختار من جهته. فمن اتخذ مقعدا في الدنيا ليباهي به، أو يقضي مصالحه به، أو يعزف عن مصالح الناس التي علقت بعنقه، فقد خاب وخسر. فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي - رضي الله عنه - أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [آل عمران: 188].

عجباً ممن يتملكه الفرح لمسؤولية تعلق بها أو تعلقت به، ويتيه زهوا بين الأتراب والأصحاب، ويميس فخرا بين الجيران والأقرباء، يدق الطبول، ويقيم الحفلات، وكأنه ظفر بفوز لا يرام، وامتلك غنيمة لا تضام، في وقت عَلَّمنا فيه ديننا أن الأمانة تأتي ولا تؤتى، وأن المسؤولية تبحث عن صاحبها، وليس هو الذي يفتش عنها.

فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: "دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي.

 فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أَمِّرْنا على بعض ما وَلاَّ ك الله - عز وجل -. وقال الآخر مثل

ذلك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله، ولا أحدا حَرَص عليه" متفق عليه.

وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني - أي: ألا تعطيني ولاية أو إمارة -؟ قال: فضرب بيده - صلى الله عليه وسلم - على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه" مسلم.

ولما جاء أهل نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمسون منه مسؤولا أمينا، يقف على حاجاتهم، ويقضي مصالحهم، ويحسن إدارة شؤونهم، قال لهم: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حَقَّ أَمِين". قال حذيفة: فاستشرف لها الناس. فبعث أبا عبيدة بن الجراح. متفق عليه، وهو الرجل المناسب في المكان المناسب، الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" متفق عليه.

الأمين يعلم أنه مراقب على عمله، والرقيب هو الله، مسؤول عن وظيفته ومسؤولياته، والسائل هو

الله. قال تعالى: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].

وفي الحديث: "كُلُّكم راعٍ، وكُلُكم مسؤولٌ عن رعيَّته" متفق عليه.

الأمين يعلم أن الغش في الوظيفة يجر عليه ويلات الدنيا والآخرة، في الدنيا يفضحه الله، فيكتشف الناس كذبه، وخيانته، وتزويره، فيعيش بقية عمره ذليلا مهينا، مشارا إليه بأصبع المكر والخيانة. ويوم القيامة يفضحه الله على رؤوس الأشهاد، خزياً وعاراً وشناراً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ".

الأمين يجعل نفسه طوع يد من استأمنه، الذي ما اعتلى منصبه إلا بسبب ثقته فيه، وحسن ظنه به، فيحرم عليه أن يشق على الناس، أو يتماطل في قضاء مصالحهم، أو يتأخر في مد يد العون إليهم. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]. قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: إذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، وهذه صفات المؤمنين".

إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.