أسمـــــــــاء الله الحسنـــــــــى وصفاتــــــه الحلقـــــــة التاسعة والخمسـون بعد المائــــــــــــة في موضــــوع القوي
نبذة عن الصوت
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة والخمسون بعد المائة في موضوع (القوي ) وهي بعنوان : * منطق القوة في كتاب الله :
ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يصدر منه ما يخالف مبدأ استخدام القوة، حتى في الظروف التي يكون فيها مكروبا مستضعفاً، بل لم يضطره لذلك حرصه على تأليف الخلق أو خوفه من تفرق الناس عنه، ومن شواهد ذلك أنّه عرض نفسه في موسم الحج على القبائل، فأتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له: بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: " الأمر لله يضعه حيث يشاء"، فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه. البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 171)؛ فلم تشتمل إجابته على ما ينفي ما تبادر إلى فهمهم من أنّ الإسلام لابد له من دولة وقوة، رغم حرصه على هدايتهم، كما لم ينف ذلك عندما عرض عليه الذين بايعوه عند العقبة هذا العرض: "والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟" واكتفى بإعلامهم بأنّ الأمر لم يصدر بعد بذلك، فكان جوابه: "لم نؤمر بذلك" سيرة ابن هشام ت السقا (1/ 448)
ولو أنّنا دققنا النظر لاكتشفنا ما هو أبعد من ذلك في دلالته، فهناك آيات مكية كثيرة اشتملت على إشارات واضحة الدلالة على هذا المبدأ، فعلى سبيل المثال؛ سورة العاديات افتتحت بهذا القسم: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} فعلامَ أقسم الله تعالى بالخيل التي تعدو فتضبح في عدوها وتصبح القوم قادحة للشرر مثيرة للنقع متوسطة للجمع ؟ وكان جواب القسم هكذا: " إنّ الإنسان لربه لكنود " ومحال ألا تكون هناك علاقة بين القسم والمقسم عليه؛ لأنّ كلام الله آخذ بعضه برقاب بعض، والعلاقة هي علاقة السبب بالمسبب، فكنود وجحود البشرية وموقفها المتعنت تجاه الحق وأهله يستدعي العاديات ضبحاً المغيرات صبحاً؛ ليس فقط لحماية الحق ودعاة الحق، وإنما لذلك ولأمر آخر لا يقل أهمية عن حماية الحق وأهله، وهو تهيئة النفوس والأوضاع لقبول الحق والتسليم له.
وتأتي الإشارة أكثر وضوحاً في سورة القمر، حيث ذكر الله تعالى فيها قصص الأمم المكذبة للمرسلين، وذكر مصارعهم جميعاً، حتى إذا ما بلغ السياق أهل مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا بالسنّة الماضية تأخذ لوناً جديداً: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} (القمر 43-45) فالأخذ - إذاً - هذه المرة سيكون بأيدي المؤمنين وجهادهم، وهذا المعنى لم يتضح للناس
بشكل كامل إلا يوم أن التقى الجمعان ببدر ووثب رسول الله صلى الله في درعه صائحاً: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
هذه هي الحقيقة الأولى، حقيقة خلو الخطاب في مكة من كل ما يخالف مبدأ القوة، هذه الحقيقة لها دلالاتها المتعددة، أول هذه الدلالات أنّ مبدأ اعتماد القوة لم يكن ردّ فعل بسبب ملابسات تاريخية، ولم يكن تطوراً في أدوات الصراع اقتضته مرحلة من مراحل الدعوة، وإنما كان منهجاً ثابتاً؛ يدفع بثباته هذا كل ما توسوس به نفوس المنهزمين من المسلمين، الذين يحاولون تبرير فريضة الجهاد - لاسيما جهاد الطلب - بملابسات تاريخية وظروف غير دائمة .
الدلالة الثانية تتمثل في رسوخ المبدأ وثباته؛ إلى حدّ أنّ الحاجة الملجئة بسبب ضغط الجاهلية وبطشها بقوم ليس لديهم منعة؛ لم تفلح في استدعاء خطاب يفتح للجاهلية باب الأمل في أن تتعايش مع الإسلام على أرض واحدة، ناعمةً بسلام تأخذه وتعطيه، وأمان يفرضه طمع كل فريق في البقاء .
الحقيقة الثانية:
أنّ مبدأ اعتماد القوة في الإسلام مبنيّ على أسباب شرعية وواقعية في ذات الأمر، فهو مبرر شرعاً
وواقعاً، فإذا تأملنا - على سبيل المثال - قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة 253) لتبين لنا واقع يبرر بوضوح تام وصراحة مفرطة اعتماد الإسلام لمبدأ القوة، فلولا أنّ الناس اختلفوا إلى مؤمنين وكفار ما اقتتلوا؛ فاقتتالهم هذا نتيجة طبيعة لافتراقهم إلى مؤمنين وكفار؛ لأنّ من طبيعة الجاهلية والإسلام أنهما لا يأتلفان حتى يأتلف النور والظلام، ولا يلتقيان حتى يلتقي الليل والنهار .
ومثل هذا أو قريب منه تجده في افتتاح سورة محمد التي سميت بسورة القتال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)} (محمد 1-3) ثم انطلق السياق بعدها إلى غايته، وهي وضع استراتيجية القتال في المرحلة تلك، وهي الإثخان في الارض قبل أخذ الأسرى وقبول الفدية: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}(محمد آية 4) ، والشاهد هنا هو أنّ القتال الذي فرض هنا ووضعت لتنفيذه خطة واضحة بني على أصل واقعيّ يبرره ويفسره، وهو اختلاف الناس إلى مؤمنين وكفار .
وأوضح من هذا وذاك هاتان الآيتان: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة 251) {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج 40) أي: لولا دفع الله الناس (الكافرين المفسدين) بالناس (المؤمنين المجاهدين) لفسد دين الناس ولفسدت كذلك دنياه ومعايشهم.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.