أسمـــــــــاء الله الحسنـــــــــى وصفاتــــــه الحلقـــــــة الثامنة والخمسـون بعد المائــــــــــــة في موضــــوع القوي
نبذة عن الصوت
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة والخمسون بعد المائة في موضوع (القوي ) وهي بعنوان : * منطق القوة في كتاب الله :
في عالم لا يعترف إلا بالقويِّ، ولا يحترم ولا يكترث إلا بمن يمتلك أدوات الضغط والإكراه؛ يبزغ سؤال له أهمية كبيرة في تفسير ما يجري وفي وضع الحلول لما نحن فيه من خطوب وكروب، والسؤال هو: ما موقف القرآن الكريم من استخدام القوة ؟ وما هي الأسس الفكرية والعقدية التي ينبني عليها هذا الموقف ؟ وبالجملة: ما هي العلاقة بين القرىن الكريم ومنطق القوة ؟
ولست أعني بمنطق القوة سوى ذلك المعنى المباشر الذي يتبادر إلى الذهن بمجرد النطق بلفظ القوة،
ولن أذهب قطّ إلى تلك الفضاءات البعيدة التي يذهب إليها القاصدون للتوسع والاستطراد، لن أتحدث عن أنواع القوة التي لا يحصيها العدّ ولا يطويها الاستقصاء مهما امتدّ، فقط سأتحدث عمّا يطيب للكثيرين التعبير عنه بمصطلح: القوة الخشنة؛ وذلك لأنّه المقصود دون توسع، وإن كانت أنواع القوة الأخرى لا غنى عنها .
ولن أكون خارجاً عن فلك القرآن إذا دعمت رؤيتي بجملة من الأحاديث - وإن كثرت بعض الشيء - ما دام الأصل هو القرآن؛ لأسباب، منها: أنّ السنّة وحي بالمعنى، وهي أحد قسمي الوحي، وأنّ حجية السنة ثابتة بالقرآن نفسه، وأنّ من السنّة - وهو الأغلب - ما هو مُفَصِّل لما أُجمل في القرآن، وما هو تأويل لمقاصده وتنزيل لأحكامه على واقع الأمّة وحياة الناس .
إنّك إن ألقيت نظرة سريعة في سور القرآن الكريم - مكّيّه ومدنيّه - لرجعت إليك بحقيقة أولية غاية
في البساطة والوضوح والصراحة والثبات، هذه الحقيقة مفادها أنّ الحقّ يخوض صراعاً أزلياً سرمدياً مع
الباطل؛ ومن ثمّ فلابدّ للحق من قوة تحميه، وتهيء الأوضاع لقبوله والتسليم له والعمل بمقتضاه .
هذه الحقيقة الأولية البالغة البساطة والوضوح والصراحة والثبات؛ تنبثق منها وتتفرع عنها جملة من الحقائق، تدور في فلكها الرحيب، وتتسم بسماتها الأربع (البساطة والوضوح والصراحة والثبات)، بدرجات متفاوتة حسب القرب والبعد، والالتصاق والافتراق، دون إخلال باجتماع هذه السمات والتئامها .
الحقيقة الأولى:
أنّ القرآن المكيّ، الذي نزل أيام كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في مكة دعوة خالية من كل أشكال الشدّة على الكافرين، لم يشتمل مطلقاً على ما يدل على أنّ الإسلام ضدّ استخدام القوة، أو أنّه دين لا يعتمد أسلوب فرض الوجود على الأرض بالقوة، وإنما اشتمل فقط على خطاب تكليفيّ للمؤمنين بالإعراض والصفح الجميل، وليس في هذا الخطاب نفيٌ لمبدأ القوة، لأنّه لم يأت معللاً بانتفاء المبدأ، وإنما جاء في مواضع عارياً عن مثل هذا التعليل، مثل قوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر 85) أي: "فأعرض عنهم إعراضا جميلاً واعف عنهم" تفسير الطبري جامع البيان (17/ 127) وفي أخرى جاء معللاً بالوقتية مثل قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حين} (الصافات 174) أي: " اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر؛
ولهذا قال بعضهم: غَيَّا ذلك - أي جعل لذلك غاية - إلى يوم بدر" تفسير ابن كثير ط العلمية (7/ 40)، والمسلك الصحيح للتعامل مع هذا التنوع هو تفسير الآيات الواردة في هذه القضية في ضوء ما ورد منها معللاً بالتوقيت، فيكون المقصود بالعفو والصفح في قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل) أي: إلى حين استقرار النصر لك. تفسير القاسمي - محاسن التأويل (8/ 234)
ولأجل هذا قال أغلب المفسرين من السلف بأن آية السيف نسخت كل ما سبقها من الآيات التي تتحدث عن الصفح والإعراض، إلا أنّ المحققين لم يوافقوا المتأخرين من المفسرين في حملهم قول السلف بالنسخ على معنى النسخ في الاصطلاح، وهو رفع الحكم السابق بخطاب لا حق، لأنّ السلف لم يقصدوا بالنسخ ذلك المعنى الاصطلاحي المتأخر، وإنما قصدوا ما هو أعم منه وأشمل، مما تتسع له اللغة ولا يتسع له الاصطلاح، من ذلك أن يشرع الحكم لسبب ثم يزول السبب فيرتفع الحكم لزوال سببه. راجع: مناهل العرفان (2/254)
ولم يرد قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينافي ذلك في الواقع العمليّ للدعوة الإسلامية، بل ورد ما يدعمه ويقويه، فها هو يصدر عنه بعض ما يضمره إلى أن يحين وقته، عندما تعرضوا له بالأذى قال: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح» فأخذت القومَ كلمتُه، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم عليه ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشدا، فوالله ما كنت جهولاً. مسند أحمد (11/ 610) - سيرة ابن هشام (1/ 290) - البداية والنهاية (3/ 61) - تاريخ الطبري (2/ 332)
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.