حقيقة العبادة بين التأمل والعادة

حقيقة العبادة بين التأمل والعادة
إبراهيم بن عبدالله السماري
العبادة هي الوظيفة التي خلق الله الانسان من أجلها، فقال تعالى:«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون» الذاريات 56.
وهي رسالة الإنبياء والرسل إلى أقوامهم كما قال عز وجل:« ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت» النحل 36 وفي شهر رمضان المبارك والعشر الأواخر منه خصوصاً تكثر وتتنوع العبادات مما يجعل البحث عن حقيقة العبادة وتأمل خصائصها وآثارها ضرورة من الضرورات التي يجدر بكل عاق أن يوليها عنايته.
وقد تناول العلماء في القديم والحديث موضوع العبادة بالبحث المستفيض من جميع النواحي الفقهية والتربوية، فالعبادة ليست تلك الحركات الظاهرية التي يؤديها المسلم فحسب، بل إنها ذات أسس ولها خصائص متميزة، ولذا فلابد لكي تكون مثمرة مقبولة أن تشمل الآثار الإيمانية والتربوية والسلوكية، وبالتالي فإن تحويل العبادة إلى عادة يعني الاكتفاء بالقشور، وهذا ضد العقل والرشد، وضد مقتضى حقيقتها.
قال الراغب في مفرداته: العبودية: إظهار التذليل والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله سبحانه وتعالى. والعبادة نوعان: عبادة التسخير، وهي الواردة في قوله تعالى:«وسخر لكم مافي السموات ومافي الأرض جميعاً منه» الجاثية 13 وعبادة الاختيار وهي لذوي النطق، وهي المأمور بها، وهي الواردة في قوله تعالى:«يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم» البقرة 21.
والعبادة شرعاً اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وغير ذلك.
فهي تشمل جميع أعمال الإنسان الإرادية قلبية كانت أو سلوكية، فإذا عمل الإنسان عملاً بقصد طاعة الله ووفق شرعه كان عمله طاعة وعملاً صالحاً، حتى إن النوم بقصد التقوي للعبادة هو عبادة، وإذا كان عمله مخالفاً لذلك كان عمله معصية وعملاً غير صالح، حتى إنه لو زاد ركعة في الصلاة من جنسها ذاكراً بقصد العبادة كان عمله معصية لأنه خالف شرع الله.
والوظيفة الدعوية للعبادة نجدها في جانبين: جانب الإنسان مع نفسه يتأمل حكمتها وآثارها وخصائصها ثم يحاسب نفسه على عمله فيها ويراقبها ليرتقي سلم الكمال الإيماني بقدر الطاقة، والجانب الثاني: توعية الناس إلى تلك الخصائص والآثار ليحققوها في أنفسهم وفي من سيسألون عنه.
فقد اهتم الإسلام بالعبادة كل الاهتمام وحرص على أن يستحضرها المسلم في كل شؤونه بتوازن لا إفراط فيه ولاتفريط ولذا جعل لها خصائص وسمات تعلي شأنها في حياة المسلم، ولعل أهم تلك الخصائص:
الخصيصة الأولى: خصيصة التوقيف فالعبادة توقيفية وليست اجتهادية، فحق إيجادها عائد لله وحده، قال تعالى:«أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله» الشورى 21 ثم إن هذه الخصيصة مهمة جداً، لأنها تجعل العبادة ميداناً تتسابق فيه النفوس المطيعة نحو رضا الرحمن مع يقين بالعدل لأن الله هو مصدر التشريع في كل عصر وفي كل مكان ولكل أحد، ومقتضى هذه الخصيصة عدة أمور:
أولها: أن العلاقة بين العبد وربه علاقة مباشرة لا تحتاج إلى واسطة أحد مهما كان فضله.
وثانيها: الوضوح، لأن القرآن الكريم والسنة المطهرة هما مصدر الوحي عن الله تعالي، إليهما يحتكم كل المسلمين فتعرف منهما العبادة بمختلف درجاتها وأنواعها وشروطها فلا يتيه العابد إليها أبداً.
وثالثها: التوازن، لأن الله سبحانه هو من يملك حق التشريع، وهو الخالق للعباد وهو أعرف بما يستطيعونه وما يناسبهم فيشرعه لهم.
ورابعها: الأمان، فإنه ليس لبشر أن يشرع لنفسه أو لغيره عبادة قولية أو فعلية مهما صغرت كما أنه ليس لمتعبد أن يتعبد الله إلا بما شرع تعالى، وبذا يأمن العابد من خطر رد عمله عليه وخسران سعيه مادام في دائرة الاتباع المشروع.
الخصيصة الثانية: التنوع، فالعبادات تتنوع إلى عبادات قولية وفعلية ومشتركة بينهما، وإلى عبادات بدنية ومادية ومشتركة بينهما، وإلى عبادات واجبة ومندوبة الخ..
ومقتضى هذه الخصيصة أن الشارع راعى حال العباد من حيث نشاطهم وكسلهم ومن حيث قوة إيمانهم وضعفه، ومن ثم حاجاتهم إلى الابتلاء والاختبار لتمحيصهم وغسل أدرانهم، وهذا الابتلاء والاختبار نجده أوضح وأظهر في الأحكام التي ليست ذات طبيعة إلزامية أمراً أو نهياً كالمندوب والمكروه، ولذا نجد أن امتثال الإنسان للواجبات واجتنابه للمحرمات أسرع لأنه أهون على نفسه الضعيفة وذلك خوفاً من العقاب، فإذا قوي إيمانه وارتفع فقهه بحكمة التشريع وأيقن أن الأحكام كلها، واجبها ومندوبها، وحرامها ومكروهها، إنما هي لمصلحته ولسعادته في المعاش فحينئذٍ لا يقف عند حدود فعل الواجبات بل يتعداها إلى فعل المندوبات لأنه يوقن أن العبد إذا تقرب لمعبوده سبحانه بالنوافل كان من أولياء الرحمن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو لا يرضى أن يقتصر على اجتناب المحرمات بل يحرص على الابتعاد عن المكروهات أيضاً لأنه يعلم أن حمى الله محارمه وأن من ترك الشبهات فقد أستبرأ لدينه، وهذا ميدان فسيح يتميز فيه القوي على الضعيف والموقن على المرتاب.
الخصيصة الثالثة: العموم والشمول، بحيث تشمل جميع أعمال الإنسان القلبية والفكرية والبدنية والقولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» ومن شواهد شمول العبادة وعمومها:
أولاً: أن الأصل فيها هو إباحة الطيبات وتحريم الخبائث، قال تعالى:«يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تبعدون» البقرة 172.
ثانياً: أنها إذا تحققت شروطها واجبة على الجميع، فالصلاة مثلا تجب على الكبار والصغار والنساء والرجال والأحرار والعبيد والمسافر والمقيم والصحيح والمريض والآمن والخائف، وإن اختلفت كيفيتها بحسب الحال أحياناً.
الخصيصة الرابعة: الاستمرار والدوام، حيث تبدأ العبادة مع الإنسان في سن التمييز تمريناً له وتعويداً على الطاعة، ثم يكلف بها في سن البلوغ تكليفاً وتشريفاً، وتستمر معه حتى الموت كما قال تعالى:«واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» الحجر 99.
ويكمن سر دوام العبادة في أنها ضرورة تقتضيها حاجات الإنسان الروحية والجسدية، قال صلى الله عليه وسلم:«وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ولذا فهي ملازمة له لا تسقط إلا لأسباب قاهرة، وقد تسقط سقوطاً مؤقتاً كما هي حال الحائض والنفساء مثلاً، وقد تؤجل أو تخفف عن المريض والمسافر مثلاً، وذلك لأسباب عارضة تتنافى مع حقيقتها، أو لعدم تحقيق وظيفتها في حق المباشر لها في حال معينة، فلا عجب بعد ذلك أن يفزع الصالحون إلى الصلاة إذا حزبهم أمر، ولعل مشروعية صلاة الخسوف والكسوف مراعاة لهذا الجانب.
الخصيصة الخامسة: السهولة واليسر، وهذه الخصيصة ضرورية لارتباطها بالخصيصة السابقة، فإن كون العبادة دائمة مستمرة قد يوقع في الحرج والمشقة لولا أن من خصائص العبادة في الإسلام أنها سهلة ميسرة، ولذا كان من المقاصد الأساس للشريعة الإسلامية، ومن القواعد المقررة: رفع الحرج ودفع المشقة عن العباد، يؤكد ذلك النصوص الكثيرة، قال الله تعالى:«الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجليل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم» الأعراف 157.
ومن أوضح شواهد هذه الخصيصة أن اليسر والسهولة تكرر ذكرهما في القرآن الكريم بعد كثير من تكاليف الأحكام، فبعد أحكام الطهارة جاء قوله تعالى:«ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم» المائدة 6، وعقب آيات الصيام قال تعالى:«يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» البقرة 185، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل اليسر والسهولة علامة الاعتدال والوسطية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا..» وجاء تطبيق هذه الوصية النبوية في قصة النفر الذين تقالوا عبادتهم فعزم أحدهم على الصلاة فلا ينوم أبداً وقال الآخر فأنا أصوم فلا أفطر أبداً وقال الثالث: فأنا لا أتزوج النساء أبداً، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: أما أنا فأصلي وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وإذا كانت خصائص العبادة في الإسلام بهذا التميز المعلى شأنها فإن وظيفتها لاتقصر عن هذه الرفعة، وشواهد منزلتها كثيرة جداً ومنها:
الشاهد الأول: أنها صلة بين العبد وربه يحقق العبد من خلالها عبوديته لله عز وجل، ويقوي صلته به، فهي اتباع نابع من محبة وشعور بالحاجة إلى رضا المعبود المحبوب. فالصلاة مثلاً: رقي روحي، وتأمل وتفكير، وخضوع جسدي، أما الرقي الروحي فبما فيها من شعور بالصلة بالله وخشيته بدلالة الطهارة من الحدث والنجاسة استعداداً لمناجاة المعبود، قال صلى الله عليه وسلم: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجي» وأما التأمل والتفكير فبما فيها من تهليل وتسبيح وتكبير وقراءة وأذكار وحركات موجبة للخضوع الخ.. ولهذا السبب فإن الفاتحة تتكرر في كل ركعة من ركعات أية صلاة لما فيها من موجبات التأمل والتفكير في المعاش والمعاد. وأما الخضوع الجسدي فبما في الصلاة من كيفية خاصة تشعر بالامتثال والتذليل للمولى عز وجل.
الشاهد الثاني: أنها تهذب نفس العبد وتزكيها من شوائب المعاصي وتربي روحه على حب الخير والتعاون، قال تعالى:«خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها» التوبة 103، والعبادة ترقع خلل التقصير ففي الحديث الصحيح عن زكاة الفطر:«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين».
الشاهد الثالث: العبادة تعود على المجتمع عامة بالخير والنفع، فالزكاة مثلاً صورة من صور التكافل الاجتماعي وإشاعة روح المودة والإخاء بين المسلمين وتربية سلوك الفرد والمجتمع بما تزرعه في النفوس من صلة بالله ومراقبة له وخشية منه ففي حديث معاذ رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :«فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة زكاة تأخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» والحجاب عبادة تحفظ المجتمع من فتنة الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وما يترتب على هذه الفتنة من مفاسد عظيمة وعواقب وخيمة، والصلاة تعود المسلمين على التعاون والتعارف تزيد أواصر التآلف بينهم حين يتفقد حاضرهم غائبهم وصحيحهم مريضهم وغنيهم فقيرهم خمس مرات في اليوم فتشيع فيهم روح التواصل والتقارب، وهكذا الحال في سائر العبادات دون استثناء.
ولأهمية العبادة الصحيحة في حياة المجتمع كانت أول مطلوب للعقلاء، فقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة...» إبراهيم 37.
الشاهد الرابع: أن العبادات من مكفرات الذنوب فجاء في الحديث الصحيح«الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» وورد تأثير صوم يوم عاشوراء وقيام رمضان وليلة القدر وغيرها في تكفير الذنوب.

إن الحاجة ماسة إلى توعية الناس بأهمية وخصائص العبادة بشقيها مع النفس ومع الغير وذلك بمراجعة النفس أولاً ثم توعية الناس حول العبادة بشكل عام عن طريق تصحيح مفهومها وبيان طبيعتها ووظيفتها وكيفية ممارستها الممارسة الصحيحة، والاهتمام بها على مستوى الآباء والمربين والمعلمين في المدارس والمناهج وتنشئة الأجيال على حقيقتها وحبها، واهتمام الدعاة بها، وتنويع طريقة عرض حقائقها وآثارها بما يحقق القبول.
وإذا كان الاقتصار على جانب الموعظة فحسب للترغيب في العبادة والتخويف من التقصير فيها جانباً مهماً إلا أن المؤكد أنه لا يكفي، فهل ينهض العلماء والدعاة بتوعية كاملة في هذا المجال المهم؟ والله الموفق....