أسمـــاء الله الحســـنى وصفـــــــاته الحلقــة الثالثة والسبعون بعد المائــتين في موضـــوع المعـــطي
نبذة عن الصوت
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والسبعون بعد المائتين في موضوع (المعطي) وهي بعنوان :
*كشف الغطاء عن فضل العطاء :
لَقَد كَانَ عَطَاؤُهُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - عَطَاءَ مَن عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنيَا وَسُرعَةَ فَنَائِهَا، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ في الآخِرَةِ لأَهلِ العَطَاءِ مِن مُضَاعَفِ الثَّوَابِ وَكَرِيمِ الجَزَاءِ، وَمِن ثَمَّ فَقَد كَانَ لا يَفرَحُ بما أَبقَى كَفَرحِهِ بما أَعطَى، بَل لَقَد حَرِصَ أَلاَّ يَدَّخِرَ شَيئًا دُونَ مُستَحِقِّهِ أَو سَائِلِهِ، عَن أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدٍ. وَعَن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنهَا - أَنَّهُم ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بَقِيَ مِنهَا ؟ " قَالَت: مَا بَقِيَ مِنهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قَالَ: " بَقِيَ كُلُّهَا غَيرَ كَتِفِهَا " وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " يَقُولُ العَبدُ: مَالي مَالي. وَإِنَّ لَهُ مِن مَالِهِ ثَلاثًا: مَا أَكَلَ فَأَفنى، أَو لَبِسَ فَأَبلَى، أَو أَعطَى فَأَقنى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ. هَذَا هُوَ مَعنى العَطَاءِ عِندَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لَيسَ عَطَاءَ مَن يَرَى لِنَفسِهِ الفَضلَ وَالمِنَّةَ، بَلْ عَطَاءُ مَن يَعلَمُ أَنَّهُ يُعَامِلُ رَبًّا كَرِيمًا وَيَرجُو إِلَهًا جَوَادًا، يُعطِي الكَثِيرَ عَلَى القَلِيلِ، وَيُخلِفُ مَا يَزُولُ وَيَفنى بما يَدُومُ وَيَبقَى، وَهُوَ القَائِلُ - سُبحَانَهُ -: " وَمَا أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ " يُقَالُ هَذَا الكَلامُ - أَيُّهَا الإِخوَةُ - وَنَحنُ نَرَى المُنفِقِينَ في سُبُلِ الخَيرِ وَالدَّاعِمِينَ لِجَمعِيَّاتِ البِرِّ وَالمُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةَ بَينَ مُتَرَاجِعٍ بَعدَ إِقدَامٍ، وَمُتَأَخِّرٍ بَعدَ مُسَابَقَةٍ وَمُسَارَعَةٍ، وَمُتَرَدِّدٍ في نِيَّتِهِ لم تَتَّضِحْ رُؤيَتُهُ وَلا يَعلَمُ أَينَ وِجهَتُهُ، أَلا فَلْتَعلَمْ - أَيُّهَا المُسلِمُ الدَّاعِمُ لِمُؤَسَّسَاتِ الخَيرِ وَجَمعِيَّاتِ البِرِّ - أَنَّكَ تُعَامِلُ رَبَّكَ وَخَالِقَكَ، وَتُقرِضُ رَازِقَكَ الَّذِي يُضَاعِفَ مَثُوبَتَكَ، وَأَنَّ أَجرَكَ عَلَى قَدرِ نِيَّتِكَ، وَأَنَّكَ عِندَمَا تَبذُلُ وَتُعطِي، فَإِنَّكَ في الوَاقِعِ لا تُعطِي بِقَدرِ مَا تَأخُذُ. نَعَمْ، إِنَّكَ تَأخُذُ كَثِيرًا بِإِعطَائِكَ القَلِيلَ، وَتَنَالُ نَتَائِجَ مُضَاعَفَةً وَثَمَرَاتٍ مُوَفَّرَةً، لَو جُعِلَت إِلى جَنبِ عَطَائِكَ لَصَارَ كَنُقطَةٍ في بَحرٍ لُجِّيٍّ، إِنَّكَ تَأخُذُ مِمَّن أَعطَيتَهُم في الدُّنيَا مَشَاعِرَ المَدحِ وَالامتِنَانِ، وَتَكسِبُ أَلسِنَةَ الشُّكرِ وَالعِرفَانِ، تَحُوزُ مَوَدَّتَهُم وَتَربَحُ مَحَبَّتَهُم، وَتَأسِرُ قُلُوبَهُم وَتَملِكُ أَفئِدَتَهُم، وَالأَهَمُّ مِن ذَلِكَ وَالأَغلَى وَالأَنفَعُ والأَبقَى، دُعَاؤُهُم لَكَ وَذِكرُهُم إِيَّاكَ بِالخَيرِ بَعدَ رَحِيلِكَ، وَالنَّاسُ شُهَدَاءُ اللهِ في أَرضِهِ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " يُوشِكُ أَن تَعرِفُوا أَهلَ الجَنَّةِ مِن أَهلِ النَّارِ " قَالُوا: بِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " بِالثَّنَاءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ؛ أَنتُم شُهَدَاءُ اللهِ بَعضُكُم عَلَى بَعضٍ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. كُنْ عَلَى يَقِينٍ - أَيُّهَا المُعطِي شَيئًا لِوَجهِ اللهِ - أَنَّكَ إِنْ مَنَحتَ الآخَرِينَ شَيئًا مِمَّا تَملِكُ، فَسَتَرَبحُ أَضعَافَ مَا مَنَحتَ؛ لأَنَّكَ بِعَطَائِكَ تُعِيدُ الابتِسَامَةَ لِشِفَاهٍ طَالَمَا أُطبِقَت، وَتَرسَمُ البَهجَةَ عَلَى وُجُوهٍ طَالَمَا عَبَسَت، وَتُدخِلُ الأَمَلَ وَالفَرَحَ عَلَى قُلُوبٍ يَئِسَت وَتَأَلَّمَت وَحَزِنَت، كَم مِن يَتِيمٍ فَقَد حَنَانَ الأُبُوَّةِ أَو لم يَذُقْ لِلأُمُومَةِ طَعمًا، اِنشَرَحَ بِعَطَائِكَ صَدرُهُ، وَابتَهَجَت بِبَذلِكَ نَفسُهُ، وَخَفَّت بِجُودِكَ مُعَانَاتُهُ، وَزَالَ بِكَرَمِكَ شَيءٌ مِن شَقَائِهِ ! وَكَم مِن أَرمَلَةٍ فَقَدَتِ العَائِلَ وَغَابَ عَنهَا الرَّاعِي، وَذَاقَت مَرَارَةَ الغُربَةِ وَالحِرمَانِ بِفَقدِ زَوجِهَا، أعَدتَ لَهَا شَيئًا مِنَ الأَمَلِ يُنِيرُ بَقِيَّةَ حَيَاتِهَا، لِتُوقِنَ أَنَّهُ مَا زَالَ في الدُّنيَا خَيرٌ كَثِيرٌ وَنُفُوسٌ طَيِّبَةٌ وَأَيدٍ مُبَارَكَةٌ، وَصُدُورٌ تَفِيضُ جُودًا وَقُلُوبٌ تَنبِضُ عَطَاءً ! العَطَاءُ - أَيُّهَا المُبَارَكُ - أَن تُقَدِّمَ مَا تَجُودُ بِهِ نَفسُكَ لِمَن تُحِبُّ وَمَن لا تُحِبُّ، العَطَاءُ أَلاَّ تَعِيشَ لِنَفسِكَ مُستَأَثِرًا بما رَزَقَكَ رَبُّكَ، بَل تَفتَحُ قَلبَكَ لِيَسعَ حَاجَاتِ الآخَرِينَ، وَتَمُدُّ يَدَكَ لِتَسُدَّ فَاقَاتِ المُحتَاجِينَ، لا تَنظُرْ لِقَدرِ مَا تُعطِي وَقِيمَتِهِ، وَلَكِنِ انظُرْ إِلى مِقدَارِ مَا سَيُحدِثُهُ مِن وَقعٍ عَلَى القُلُوبِ، وَتَفَكَّرْ في مَدَى تَأثِيرِهِ عَلَى النُّفُوسِ، إِنَّ مِن سِمَاتِ العَطَاءِ الحَقِيقِيِّ أَلاَّ يَنتَظِرَ صَاحِبُهُ مِمَّن أَعطَاهُ أَيَّ مُقَابِلٍ قَلِيلاً كان أَو كَثِيرًا، وَأَن يُخلِصَ للهِ نِيَّتَهُ وَقَصدَهُ، وَيَطلُبَ مَا عِندَهُ وَحدَهُ، العَطَاءُ الحَقِيقِيُّ أَن يُعطِيَ المُؤمِنُ مِن دَاخِلِهِ وَأَعمَاقِ قَلبِهِ، دُونَ أَن يَشعُرَ أَنَّهُ مُرغَمٌ عَلَى ذَلِكَ أَو مَجبُورٌ، العَطَاءُ الحَقِيقِيُّ أَن تَكُونَ بِعَطَائِكَ أَفرَحَ مِنَ الآخِذِ بما أَخَذَ، أَلاَّ يَستَرِيحَ قَلبُكَ وَلا تَهدَأَ نَفسُكَ حَتَّى يَفرَحَ مَن حَولَكَ بما قَدَّمتَهُ لَهُم وَيَسعَدُوا بما وَهَبتَهُم، أَنْ تُعطِيَ مَا تُعطِي وَدُمُوعُ عَينِكَ أَسبَقُ من يَدِكَ، ذَاكَ هُوَ العَطَاءُ الصَّادِقُ.
الى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته