الواسع

 

الواسع

{وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

 

 

تأليف الدكتور / مسفر بن سعيد دماس الغامدي

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمـد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .  { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } { يـا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } { يا أيـها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }  أما بعد :

فهذه الحلقة الأولى في موضوع ( الواسع ) وستكون بعنوان :  التعريفات  

     الواسع : مشتق من السعة والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ،وتضاف أخرى إلى الإحسان وبسط النعم وكيف ما قدر وعلى أي شيء نزل فالواسع المطلق هو الله سبحانه وتعالى لأنه إن نُظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته بل تنفد البحار لو كانت مدادا لكلماته وإن نُظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وإن عظمت فتنتهي إلى طرف والذي لا ينتهي إلى طرف فهو أحق باسم السعة والله سبحانه وتعالى هو الواسع المطلق لأن كل واسع بالإضافة إلى ما هو أوسع منه ضيق وكل سعة تنتهي إلى طرف فالزيادة عليه متصورة وما لا نهاية له ولا طرف فلا يتصور عليه زيادة

    أما سعة العبد في معارفه وأخلاقه فإن كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه وإن اتسعت أخلاقه حتى لم يضيقها خوف الفقر وغيظ الحسد وغلبة الحرص وسائر الصفات فهو واسع وكل ذلك فهو إلى نهاية وإنما الواسع الحق هو الله تعالى وفي أسمائه سبحانه وتعالى (الواسع ) هو الذي وسع رزقه جميع خلقه ، و وسعت رحمته كل شيء ، وغناه كل فقر

  قال ابن الأنباري : الواسع من أسماء الله الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل . ويقال : الواسع المحيط بكل شيء من قوله : { وسع كل شيء علما } 

 وفي الحديث : ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم )

 وفي حديث آخر قاله ، : ( إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه ) وقال تعالى :        { لينفق ذو سعة من سعته } أي على قدر سعته

*وانا لموسعون

     قال تعالى : { وإنا لموسعون } أي قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي

  وإنا لموسعون أيضا على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار ، ولجج البحار ، وأقطار العالم العلوي والسلفي ، إلا وأوصل إليها من الرزق ، ما يكفيها ، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها . فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات ، وتبارك الذي وسعت رحمته ، جميع البريات

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الثانية في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها : *وكان الله واسعا حكيما

ﭧ ﭨ ﭽ                                 ﭿ                                                 

  أي واسع الفضل عظيم المن حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه ، وكان ولا يزال واسع الفضل والرحمة يوفق بين الأقدار، وبين المسببات والأسباب ،حكيما فيما شرعه من الأحكام ،جاعلها على وفق مصالح الناس.

   والله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا منهما من سعته وهو الواسع الحكيم فالمرأة يرزقها زوجا خيرا من زوجها الذي فارقته ، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيرا مما فارقها لتعذر الصلح بينهما

*السماء حجمها واسع وعالي ورفيع

  قال تعالى : { والسمآء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } ،

     والله أعمى أولئك المنكرون للبعث المكذبون بلقاء ربهم يوم القيامة فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى حجم السماء الواسع العالي الرفيع الكائن فوقهم وقد رفع بلا عمد ولا سند . وقد زينه خالقه بكواكب نيرة وأقمار منيرة وشموس مضيئة ولم ير في السماء من تصدع ولا شقوق ولا تفطر ؛ أليس القادر على خلق السماء قادر على إحياء موتى خلقهم وأماتهم بقدرته أليس القادر على الخلق ابتداء وعلى الإماتة ثانية بقادر على إحياء من خلق وأمات؟

*الله هو الواسع                                        قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقال تعالى  : {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقال : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وقال : {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

 قال ابن كثير: ومعنى قوله { إن الله واسع عليم } يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال                    وقال : الألوسي :وﭧ ﭨ ﭽ                        ﰇﰈ                أي وسع علمه كل ما كان شأنه أن يعلم فالشئ هنا شامل للموجود والمعدوم

  وقال الرازي : أما قوله : { والله واسع عليم } فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه ، لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها ، وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق  

 وهذا الاسم يشير إلي السمة الواحدة التي تفصيلها السعة المقترنة بالعلم، فهو من حيث هذه السمة لا تتناهى موارده ولا تـنـفد خزائنه ينفق كيف يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب، فهو يفيض على عباده مما لديه من أرزاق معنوية أو حسية؛ لطيفة أو كثيفة، فهو من حيث هذا الاسم يؤتى فضله من يشاء وفق ما اقتضته قوانينه وسننه أى وفق مقاييسه ومعاييره وموازينه هو سبحانه، ولما كان البشر يجهلون ذلك فإنهم يتعجبون دائما من اختياراته واصطفاءاته فقال بعضهم: (لولا نزِّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم)، وقال آخرون: (أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه)، وهؤلاء لم يكتفوا بجهلهم المطبق وإنما أساءوا الأدب مع ربهم وحاولوا أن ينتزعوا منه ما اختص به نفسه وما هو بالأصالة له، ولا يمكن لهم القيام به، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ولقضوا بأيديهم على أنفسهم، وما زال البشر إلى الآن ينازعون ربهم اختصاصاته ويحاولون أن يشاركوه في ملكه وأن يرجِّحوا تدبيرهم للأمور على تدبيره وأن يزعموا لأنفسهم من الكمالات ما هو بالأصالة له.

   وهذا الاسم يشير إلى إحاطته التامة بكافة الأطر الزمانية والمكانية وبكل ما يمكن أن يتوجه إليه كيان في كون من الأكوان، فهو يشير إلى إحاطته التامة بكل مطلق ومقيد. والواسع العليم هو الذي يؤتى الملك ويجود بالمغفرة ويضاعف الثواب لمن يشاء، ويؤتى فضله من يشاء، من عباده قصد بها الإنسان وجه ربه إلا وهى واصلة إليه، فإن له الإحاطة بالزمان والمكان واللطائف والكثائف والماديات والمعنويات .

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الثالثة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها : *سعة رزق الله

    أخرج ابن حبان بسنده من حديث ابن عمر قال لما نزلت {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : رب زد أمتي فنزلت {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : رب زد أمتي فنزلت { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } قال تعالى: { إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء} أي : يوسع على من يشاء في رزقه ويقتر على منيشاء،إنه خبير بعباده يعلم مصالحهم ويعلم ما يفسده السعة في الرزق ويصلحه التقتير، ومن يفسده التقتير وتصلحه السعة ، بصير بتدبيرهم وسياستهم .

 وقال تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } . هذه الآية ، روي أنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الدنيا والغناء ، فأنزل الله تعالى : {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } ، أي : ولو وسع عليهم لجازوا الحد الذي حده الله تعالى  لهم .{ ولكن ينزل بقدر ما يشآء } ، أي : يسهل لهم رزقا مقدرا يصلحهم وتصلح عليه أحوالهم .{ إنه بعباده خبير بصير } ، أي : ذو خبر بهم ، وذو علم يعلم من يصلحه التضييق وتفسده السعة في الرزق ، ومن يفسده التضييق وتصلحه السعة فيعطي كلا على قدر ما يصلحه، قال قتادة : كان يقال : خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك  

وقال ابن عباس : وإن من عباده عبادا لا يصلح لهم إلا البسط ولو صرفوا إلى غيره لكان شرا لهم وإن من عباده عبادا لا يصلح لهم إلا التقتير ولو صرفوا إلى غيره لكان شرا لهم

*أرض الله واسعة

ﭧ ﭨ ﭽ                                               ﮈﮉ   

           ﮎﮏ                 ﮗﮘ       ﮛﮜ     

 هذا الوعيد الشديد ، لمن ترك الهجرة ، مع قدرته عليها ، حتى مات . فإن الملائكة الذين يقبضون روحه ، يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم ، ولهذا قالت لهم الملائكة :  { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } وهذا استفهام تقرير ، أي : قد تقرر عند كل أحد ، أن أرض الله واسعة . فحيثما كان العبد في محل ، لا يتمكن فيه من إظهار دينه ، فإن له متسعا وفسحة من الأرض ، يتمكن فيها من عبادة الله كما قال تعالى : { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } . قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم :{ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا }

*وسع كرسيه السماوات والأرض

 ﭧ ﭨ ﭽ               ﮩﮪ          ﮯﮰ                 ﯘﯙ               ﯠﯡ             ﯧﯨ                    ﯰﯱ                 ﯵﯶ            ﯹﯺ         

 وهذا يدل على كمال عظمته  وسعة  سلطانه  إذا  كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتها وعظمة من فيها والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه إلا هو وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال فكيف بعظمة خالقها ومبدعها والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب  

وفي الأخبار  أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة،والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة

وفي رواية عطاء عن ابن عباس : أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كدراهم سبعة على الترس .

 وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول الكرسي هو العرش والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار

    إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الرابعة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها : * سعة حوض النبي صلى الله عليه وسلم

  أخرج الشيخان وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه لا يظمأ أبدا ) . وفي رواية ( حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من الورق ) ، وهي عندهما أيضا .                                        وأخرج ابن حبان بسنده أن يزيد بن الأخنس السلمي قال : يا رسول الله ، ما سعة حوضك ؟ قال : " كما بين عدن إلى عمان . . . " الحديث .

 *سعة رحمة الله

 قال تعالى :                             ﭜ ﭝ                                                                  ﭨﭩ                        

 قوله تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء } آية عظيمة الشمول والعموم كقوله تعالى إخبارا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما }

 وأخرج الإمام أحمد بسنده من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا لا تشرك في رحمتنا أحد فقال رسول الله صلى الله  عليه وسلم :  (لقد حظرت رحمة واسعة إن الله عز وجل خلق مئة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها وأَخرَ عنده تسعا وتسعين رحمة)   

قال السعدي : من العالم العلوي والسفلي ، والبر والفاجر ، المؤمن والكافر . فلا مخلوق ، إلا قد وصلت إليه رحمة الله ، وغمره فضله وإحسانه ، ولكن الرحمة الخاصة ، المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة،ليست لكل أحد

ثبت في الحديث الصحيح أن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع ، وأن جميع ما أودعه في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى)

*تفسير صفة الرحمة على مذهب السلف

 إن صفة الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة .... ؛ فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات  الخلق  الثابت  عقلا  ونقلا  بقوله  عز  وجل :  { ليس كمثله شيء}   فنقول : إن لله علما حقيقيا هو وصف له ، ولكنه لا يشبه علمنا ، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لا يشبه سمعنا ، وإن له رحمة حقيقية هي وصف له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس ، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى فنجمع بذلك بين النقل والعقل  

 وقال الشيخ محمد عبده : إن جانب الرحمة أغلب في هذه الدار الفانية الزائلة عن قرب من جانب العقوبة والغضب ، ولولا  ذلك لما  عمرت  ولا  قام  لها  وجود    كما قال تعالى : {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة}  وقال : {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}  فلولا سعة رحمته ومغفرته وعفوه لما قام العالم . ومع هذا فالذي أظهره من الرحمة في هذه الدار وأنزله بين الخلائق جزء من مائة جزء من الرحمة ، فإذا كان جانب الرحمة قد غلب في هذه الدار ونالت البر والفاجر والمؤمن والكافر مع قيام مقتضى العقوبة به ومباشرته له وتمكنه من إغضاب ربه والسعي في مساخطته ، فكيف لا يغلب جانب الرحمة في دار تكون الرحمة فيها مضاعفة على ما في هذه الدار تسعا وتسعين ضعفا ، وقد أخذ العذاب من الكفار مأخذه  وانكسرت تلك النفوس وأنهكها  العذاب  وأذاب  منها  خبثا  وشرا

لم يكن يحول بينها وبين رحمته لها في الدنيا . بل كان يرحمها مع قيام مقتضى العقوبة والغضب بها ، فكيف إذا زال مقتضى الغضب والعقوبة وقوي جانب الرحمة أضعاف أضعاف الرحمة في هذه الدار . واضمحل الشر والخبث الذي فيها فأذابته النار وأكلته ؟ وسِرْ الأمر أن أسماء الرحمة والإحسان أغلب وأظهر وأكثر من أسماء الانتقام . وفعل الرحمة أكثرمن فعل الانتقام . وظهور آثار الرحمة أعظم من آثار الانتقام ، والرحمة أحب إليه من فعل الانتقام . وبالرحمة خلق خلقه ولها خلقهم ، وهي التي سبقت غضبه وغلبته وكتبها على نفسه ووسعت كل شيء وما خلق بها فمطلوب لذاته وما خلق بالغضب فمراد لغيره كما تقدم تقرير ذلك ، والعقوبة تأديب وتطهير ،والرحمة إحسان وكرم وجود ، والعقوبة مداواة . والرحمة عطاء وبذل .

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الخامسة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها : * الأدلة الدالة على رحمة الله تعالى وسعتها

وهي كثيرة في الكتاب والسنة، فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
 وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}

وقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }

وقوله تعالى: {الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ }     

ومما يدل على سعة رحمته قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}  

 ومما ورد في السنة الصحيحة من سعة رحمة الله تعالى وعظمها:
   ما رواه أبو داود وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم: ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ )
    وروى البخاري في صحيحه عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا ؟فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ : (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ) فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ).
    وعند البخاري أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي.)
     وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى ا  للَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ.)
    وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً..)
    وروى البخاري في صحيحه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ ) قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا.)
    وروى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ )
وصف الله تعالى رحمته بأنها { وسعت كل شيء } فقال بعض العلماء هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله { كل شيء } والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم وقال بعضهم هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنيوية   

 وقال الرازي عند هذه الآية : { ورحمتى وسعت كل شىء } هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل ، وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله : { فسأكتبها للذين يتقون }

وقال ابن كثير : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة السادسة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها :*سعة الجنة

  قال ابن القيم في ( حادي الأرواح ) : والجنة مقببة ، أعلاها أوسعها ووسطها وهو الفردوس ، وسقفه العرش كما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : "

  ( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة )

  فإن قيل : فالجنة جميعها تحت العرش ، والعرش سقفها ، فإن الكرسي وسع السماوات والأرض ، والعرش أكبر منه ، فالجواب : لما كان العرش أقرب إلى الفردوس مما دونه من الجنان بحيث لا جنة فوقه دون العرش كان سقفا له دون ما تحته من الجنان لعظم سعة الجنة ، وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدنى إلى أعلى بالتدريج شيئا فشيئا درجة فوق درجة ، كما يقال لقارئ القرآن ( اقرأ وارق ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ) وهذا يحتمل شيئين : أن تكون منزلته عند آخر حفظه ، وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه

*تعدد درجات الجنة دليل على سعتها

يتفاضل الناس في الجنة كما يتفاضلون في الدنيا, كل بحسب إيمانه و عمله في الدنيا, بل إن تفاضلهم في الجنة أكبر و أعظم من تفاضلهم في الدنيا, فالجنة ليست بدرجة واحده, بل جنان متعددة تتفاوت في الحسن و النعيم و الجزاء, قال تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض و للآخرة اكبر درجت و أكبر تفضيلاً} ، و قال أيضاً  : { يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجت والله بما تعملون خبير}

   وعن أنس رضي الله عنه قال :  أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام, فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: يا رسول الله, قد عرفت منزلة حارثة مني, فإن يك في الجنة أصبر و أحتسب, و إن يك الآخرة ترى ما أصنع ؟!, قال صلى الله عليه وسلم : ( ويحك, أو هبلت, أو جنة واحده هي ؟ إنها جنان كثيرة , و إنه لفي جنة الفردوس )

و في الجنة مائة درجة, بين كل درجة و درجة كما بين السماء و الأرض, و في كل درجة منها من النعيم ما هو أكثر و أعظم مما في التي دونها, و إن كانت مفتوحة بعضها على بعض بحيث يتزاورون أهل الدرجات و يلتقي بعضهم ببعض كما هو الحال في الدنيا,  يلتقي الفقير  مع الغني  و الغني  مع  من هو أغنى منه, والفقير مع من هو أفقر منه, ولكن لكل منهم حياته الخاصة في طبقته.
  قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء و الأرض, فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس, فإنه أوسط الجنة و أعلى الجنة, و فوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة ).
وقال: صلى الله عليه وسلم :( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم , كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب , لتفاضل ما بينهم) فالناس في الآخرة يتفاضلون لا بأشكالهم و أجناسهم و أحسابهم و أموالهم و مناصبهم, إنما يتفاضلون بقدر إيمانهم و أعمالهم الصالحة.

   نزل القرآن الكريم في قوم بلغوا الغاية في تذوق بليغ الكلام، فأعجزهم وأسرتهم بلاغته، فهابوه وتخفوا ليسمعوه، ورغم شدة الحرص على النيل منه لم يطعنوا في بلاغته, وفي قوله تعالى: {وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} وقوله تعالى: {سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ} ؛ معلوم أن وصف الكون الممكن النظر هو بالنسبة للناظر من سطح الأرض، فيشمل كل ما يعلوه ويدنوه، وحينئذ لن تبدو الأرض أقل سعة من القبة السماوية التي تمثل في مرأى العين نصف الوجود, والمضمون هو الترغيب في الطاعة بحسن الجزاء وسعة الجنة إلى حد تجاوز أحلام ورغبات البشر في النعيم والامتداد, وهل يوجد أجمل وأبلغ من هذا التمثيل في القرآن الكريم لبيان أن عرض الجنة أشبه ما يكون بعرض كل الكون الممكن النظر بسمواته وأرضه في مقام المبالغة في السعة!؛ فما بالك بالطول وهو ولا شك أكبر من العرض!, فهل يستقيم إذن في مقام بيان الشمول لكل موجود أعلى ودون المخاطب إهمال الأرض!, والجنة لا مثيل لسعتها في الدنيا إلا سعة السماوات والأرض جميعا، ومن يحاسب على مثل حبة خردل لا يهمل قطعا كوكبا!.                  وفي القرآن الكريم: {وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} أو: {وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ}  ؛ يستقيم بالمثل أن يعبر بأكبر عرض بيانا لأبلغ سعة, ولا يصلح التعبير عن العالم بأسره بالسماوات دون الأرض وإن كانت أقل سعة، كما لا يصلح التعبير عن الصحابة بالأنصار دون المهاجرين وإن كانوا أقل عدداً.
 وقال الألوسي: "إذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفاً بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى، فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه"

 وقال أبو حيان: "لما كانت الجنة من الاتساع في الغاية القصوى، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس.. وخصَّ العرض؛ لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة.. تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة"

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة السابعة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها إستكمالا للحلقة الماضية والتي هي بعنوان:    *سعة الجنة

 وقال الشيخ محمد سيد طنطاوي: "وصف سبحانه الجنة بأن عرضها (السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) على طريقة التشبيه؛ بدليل التصريح بحرف التشبيه في قوله تعالى: (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ).. والمقصود المبالغة في وصف السعة للجنة؛ لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما, ونظيره قوله تعالى: "خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ", فإن أطول الأشياء بقاءً عندنا هو السماوات والأرض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه، فكذا هنا, وخصَّ سبحانه العرض بالذكر ؛ ليكون أبلغ  في الدلالة على عظمها

واتساع طولها, لأنه إذا كان عرضها كذا فإن العقل يذهب كل مذهب في تصور طولها، إذ العرض أقل من الطول, وذلك كقوله تعالى في صفة فرش الجنة {مُتّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } , لأنه إذا كانت بطانة الفرش من الحرير فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين!"

*سعة أبواب الجنة

 عن أبي هريرة قال وضعت بين يدي رسول الله قصعة من ثريد ولحم فتناول الذراع وكان أحب الشاة إليه فنهش نهشة وقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة ثم نهش أخرى وقال أنا سيد الناس يوم القيامة فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال ألا تقولون كيف" قالوا كيف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقوم الناس لرب العالمين فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر" فذكر حديث الشفاعة بطوله وقال في آخره "فانطلق فأتي تحت العرش فاقع ساجدا لربي فيقيمني رب العالمين مقاما لم يقمه أحدا قبلي ولن يقيمه أحد بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقول يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجرا أوهجر ومكة".متفق على صحته.

وفي لفظ خارج الصحيح بإسناده إن ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر.

 

       فأما سعة هذه الأبواب فلا يمكن تخيلها , تلك الأبواب التي بين رسول الله عليه الصلاة والسلام سعتها كما روى لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ومابين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتين عليه يوم وله كظيظ ) .
   وفي حديث الشفاعة الطويل يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفسي بيده إن مابين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى) .                                    قال ابن القيم : ولما كانت الجنات درجات بعضها فوق بعض كانت أبوابها كذلك وباب الجنة العالية فوق باب الجنة التي تحتها وكلما علت الجنة اتسعت , فعاليها أوسع مما دونه وسعة الباب بحسب وسع الجنة ولعل هذا وجه الاختلاف الذي جاء في مسافة مابين مصراعي الباب فإن أبوابها بعضها أعلى من بعض ولهذه الأمة باب مختص بهم يدخلون منه دون سائر الأمم كما في المسند من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب ثلاثا ثم إنه ليضغطون حتى تكاد مناكبهم تزول )  

*سعة النفقة

 قال ابن كثير : قال تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } وأخرج الطبراني بسنده من حديث أبي مالك الأشعري واسمه الحارث قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : (ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار وكان لآخر عشر أواق فتصدق منها بأوقية وكان لآخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر أواق  فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( هم في الأجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله قال الله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته}

وقال السمعاني : وقوله تعالى  : { لينفق ذو سعة من سعته } أي : بمقدار سعته ، وهو حث على التوسع في النفقة لمن وسع الله عليه .

 وقال الطاهر ابن عاشور في تفسيره : والسعة : هي الجدة من المال أو الرزق .

   والإنفاق : كفاية مئونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يحتاج إليه .

   و{ من } من قوله { فلينفق مما آتاه الله } تبعيضية . ومعنى { قدر عليه رزقه } جعل رزقه مقدورا ، أي محدودا بقدر معين  وذلك  كناية  عن  التضييق وضده يرزقون فيها بغير حساب ، يقال : قدر عليه رزقه ، إذا قتره ، قال تعالى { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } والرزق : اسم لما ينتفع به الإنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل . سواء كان أعيانا أو أثمانا . ويطلق الرزق كثيرا على  الطعام  كما  في  قوله تعالى  { وجد عندها رزقا } ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد .

   وإنما اختلفوا في التوسع في الإنفاق في مال المؤسر هل يقضي عليه بالتوسعة على من ينفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافا في أحوال الناس وعوائدهم ولا بد من اعتبار حال المنفق عليه ومعتاده ، كالزوجة العالية القدر .

والمقصود منه إقناع المنفق عليه بأن لا يطلب من المنفق أكثر من مقدرته . ولهذا قال علماؤنا : لا يطلق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف ، أي دون ضر .

     إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الثامنة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها بعنوان:   * لايكلف الله نفسا إلا وسعها

 قال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } أي لا يكلف أحدا فوق طاقته وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان  

 وقال البغوي : ظاهر الآية قضاء لحاجته وفيها إضمار السؤال كأنه قال وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا وأجاب أي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس  الذي  ذكر  في  قوله  { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه }  كما ذكرنا .

 وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : هم المؤمنون خاصة وسع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال الله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج}وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}قال إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قوله حسن لأن الوسع ما دون الطاقة

*الصبر خير وأوسع الأرزاق

 روى البخاري ومسلم و مالك وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه (من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطى الله أحدا عطاء هو خير وأوسع من الصبر)  

 و الصبر أفضل ما أعطي المؤمن، ولذلك كان الجزاء عليه غير مقدر، قال تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } .

  هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول يجعل خير العطاء وأوسعه نعمة الصبر التي ينعم بها الخالق جل جلاله على من يحب من عباده . وهذا العطاء لا يحظى به إلا ذو حظ عظيم لقوله تعالى : { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذوحظ عظيم }

فما هي حقيقة هذا الصبر في دين الله عز وجل ؟ من الناحية اللغوية الصبر هو حبس ومنع النفس سواء تعلق الأمر بما تريده أو بما تكرهه.

 إن النفس البشرية تتحكم فيها قوتان : قوة الإقدام ، وقوة الإحجام ، فقوة الإقدام مطلوبة في الأوامر ، وقوة الإحجام مطلوبة في النواهي ، واستعمال القوتين معا هو الصبر. والناس باعتبار الصبر أصناف ثلاثة : صنف يصبر على الأوامر والنواهي معا ، وصنف لا يصبر عليهما معا ، وصنف يصبر على إحداهما دون الأخرى . ولا ينجو من الناس إلا الصنف الأول . وقد يشكل أمر الصبر على الناس فيسمونه بأسماء متعددة لأنه يتعلق بكل السلوكات البشرية. فعلى سبيل المثال يعتبر صابرا حابس النفس أو مستعمل قوة الإحجام عن شهوة الفرج غير المباحة ويسمى عفيفا ، وصبره هو العفة المقابلة للفجور، والشجاع صابر وصبره الشجاعة المقابلة للخور، والجواد صابر وصبره الجود المقابل للشح والبخل ، والعفو صابر وصبره العفو المقابل للانتقام ، وهكذا نجد الصبر في كل سجية محمودة تقابلها رذيلة مذمومة. فكما يكون حبس الإنسان نفسه على سجية محمودة صابرا ، يكون بالضرورة حابسها عن الرذيلة المذمومة صابرا أيضا وفق قانون مقابلة الخير للشر الذي يحكم الكون الذي خلقه الله عز وجل ليكون فيه الصراع بين النقيضين ، والغلبة للخير في نهاية المطاف . والناس متفاوتون في قوة الصبر التي أودعها الله عز وجل فيهم ، ففيهم الصابر طبيعة وجبلة ، ومن لم يكن كذلك يمكنه أن يكتسب الصبر من خلال تكلفه ، وهو التصبر إذ ينقله التصبر أو تكلف الصبر إلى حالة الصبر ، وهو ما أشار إليه الحديث الشريف : " من يتصبر يصبره الله " بمعنى الذي يتكلف الصبر يصير الصبر عنده طبيعة بعد تكلفه تماما كما يصير متكلف العلم وهو المتعلم عالما لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما العلم بالتعلم " . وأعلى درجات التصبر الاصطبار ، وهو طلب الصبر ، ثم المصابرة وهي مواجهة في الصبر وبالصبر. ولما كانت نعمة الصبر خير العطاء وأوسعه فقد اتخذه الله عز وجل صفة حسنة من صفاته الحسنى حيث تسمى بالصبور ، وهو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى فعل قبل أوانه ، كما أنه هو الذي ينزل الأمور بقدر معلوم ويجريها على سنن محدودة لا يؤخرها عن آجالها المقدرة تأخير تكاسل ولا يقدمها تقديم استعجال. وللإنسان عبرة في هذه الصفة الحسنة إذ لا بد أن يكون صبر الإنسان على العبادة بقدر معلوم بلا تكاسل ولا استعجال . وحقيقة الحظ العظيم الذي يدركه الإنسان بالصبر هو محبة الله عز وجل له لقوله تعالى : { والله يحب الصابرين}، ومعية الله تعالى لقوله جل من قائل : { واصبروا إن الله مع الصابرين } ، ومرتبة الإمامة والقيادة لقوله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } . وجعل الله تعالى نعمة الصبر وسيلة يستعان بها على العبادة فقال جل من قائل :  {واستعينوا بالصبر والصلاة } وقد قدم الصبر على الصلاة كوسيلة يستعان بها ومن ضياء الصبر تستمد الصلاة نورها. ومصير البشرية رهين بالصبر لهذا أقسم الله عز وجل قسمه العظيم بأن الخسران مصير محتوم لمن خانه الصبر في قوله تعالى :{ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}

     إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة التاسعة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها بعنوان:  

*من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه

  أخرج الإمام أحمد يسنده من حديث عبد الله بن عمروقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه) صحيح الترغيب – للألباني ـ الرقم: 273  خلاصة حكم المحدث: حسن لغيره 

 وعن عبيد الله الخولاني : أنه سمع عثمان بن عفان يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم  :  (  إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة ) رواه البخاري و مسلم

قال النووي : يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم (مثله) أمرين:

أحدهما : أن يكون معناه بني الله تعالى له مثله في مسمى البيت وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها أنها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

   الثاني : أن معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا . اهـ

    وقال الشوكاني : وقد اختلف في معنى المماثلة فقال ابن العربي : مثله في القدر والمساحة ويرده زيادة (بيتا أوسع منه )عند الطبراني من حديث ابن عمر . وروى أحمد أيضا من طريق واثلة بن الأسقع بلفظ ( أفضل منه ) وقيل مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء ويرده أن بناء الجنة لا يخرب بخلاف بناء المسجد فلا مماثلة

      وقال الحافظ : لفظ المثل له استعمالان : أحدهما الإفراد مطلقا كقوله تعالى : { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } . والآخر المطابقة كقوله تعالى { أمم أمثالكم } فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله مثله مع أن الحسنة بعشر أمثالها لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشر أبنية مثله ، وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ففيه بعد . وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة قال : ومن الأجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية والزيادة حاصلة بحسب الكيفية فكم من بيت خير من عشرة بل من مائة وهذا الذي ارتضاه هو الاحتمال الأول الذي ذكره النووي . وقيل إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة . قال في المفهم : هذا البيت والله أعلم مثل بيت خديجة الذي قال فيه إنه من قصب يريد إنه من قصب الزمرد والياقوت .
  وهي تعني المثلية في الكم لا في الكيف ؛ لأن موضع شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما ورد بذلك الخبر عن الصادق المصدوق.
     وهذا شامل لكل مسجد صغيرًا كان أو كبيرًا، أو كان بعض مسجد ، فالحديث هنا جاء من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء، فالمسهم مع غيره في بناء مسجد والمجدد له ومن أدخل توسعةً عليه يكون داخلاً في مضمون الحديث السابق، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أحاديث صحيحة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله   :من بنى لله مسجدًا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة)
وهذا بالطبع لا يحصل إلا بمشاركة جماعة في بناء مسجد تكون حصة الواحد منهم قدرًا معينًا.
وقوله : (ولو كمفحص قطاة) مفحص القطاة موضع بروكها على بيضها، وهو مشتق من الفحص أي البحث، فالدجاجة والقطاة تفحص في الأرض برجليها لتتخذ لنفسها مفحصاً تبرك فيه أو تبيض فيه ، والقطاة : نوع من الحمام الصحراوي
ومعلوم أن ذلك المكان صغير جدًا، ومفحص القطاة لا يمكن بحال أن يتسع لمصلي، فدل على أن أيّ تبرع يُسهم في بناء مسجد موعودٌ صاحبه ببيت في الجنة، والمقصود ألا يحتقر أحد مساهمته في بيت الله ولو كان السهم الذي دفعة للمسجد يبلغ أن يكون مقداره بالنسبة للمسجد بهذا المقدار الصغير لموضع بيض القطاة ، حتى لا يحتقر أحد ما أنفقه من المال لبناء مسجد ، وقد يدخل في ذلك من ساهم في بنائه ، أو عمل فيه بيده، أو دفع أجرة العاملين، ونحو ذلك من العمل الذي ينسب إلى صاحبه أنه ساعد في بناء المسجد بنفسه أو ماله، احتسابا وطلبا للأجر المرتب على ذلك، وهو أن يبني الله له مثله، أو أوسع منه في الجنة. حيث إن البيت في الجنة لا يقاس بما في الدنيا، ولا نسبة بينهما، وذلك مما يدفع من وسع الله عليه إلى المسارعة في الخيرات، واغتنام الفرصة في هذه الحياة، فيقدم لآخرته ما يجد ثوابه مضاعفا عند ربه أضعافا كثيرة.
  ولا ننس أن كل من يشارك في هذا المسجد فله أجر كل من يصلي ويتعبد ؛كل تال للقرآن ؛كل معتكف ؛كل مهتد إلى الإسلام أو تائب إلى الله ، فأنت أيها المساهم قسيمه في الأجر ، في الجمع والجماعات في الخطب والمحاضرات ، وأجرك باق ما بقي البناء وعم النفع ، ومن المفارقات العجيبة أن للمنفق أن يحصل على أجر زكاة المال بالإضافة للصدقة الجارية فلا ينقطع الجزاء ....

 إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة العاشرة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها بعنوان:*المسكن الواسع من سعا دة الدنيا

     أخرج ابو داود بإسناده من حديث إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن سعد أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( سعادة ابن آدم ثلاث وشقاوة ابن آدم ثلاث ؛ فمن سعادة بن آدم : الزوجة الصالحة ، والمركب الصالح ،والمسكن الواسع  ـ أو قال ـ والمسكن الصالح وشقاوة ابن آدم ثلاث المسكن السوء والمركب السوء والزوجة السوء )

     وأخرج البخاري بسنده من حديث نافع بن عبد الحارث عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال : ( من سعادة المرء المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهني)  

 وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه  ، وأخرجه الصنعاني في فتح الغفار ثم قال : رواه أحمد ورواته رواة الصحيح ،وهوفي مسند الإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع  وأخرجه ابن حبان في الصحيح

     فمن رزق الصلاح في الأشياء المذكورة طاب عيشه ، وسعد ببقائه ، لأن هذه الأمور مما يريح الأبدان والقلوب ، ويجعل الحياة مريحة أكثر .
 ويشرع للإنسان أن يسأل ربه السعة في المسكن ، لما روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دعا في ليلة فقال  :

 (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي)  

 والوسع في السكن أمر نسبي !  بمعنى أنه يختلف باختلاف الناس في نفوسهم وطبائعهم وأنماط حياتهم . لكن تبقى صفة السعة صفة محمودة تجلب السعادة لأهلها ، وبقدر ما يوجد الوسع بقدر ما تزيد السعادة . والنفس مفطورة على حب السعة والتوسع

   أضف إلى أن الوسع في المنزل مطلب جمالي ،والله جل وعلا ( جميل يحب الجمال ) . ويبقى الجمال في السعة رونقا للسعادة حين لا يتعدى فيصل إلى غمط الناس والتفاخر والتعالي عليهم .
   ومع زيادة متطلبات الحياة . وتغير نمط الروتين في الحياة ؛ وتوسع دائرة المعارف والأحبة والأصحاب يجعل المسكن الواسع  مطلب  ملح  وعلامة  من  علامات السعادة . .

*دار البرزخ  أوسع من هذه الدار وأعظم

  قال المحقق ابن القيم  : وما أشبه حالها بهذا البدن بحال البدن في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار فلهذه الأنفس أربعة دور كل دار أعظم من التي قبلها :

( الدار الأولى ) بطن أمه وذلك الضيق والحصر والظلمات الثلاث .                                       ( الدار الثانية ) هذه الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت الخير أو الشر وأسباب السعادة والشقاوة فيها

( الدار الثالثة ) دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الدار الأولى

( الدار الرابعة ) دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها ، والله تعالى ينقل الروح في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح له غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل إليها ، ولها في كل دار من هذه الدور شأن غير شأن الدار الأخرى ، فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومسعدها ومشقيها ، وبالله التوفيق .

*تبارك الذي وسع سمعه كل شيء

عن عروة بن الزبير قال : قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول :" يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك" فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } صحيح الارواء 175/7.حكم الشيخ على الحديث : بالصـحـة.

 وعن عروة عن عائشة قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن امرأة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمع بعض كلامها ويخفي علي بعض إذ أنزل الله عز وجل‏.‏ { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها‏.‏ }

 إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

فهذه الحلقة الحادية عشرة في موضوع ( الواسع ) وسيكون موضوعها بعنوان:*صلة الرحم توسع الرزق

 أخرج البخاري بسنده من حديث  أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن يبسط له في رزقه و ينسأ له في أثره فليصل رحمه)

وقال البخاري : باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم

وبسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه) )

 وقال ابن حجر : أي التوسع في الرزق وجواب من محذوف تقديره ما في الحديث  وهو فليصل رحمه ) ويستفاد منه جواز هذه المحبة خلافا لمن كرهها مطلقا ))

     وقال النووي : ينسأ مهموز أي يؤخر والاثر الاجل لانه تابع للحياة في أثرها وبسط الرزق توسيعه وكثرته وقيل البركة فيه واما التأخير في الاجل ففيه سؤال مشهور وهو أن الآجال والارزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } وأجاب العلماء بأجوبة :

الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك .

والثاني أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فان وصلها زيد له اربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى { يمحو الله ما يشاء  ويثبت } فيه النسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدره ولا زيادة بل هي

مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث

والثالث أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت .

 واختلفوا في الرحم ، فقيل : كل ذي رحم محرم . وقيل : وارث . وقيل : هو القريب ، سواء كان محرما أو غيره ، ووصل الرحم تشريك ذوي القربى في الخيرات ، وهو قد يكون بالمال وبالخدمة وبالزيارة ونحوها . وقال عياض : لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة ، وقطيعتها معصية كبيرة ، والأحاديث تشهد لهذا ، ولكن للصلة درجات بعضها أرفع من بعض ، وأدناها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسلام ، ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة ، فمنها  واجب ، ومنها مستحب . ولو وصل بعض الصلة ولم يصل غايتها لا يسمى قاطعا ، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له أن يسم واصلا .

*وسع الناس ببسط الوجه وحسن الخلق لا بالمال

    أخرج أبو بكر بن أبي شيبة بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق )  ورواه أبو يعلى وصححه الحاكم

 استحقاق الملك بالبسطة في العلم والجسم لابسعة المال

      قال المرادي : قال تعالى : {ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } ،فأجابهم الله تعالى بأن استحقاق الملك ليس بالمال إنما هوبالاصطفاء  والبسطة في العلم والجسم فقال : { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسما والله يؤتى ملكه من يشآء }

 فكذلك هنا أجابهم الله تعالى بقوله : { إني أعلم ما لا تعلمون } إجمالا ثم فصله بقوله : { إن الله اصطفى ءادم } ، وبقوله : { وعلم ءادم الاسمآء كلها } .

*قلبه صلى الله عليه وسلم أوسع قلب اطلع الله عليه

 سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : (كان خلقه القرآن يغضب بغضبه ويرضى برضاه .)

    وتفصيله أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتصف بكل صفة حميدة مذكورة فيه ويجتنب عن كل خصلة ذميمة مسطورة فيه ، كما قال الشاطبي رحمه الله في وصف القراء :

    أولو البر والإحسان والصبر والتقى  

     حلاهم  بها  جاء  القرآن  مفصلا

     عليك بها ما عشت فيها منافسا  

     وبع نفسك  الدنيا بأنفاسها  العلى  

  وهذا يحتاج إلى تحقيق العلم بمعاني القرآن ،

 والتوفيق للعمل بما فيه من جانب الرحمن ، ثم الإخلاص المقرون بحسن الخاتمة بالموت على الإيمان ، وجملته أن كمال حسن الخلق فيما بين الخلق على قدر سعة القلب وشرح الصدر ومن ثمة ورد أن قلبه - صلى الله عليه وسلم - أوسع قلب اطلع الله عليه ، ولذا لم يكن أحد من الأولياء على قلبه وإن كان مقربا عند الله ولديه

إلى هنا ونكمل في الحلقة القادمة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

  فهذه الحلقة الثانية عشرة في موضوع ( الواسع )    وسيكون موضوعها بعنوان:*التفسح  والتوسع في المجالس

                   ﭧ ﭨ                                                 ﯿ        ﰂﰃ                             ﰐﰑ               

 وأخرج  البخاري  ومسلم  من  حديث  ابن عمر قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقام الرجل من مجلسه , ويجلس فيه , ولكن تفسحوا وتوسعوا )     

  قال السعدي : هذا تأدب من الله لعباده ، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ، واحتاج بعضهم ، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس ، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود . وليس ذلك بضار للفاسح شيئا ، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه ، والجزاء من جنس العمل ، فإن من فسح لأخيه ، فسح الله له ، ومن وسع لأخيه ، وسع الله عليه

 وقال ابن كثير :يقول تعالى مؤدبا عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } وقرئ{ في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم } وذلك أن الجزاء من جنس العمل

 وقدأخرج الإمام أحمد والشافعي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع به ،

*وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته

  قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته }    قال القرطبي : أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه وللمرأة من يوسع عليها وروى عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر فأمره بالطلاق فسئل عن هذه الآية فقال : أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية : {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت : فلعله من أهل هذه الآية {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته}

   وقال الألوسي : { وإن يتفرقا } أى المرأة وبعلها وقرىء {يتفارقا } أى وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق { يغن الله كلا } منهما أى يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ماأهمه وقيل يغنى الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر { من سعته } أى من غناه وقدرته وفى ذلك تسلية لكل من الزجين بعد الطلاق                                                           

إلى هنا تم هذا البحث الجميل ( الواسع ) أسأل الله أن يجعله علماً نافعاً وعملاً صالحاً ، إن اصبت فيه فمن الله وإن  اخطأت  فمن نفسي والشيطان  وأستغفر الله ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه أجمعين .