الهداية
الهداية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا اله الا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران/ 120 وبعـــــد :
فهذه الحلقة الأولى في موضوع الهداية وستكون بعنوان : تعريفات
*معنى الهدى في القرآن الكريم
الشرائع السماوية كافة جاءت لهداية الناس إلى الدين الحق، وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، ومن هنا كانت الهداية محور عمل الأنبياء جميعاً، وملتقى كتب السماء كافة.
والمعنى اللغوي يفيد معنى الإرشاد والدلالة
والمسلم يطلب الهداية إلى الطريق المستقيم صباح مساء فيقول: {اهدنا الصراط المستقيم}، أي: أرشدنا يا الله إلى طريق الحق والصواب، ودلنا على ما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة.
وقال الراغب: الهداية: دلالة بلطف، ومنه الهدية.
وأما من جهة توارد هذه اللفظ في القرآن فحدث ولا حرج، فإن القرآن الكريم بلغ الغاية في الاهتمام بموضوع الهدى والهداية والاهتداء؛ ولذلك تعددت اشتقاقات هذا اللفظ في القرآن، حيث جاء في نحو خمسين ومائتي موضع، وجاء بصيغ متعددة ومتنوعة.
فجاء اسماً بتصرفات مختلفة في خمسة وعشرين ومائة موضع، منها قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة:2). وقوله سبحانه: {وكفى بربك هاديا ونصيرا} (الفرقان:31)، وقوله سبحانه: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} (الإسراء:48) .
وجاء فعلاً مضارعاً بتصرفات مختلفة في تسعة وأربعين موضعاً، منها قوله سبحانه: {ويهدي به كثيرا} (البقرة:26)، وقوله سبحانه: {إلا أن يُهدى} (يونس:35). وقوله تعالى: {ولا يهتدون سبيلا} (النساء:98).
وجاء فعلاً ماضياً بتصرفات مختلفة في سبعة وثلاثين موضعاً، منها قوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} (البقرة:143)، وقوله سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد:17)، وقوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} (الحج:24) .
وجاء فعل أمر في ثلاثة مواضع: أولها: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6). وثانيها: قوله سبحانه: {واهدنا إلى سواء الصراط} (ص:22). وثالثها: قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات:23) .
وهذا التوارد الكثيف والمتنوع لهذا اللفظ يُنبئ بمحوريته في القرآن الكريم .
وأما من جهة المعاني التي ورد عليها لفظ (الهدى) في القرآن، فهي كالتالي:
بمعنى البيان، وبمعنى دين الإسلام، وبمعنى الإيمان،
وبمعنى الدعوة إلى الله، وبمعنى الدلالة والإرشاد،
وبمعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وبمعنى القرآن،
وبمعنى التوراة، وبمعنى التوحيد، وبمعنى نهج الأنبياء السابقين، وبمعنى الإلهام، وبمعنى التسديد والتصويب،
وبمعنى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعنى الرشد،
وبمعنى التفضيل، وبمعنى التقديم، وبمعنى الموت على الإسلام، وبمعنى التعليم
وإذا أنعمنا النظر في معاني (الهدى) التي جاءت في القرآن الكريم، تبين في المحصلة أنها تعود إلى معنى الإرشاد؛ إذ إن هذا المعنى هو المعنى الأساس الذي تلتقي عليه، وتدور حوله كل تلك المعاني إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثانية في موضوع الهداية وستكون بعنوان : الهدى في القرآن على أربعة عشر وجها:
ـ أحدها: الثبات. ومنه: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)
ـ والثاني: البيان. ومنه: (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)
ـ والثالث: الرسول. ومنه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى)
ـ والرابع: محمد ـ ـ. ومنه: (مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى).ـ والخامس: السنة. ومنه: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) .ـ والسادس: الإصلاح. ومنه: (لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)
.ـ والسابع: الدعاء. ومنه: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)
ـ والثامن: القرآن. ومنه: (أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى)
ـ والتاسع: الإيمان. ومنه: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)
ـ والعاشر: الإلهام. ومنه: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
ـ والحادي عشر: الموت على الإسلام. ومنه: (وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)
ـ والثاني عشر: الإسلام. ومنه: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ)
ـ والثالث عشر: التوحيد. ومنه: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ)
ـ والرابع عشر: التوراة. ومنه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى) (المصمودي)
وقال الشنقيطي في أضواء البيان :
ورد لفظ الهدى وما اشتق منه في ثلاثمئة وخمسة موضعا، في اثنتين وستين سورة من سور القرآن الكريم، ذكر فيها علماء الوجوه والنظائر ثمانية وعشرين وجها، مع اختلاف بينهم في معنى اللفظ في الآية الواحدة ، وهذه الأوجه، هي:
البيان - التوفيق - الإرشاد - الدليل - الدعاء - دين الإسلام - الإيمان - التوحيد - الرسل والكتب - القرآن - التوراة - السّنة - الإلهام - الإصلاح - الثبات - المعرفة - الاستبصار - التعليم - التقديم - الفضل - الثواب - الصواب - الإذكار - الموت على الإسلام - أمر النبي - الاسترجاع - لا يهدي إلى الحجة - التوبة .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : (الهادي) اسم من اسماء الله الحسنى
قال تعالى ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج/54]
وقال عز وجل ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) [الفرقان/31، 32]
ومن أثبت هذا الأسم ( الهادي ) من السلف : عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
أخرج مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِى خُطْبَتِهِ : "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِى ... " وهذا جاء في موطأ مالك - (ج 5 / ص 299) في باب النَّهْىِ عَنِ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ. وأثبته ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك رحمهم الله تعالى وهذا جاء في تفسير الطبري - (ج 16 / ص 354)
وأثبت الاسم لله تعالى: شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 2/18 حيث قال: ومن أسمائه: الهادي
وأثبته كذلك: الشيخ السعدي رحمه الله .. وأيضا الشيخ سعيد القحطاني في جمعه للأسماء .. وقد أقر جميع ما فيه من الأسماء الشيخ ابن باز رحمه الله.
ومن العلماء والمحدثين الإمام مالك بإيراده هذا الأثر ، والخطابي في(شأن الدعاء) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات الصفات والبيهقي في (الأسماء والصفات والاعتقاد)
،واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ،وابن بطة العكبري الحنبلي في الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية
والهادي:هو الذي يهدي عباده ويرشدهم،ويدلهم إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم، وهو الذي بهدايته اهتدى أهل ولايته إلى طاعته ورضاه، وهو الذي بهدايته اهتدى الحيوان لما يصلحه واتقى ما يضره.
فالله هو الذي خلق المخلوقات وهداها {الذي خلق فسوّى *والذي قدّر فهدى}، فهداها الهداية العامة لمصالحها ،وجعلها مهيئة لما خُلقت له ،وهدى هداية البيان ،فأنزل الكتب وأرسل الرسل ،وشرع الشرائع والأحكام ،والحلال والحرام ،وبيّن أصول الدين وفروعه،وهدى وبيّن الصراط المستقيم الموصل إلى رضوانه وثوابه،ووضّح الطرق الأخرى ليحذرها العباد ،وهدى عباده المؤمنين هداية التوفيق للإيمان والطاعة ، وهداهم إلى منازلهم في الجنة كما هداهم في الدنيا إلى سلوك أسبابها وطرقها،فاسمه (الهادي)متناول جميع أنواع الهداية .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الرابعة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : أنواع الهداية
هو الذي هدى خواص عباده أولا إلى معرفة ذاته حتى استشهدوا بها على الأشياء وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته حتى استشهدوا بها على ذاته وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في قضاء حاجاته فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه وأحواها وأبعدها عن أن يتخللها فرج ضائعة وشرح ذلك يطول وعنه عبر قوله تعالى {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } سورة طه الآية50 ، وقال تعالى {والذي قدر فهدى } سورة الأعلى/ 3
والهداة من العباد : الأنبياء والعلماء الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الأخروية وهدوهم إلى صراط الله المستقيم بل الله الهادي لهم على ألسنتهم وهم مسخرون تحت قدرته وتدبيره
والهداية نوعان:
1 ـ بمعنى تعليم الانسان عقائد الاسلام واحكامه: ويسنده القرآن غالبا الى الانبياء الذين بعثهم اللّه لتبليغ الانسان عقائد الاسلام واحكامه.
واحيانا يسنده الى اللّه جل اسمه لانه الذي ارسل الانبياء بدين الاسلام.
2 ـ بمعنى توفيق اللّه الانسان الى الايمان بعقائد الاسلام والعمل باحكامه وهذا ما يسنده القرآن الى اللّه وحده, تارة مع وصف ان هذه الهداية من مشيئة اللّه, واخرى بدون ذكر مشيئة اللّه.
وقـد اشـتـرط اللّه لـهذا النوع من الهداية ان يرضاها الناس ويختاروها ويباشروا العمل من اجل الوصول اليها كما ياتي بيانها في ثلاثة بحوث بحوله تعالى.
أ ـ الهداية بمعنى التعليم:
اسند القرآن هداية الناس بمعنى تبليغ الاسلام الى الانبياء في موارد منها :
ا ـ في سورة الشورى:
(وانـك لـتهدي الى صراط مستقيم صراط اللّه الذي له ما في السموات وما في الارض الا الى اللّه تصير الامور) (الايتان 52 ـ 53).
واحيانا ياتي اسناد عن الانبياء في الهداية الى اللّه تعالى كما قال سبحانه:
1 ـ في سورة الانبياء: (وجعلناهم ائمة يهدون بامرنا) (الاية 73).
2 ـ في سورة الفتح: (هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق) (الاية 28).
وبهذا المعنى ـ ايضا ـ اسندت الهداية الى الكتب السماوية مثل قوله تعالى:
1 ـ في سورة البقرة: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (الاية 185).
2 ـ في سورة آل عمران:
(وانزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس) إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الخامسة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : اسناد الهداية التعليمية الى اللّه
مثل قوله تعالى:
1 ـ في سورة البلد في وصف الانسان:
(الم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) (الايتان 8 ـ 10).
2 ـ في سورة فصلت:
(واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (الاية 17).
اذاً فـان اللّه تـبـارك وتـعالى يسند الهداية بمعنى تعليم الاسلام الى انبيائه وكتبه تارة, والى نفسه تـبـارك وتعالى تارة اخرى, لانه الذي ارسل الرسل بتلك الكتب لتعليم الناس, ثم ياتي بعد ذلك دور الانسان في قبول الهداية او رفضها
ب ـ اختيار الانسان الهداية او الضلالة وآثارهما:
بعد ارسال اللّه الانبياء بالكتب الى الناس فان الناس ينقسمون الى فريقين: فريق يختارون الهداية على الـضـلالـة, وفريق يختارون الضلالة على الهداية كما اخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم
1 ـ في سورة النمل:
(وان اتلو القرآن فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل انما انا من المنذرين) (الاية 92).
2 ـ في سورة يونس:
(قل يا ايها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها وما انا عليكم بوكيل) (الاية 108).
وياتي بعد ذلك توفيق اللّه سبحانه وتعالى للمهتدي, كما اخبر اللّه عز اسمه وقال:
1 ـ في سورة مريم: (ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى) (الاية 76).
2 ـ في سورة محمد: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (الاية 17).
ان الـذيـن اخـتاروا الهداية بعد ارسال الرسل, وجاهدوا في سبيل اللّه, استحقوا توفيق اللّه لهم, والـذيـن كـذبوا الرسول واتبعوا هوى النفس حقت عليهم الضلالة, كما اخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهما وقال:1 ـ في سورة العنكبوت:
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان اللّه لمع المحسنين) (الاية 69).
2 ـ في سورة النحل:
(ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللّه ومنهم من حقت عـليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ان تحرص على هداهم فان اللّه لا يهدي من يضل ومالهم من ناصرين واقسموا باللّه جهد ايمانهم لايبعث اللّه من يموت) (الايات 36 ـ 42).
3 ـ في سورة الاعراف:
(فـريـقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون اللّه ويحسبون انهم مهتدون) (الاية 30).
وهذا النوع من الهداية هي التي تاتي بمشيئة اللّه, كما ياتي بيانه بحوله تعالى.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السادسة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
ج ـ الهداية بمعنى توفيق الايمان والعمل مسندة الى مشيئة اللّه. وذلك في قوله تعالى:
1 ـ في سورة البقرة:
(واللّه يهدي من يشاء الى صراط مستقيم) (البقرة 142 و213) و(النور 46) و(يونس 25).
2 ـ في سورة الانعام:
( من يشا اللّه يضلله ومن يشا يجعله على صراط مستقيم) (الاية 39).
3 ـ في سورة القصص:
(انك لا تهدي من احببت ولكن اللّه يهدي من يشاء, وهو اعلم بالمهتدين) (الاية 56).
وقال تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
يقول الإمام ابن القيم : فالهداية: هي البيان والدلالة،ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة،ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق، وجعل الإيمان في القلب،وتحبيبه إليه،وتزيينه في القلب،وجعله مُؤْثِراً له، راضيًا به،راغبًا فيه.
وهما هدايتان مستقلتان، لا يحصل الفلاح إلا بهما،وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلًا وإجمالًا وإلهامنا له، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرًا وباطنًا، ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم، ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين،فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم،وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده، أو أكثر منه، أو دونه،وما لا نقدر عليه -مما نريده- كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله، فأمر يفوت الحصر،ونحن محتاجون إلى الهداية التامة،فمن كملت له هذه الأمور،كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السابعة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة
وللهداية مرتبة أخرى -وهي آخر مراتبها- وهي: الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة،وهو الصراط الموصل إليها،فمن هُديَّ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله،وأنزل به كتبه، هُديَّ هناك إلى الصراط المستقيم،الموصل إلى جنته ودار ثوابه،وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار،يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم،وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط،فمنهم من يمر كالبرق،ومنهم من يمر كالطرف،ومنهم من يمر كالريح،ومنهم من يمر كأشدَّ الركائب،ومنهم من يسعى سعيًا،ومنهم من يمشي مشيًا،ومنهم من يحبوا حبوًا،ومنهم المخدوش المُسَلَّم،ومنهم المكردس في النار،فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا،حذو القذة بالقذة {جَزَاءً وِفَاقًا }النبأ:26 {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”{النمل:90}.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط،تخطفه وتعوقه عن المرور عليه،فإن كثرت هنا وقويت، فكذلك هي هناك. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } فصلت:46 فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير،والسلامة من كل شر.
وتفصيل أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم كمايلي :
1. تحقيق التوحيد:
لقوله تعالى لرسوله: “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
ولقوله تعالى:“الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)”{الأنعام:82}
تحقيق الإيمان بأركانه وعمل الصالحات:
لقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)”{يونس:9}
2. الهداية بالقرآن:
قال تعالى:“الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ”{البقرة:1-2}
والقرآن هو الداعي على رأس الصراط المستقيم:
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ:”ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا ..... وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ – عَزَّ وَجَلَّ-، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ”.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثامنة في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم
3. متابعة النبي صلى الله عليه وسلم :
لقوله تعالى لرسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)”{الشورى:52}
4. الإيمان بالغيب ، 5. إقام الصلاة ، 6. إيتاء الزكاة ، 7. خشيـة الله ، 8. صلة الرحم : لقوله تعالى:“الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)”{البقرة:1-5}
9. العلم: لقوله تعالى:“وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”
وقال تعالى : {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} قال بعض المفسرين : ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) كقوله تعالى : ( والذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 3 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، أي : كتب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك ، لا يحيدون عنه ، ولا يقدر أحد على الخروج منه . يقول : ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر ، وجبل الخليقة على ما أراد .
وقال القرطبي : {ثم هدى } قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي : أعطى كل شيء زوجه من جنسه ، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة . وقال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه . وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورة ؛ ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا .
يعني بالخلقة الصورة ؛ وهو قول عطية ومقاتل . وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له . يعني اليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع .
وقيل : أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة . وقال الفراء : خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى . فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه .
قلت : وهذا معنى قول ابن عباس . الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال . وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ { الذي أعطى كل شيء خلقه } بفتح اللام ؛ وهي قراءة ابن إسحاق . ورواها نصير عن الكسائي وغيره ؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه . فالقراءتان متفقتان في المعنى .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة التاسعة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : طريق الهداية
إن أعظم وأشرف وأجل نعمة يمتن الله – جل وعلا - بها على عباده نعمة الهداية للإيمان والتوحيد، بل لقد افترض الله – جل وعلا – على عباده أن يتضرعوا إليه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة سواء كانت الصلاة فريضة أم نافلة، فما من ركعة وإلا تتضرع فيها إلى الله أن يهديك إلى الصراط المستقيم بقولك: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة:6]. وتنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: الهداية العامة:
وهي مأخوذة من قول ربي حين سأل فرعون موسى وهارون عن ربهما قال فرعون: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] فأجابه موسى بقوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] هذه هي الهداية العامة أي: ربنا الذي خلق كل شيء على صورته، وشكله اللائق به، الذي يؤهله ويعينه على أداء المنفعة والمصلحة والمهمة التي خلق من أجله.
قال ابن القيم: من تأمل بعض هداياته في خلقه لعلم أنه الإله الواحد الحق الذي يستحق أن يوحد ويستحق أن يعبد بلا منازع أو شريك {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: ثم هداه إلى ما يصلحه،ويؤهله للقيام بالوظيفة التي خلق من أجلها ووجد من أجلها، هذه هي الهداية العامة لو تدبرت كل شيء في الكون لوصلت إليها.
ثانيا: من أقسام الهداية: هداية الدلالة والبيان والتعريف والإرشاد:
ومعناها: أن الله خلق الإنسان وأرشده ودله وهداه وعرفه طريق الخير والشر.
قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]
قال ابن القيم: "ولا يكون الرجل من أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة.
ثالثا: هداية التوفيق: وهذه لا يملكها مَلَكّ مقرب، ولا نبي مرسل، ولو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يملك هداية التوفيق إلا الله، نعم! لا يملك هداية التوفيق إلا الله، ما عليك فقط إلا أن تبحث عن هداية الدلالة، عن الأسباب، وأن تجاهد، وأن تسأل ربك الهدى ليرزقك هداية التوفيق.
أما هداية التوفيق فقال الله فيها لنبيه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} القصص:56.
رابعاً: الهداية في الآخرة: الهداية العامة وهداية الدلالة والبيان، وهداية التوفيق، والهداية في الآخرة، آخر مراتب الهداية. فمن هدي في الدنيا إلى الصراط المستقيم هدي في الآخرة للسير على قَدْر هداه في الدنيا على الصراط المضروب على متن جهنم.
قال ابن القيم: "السابقون في الآخرة إلى الرضوان والجنات، هم السابقون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات، وعلى قدر السبق هنا يكون السبق هناك".
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة العاشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : من أعظم أسباب الهداية:
أولا : أن تعرف الله، فمن عرف الله بأسماء جلاله وصفات كماله أحبه، ومن عرف الله خافه، والحب والخوف هما العبادة، فالعبادة هي كمال الحب لله، مع كمال الذل لله، ومن عبد الله – عز وجل – وحده لا شريك له فقد هدي إلى الصراط المستقيم
ثانيا: الإيمان بالله: تدبر معي هذه الآية الجميلة قال سبحانه: {مَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التغابن:11 ولو هدي القلب لسجد بين يدي الرب سجدة لا يقوم منها حتى يستمتع بالنظر إلى وجه ربه في الجنة
ثالثا: الاعتصام بالله: {مَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ما هو الصراط المستقيم؟ وأنت تكرر اللفظة كثيرا. قال عليّ رضي الله عنه: الصراط المستقيم هو القرآن. قال ابن عباس رضي الله عنه: الصراط المستقيم هو الإسلام. قال ابن الحنفية رضي الله عنه: الصراط المستقيم هو دين الله، الذي لا يقبل غيره أبدا ..
رابعا : المحافظة على الصلوات.
قال ابن مسعود – والحديث رواه مسلم: من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كالمتخلف الذي يصلي في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
خامساً: الصحبة الصالحة من أعظم أسباب الهداية أن تصحب رجلا يذكرك بالله، وأن تبتعد عن رجل يحول بينك وبين معرفة الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27)يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29]
لذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي»
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الحادية عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
قال ابن كثير : ذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين للّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم شباباً. وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً.
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة، يعني الحلق، فألهمهم اللّه رشدهم، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم، أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو، { وزدناهم هدى} استدل بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: { وزدناهم هدى} ، كما قال: { والذين اهتدوا زادهم هدى } ، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم
وقال الطبري : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : نحن يا محمد نقص عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بالحق، يعني: بالصدق واليقين الذي لا شك فيه (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) يقول: إن الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهم الملأ من مشركي قومك، فتية آمنوا بربهم، (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) يقول: وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانا، وبصيرة بدينهم، حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه، إلى خشونة المكث في كهف الجبل.
لقد اختصرَ اللهُ عزَّ وجلَّ تلك القِصَّةَ العالميَّةَ المشهورةَ عند أهلِ الكِتابِ وأهلِ الإسلامِ والمعروفةَ بقصَّةِ أصحابِ الكهفِ بقولِه تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) .. سِتَّ كَلِماتٍ قد جمعتْ فَصيحَ البيانِ
فيها وصفُ أبطالِ القِصَّةِ الشُّجعانُ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) .. وذِكرُ عملِهم الذي جعلَ لهم في التاريخِ شأنٌ (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) .. ثُمَّ النِّهايةُ المُباركةُ من فَضلِ ذي العَطاءِ والإحسانِ (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).
الشَّبابُ هم أكثرُ النَّاسِ جُرْأَةً إذا اقتَنَعوا .. وأَقبلُ للحقِّ إذا صَدَّقوا .. وأَهدى للسَّبيلِ إذا تيَقَّنوا .. وأرهَفُ إحساساً إذا أحبُّوا .. وأذكى في النَظرِ في حقائقِ الأمورِ ..
فقد يأتي من يقولُ: أيُّ رحمةٍ ورُشدٍ في فجوةِ جبلٍ قد اجتمعتْ فيه هوَامُّ الأرضِ؟ .. فنقولُ: إن كانَ الحافظُ هو العزيزُ الجَبَّارُ .. أصبحَ الكهفُ مصدرَ أمانٍ وهدوءٍ واستقرارٍ.
وإذا العِنايةُ لاحظتَك عيونُها *** لا تخشَ من بأسٍ فأنتَ تُصانُ
وبكلِّ أرضٍ قد نزلتَ قِفارَها *** نمْ فالمـَخاوفُ كلُّهنَّ أمــانُ
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثانية عشرة في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
وقال الموصلي : (وزدناهم هدى) (أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح). ذلك أن الإيمان وكما هو معلوم متضمن للمجمل والمفصل، فهم آمنوا بمجمله وأصله الذي هو التوحيد؛ فشكر الله تعالى إيمانهم فزادهم من مفصله الذي هو الهدى المتضمن للعلم النافع والعمل الصالح.
إن فعل الإيمان نسب إليهم فهو صادر منهم تحصيلاً وسعياً لا إلهاماً وكشفاً. والذي معهم -ابتداءً- هو أصل الإيمان وهو التوحيد بقرينة إطلاقه، وذكر الهدى المتضمن للعمل الصالح في سياقه؛ فالإيمان في الآية متوجه إلى التوحيد بقرينة السياق، فثمة عموم وخصوص بين الإيمان والهدى عند الجمع بينهم والإفراد، فإذا أفرد أحدهما بالذكر يكون متضمناً للآخر، والعكس صحيح، وثمة قرينة أخرى، وهي أن اسم الرب تعالى أضيف إليهم (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، وذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية، كما هو المعتاد في السياقات القرآنية لمن تأمل. وإضافة اسم الرب إليهم تشريفاً وتربية لهم، فقد خصّهم الله تعالى بتربيتهم على التوحيد. أما بالنسبة لزيادة الهدى، فثمة فائدة أخرى، ذلكم أن المزاد عليهم من الله تعالى وارد في لفظ الهدى لا بلفظ الإيمان، فلم يقل الله تعالى زدناهم إيماناً بل (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) مع أن ما عندهم هو من جنس الإيمان، والسبب في هذا التقديم والإيثار يرجع إلى:
أولاً: إنما المقصود تكميل الإيمان بمجمله ومفصله، بأصله وفروعه، بعلمه وعمله، بأساسه وبنيانه ...
ثانياً: وهم سعوا إلى سبيل الرشاد هداية واستجابة، فزادهم الله تعالى ووفقهم إلى هداية أخرى أكمل وأتّم من الأولى، فاجتمعت عندهم الهدايتان: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق.
ثالثاً: ولما كان غالب تعلق الهدى إنما يحصل بتكميل القوة العملية المتفرعة على تكميل القوة العلمية، كان إيثار الهدى في هذا السياق من باب تكميل وتهذيب القوة العملية، والاعتناء بالتزكية.
رابعاً: ولعل ثمة فائدة أخرى: هؤلاء الفتية لما آثروا الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك فقد جاهدوا في الله توحيداً وإيماناً، فلا بدّ من هدايتهم إلى أكمل سبل الهداية كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} العنكبوت:69 فكل من يجاهد في الله توحيداً لا بدّ وأن يُهدى إلى كل سبل الهداية لا إلى سبيل واحدة؛ أي إلى كل شرائع الإيمان وشعبه ولوازمه وثماره.. وقرينة هذا التوجيه ظاهرة في تنكير الهدى في الآية، إذن هي للتعميم ولتعظيم النعمة المزادة عليهم وتفخيمها، فتأمّل.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
*وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
قال ابن كثير : لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَطَفَ بِذِكْرِ مُوسَى عَبْده وَرَسُوله وَكَلِيمه أَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يَقْرُن بَيْن ذِكْر مُوسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّه الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبَيْن ذِكْر التَّوْرَاة وَالْقُرْآن وَلِهَذَا قَالَ بَعْد ذِكْر الْإِسْرَاء " وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب " يَعْنِي التَّوْرَاة " وَجَعَلْنَاهُ " أَيْ الْكِتَاب " هُدًى " أَيْ هَادِيًا " لِبَنِي إِسْرَائِيل أَلَّا تَتَّخِذُوا " أَيْ لِئَلَّا تَتَّخِذُوا " مِنْ دُونِي وَكِيلًا " أَيْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَلَا مَعْبُودًا دُونِي لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى كُلّ نَبِيّ أَرْسَلَهُ أَنْ يَعْبُدهُ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ .
وقال محمد الطاهر ابن عاشور : الكتاب : هو المعهود إيتاؤه موسى عليه السلام ، وهو التوراة ، وضمير الغائب في {جعلناه} للكتاب ، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة ; لأن الهدى بسبب العمل بما فيه فجعل كأنه نفس الهدى ، كقوله تعالى في القرآن {هدى للمتقين }
وخص بني إسرائيل ; لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم ، فالجعل الذي في قوله {وجعلناه } هو جعل التكليف ، وهم المراد بـ ( الناس ) في قوله {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } ; لأن الناس قد يطلق على بعضهم ، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن ينتفع بهديه من لم يكن مخاطبا بكتاب آخر ، ولذلك قال تعالى {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور }
وقال تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }
قال ابن كثير : يَقُول كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهَا لَمَّا أَلْقَاهَا تَكَسَّرَتْ ثُمَّ جَمَعَهَا بَعْد ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْض السَّلَف فَوَجَدَ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَة ؛ وَأَمَّا التَّفْصِيل فَزَعَمُوا أَنَّ رُضَاضهَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي خَزَائِن الْمُلُوك لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَى الدَّوْلَة الْإِسْلَامِيَّة وَاَللَّه أَعْلَم بِصِحَّةِ هَذَا. وَأَمَّا الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ حِين أَلْقَاهَا وَهِيَ مِنْ جَوْهَر الْجَنَّة فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا بَعْدَمَا أَلْقَاهَا وَجَدَ فِيهَا " هُدًى وَرَحْمَة لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الرابعة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
*فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قال ابن عاشور :
{وهدى ورحمة }حال من كتاب ، أو من ضميره في قوله : {فصلناه }. ووصف الكتاب بالمصدرين هدى ورحمة إشارة إلى قوة هديه الناس وجلب الرحمة لهم .
وجملة هدى ورحمة لقوم يؤمنون إشارة إلى أن المؤمنين هم الذين توصلوا للاهتداء به والرحمة ، وأن من لم يؤمنوا قد حرموا الاهتداء والرحمة ، وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة {هدى للمتقين }
وقال تعالى : {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة}ُ
إن الله تبارك وتعالى قسَمَ الناس إلى فريقين : فريق منَّ عليهم بالهداية وشرح صدورهم للإسلام ووفقهم لطاعة الرحمن ، وفريق حقت عليهم الضلالة فهم في غيِّهم يعمهون وفي باطلهم يتقلَّبون وعن طاعة ربهم وعبادته سبحانه معرضون ، ولقد بعث الله أنبياءه ورسله وأصفياءه دعاةً إلى الإيمان والحق والهدى ، ونهاةً عن الكفر والباطل والردى ؛ وانقسم الناس تجاه دعوة النبيين إلى فريقين كما بينت الآية
وقال الله تبارك وتعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل:45] أي: فريقٌ قبِل دعوة النبيين وآمن بهم ، وفريقٌ أبى ذلك ولم يرضَ لنفسه إلا الكفر طريقا ؛ ثم هم كما وصف الله ﴿ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي : كلُّ فريق يدَّعي أن الحق معه وأنه هو صاحبه ، وقد جرت العادة - عادة فريق أهل الباطل ، فريق أهل الكفر
والضلال - العُجب بحضاراتهم والاغترار بدنياهم ويجعلون ذلك مقياساً على أحقيَّتهم ، وتأمل في هذا قول الله تعالى : ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم:73] أي نحن أم أنتم ؟
وفي حديث القرآن عن الفريقين ضرب الرب جل وعلا مثلاً عظيما يتضح به جليًّا حال الفريقين ويتجلى أمرهما تماما ، قال الله تعالى : ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ تأمل في هاتين الحالتين ﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود:24] أي : لا يستوي أهل الإيمان بما عندهم من بصيرةٍ ونورٍ وهدايةٍ وضياء ، وأهل الكفر الذين هم في عمايةٍ وضلالٍ وغوايةٍ وصدود .
ومن هدايات القرآن وبياناته العظيمة لحال الفريقين ذِكْر المآلات ؛ مآل هؤلاء ومآل هؤلاء ، وهو مقامٌ جدير بالعناية والتأمل ، قال الله تعالى : ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام:81] أي فريق أهل الإيمان أو فريق الكفر والطغيان ؟ والجواب الذي لا جواب غيره على ذلك هو قول الله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية : ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الخامسة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
قوله تعالى : {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
" أُولَئِكَ " المذكورون " الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ " أي: امش - أيها الرسول الكريم - خلف كل هؤلاء الأنبياء الأخيار, واتبع ملتهم. وقد امتثل صلى الله عليه وسلم, فاهتدى بهدي الرسل قبله, وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه, فضائل وخصائص, فاق بها جميع العالمين, وكان سيد المرسلين, وإمام المتقين, صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وبهذا الملحظ, استدل بهذا من استدل من الصحابة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أفضل الرسل كلهم.
وقال الطبري : يقول تعالى ذكره: " أولئك "، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه, فوفقهم جل ثناؤه لذلك " فبهداهم اقتده "، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم " اقتده "، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه, فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.
وقال الرازي : في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن قوله : ( أولئك الذين هدى الله ) هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ، ولا شك في أن قوله : ( فبهداهم اقتده ) أمر لمحمد - عليه الصلاة والسلام - ، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدا أن يقتدي فيه بهم ، فمن الناس من قال : المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم ، وقال آخرون : المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا ، وقال آخرون : إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله : ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) .
ثم قال في هذه الآية : ( أولئك الذين هدى الله ) أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد ( فبهداهم اقتده ) أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب . وقال آخرون : اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل .
المسألة الثانية : احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع الأنبياء - عليهم السلام - ، وتقريره : هو أنا بينا أن خصال الكمال ، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ، ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين ، وموسى - عليه السلام - كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، كانوا أصحاب الزهد ، وإسماعيل كان صاحب الصدق ، ويونس صاحب التضرع ، فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمدا - عليه الصلاة والسلام - بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله تعالى بذلك ، امتنع أن يقال : إنه قصر في تحصيلها ، فثبت أنه حصلها ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقا فيهم بأسرهم ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إنه أفضل منهم بكليتهم . والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال الواحدي : قوله : ( هدى الله ) دليل على أنهم مخصوصون بالهدى ؛ لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله : ( أولئك الذين هدى الله ) فائدة تخصيص .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السادسة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
قال تعالى : {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قال ابن عاشور : استئناف بياني ، أي لا تعجبوا من هديهم وضلال غيرهم . والإشارة إلى الهُدى الّذي هو مصدر مأخوذ من أفعال الهداية الثلاثة المذكورة في الآية قبلها،وخصوصاً المذكور آخراً بقوله { وهديناهم إلى صراط مستقيم } [ الأنعام : 87 ]. وقد زاد اسمُ الإشارة اهتماماً بشأن الهدي إذ جعله كالشيء المشاهد فزيد باسم الإشارة كمالُ تمييز ، وأخبِر عن الهدي بأنّه هدى الله لتشريف أمره وبيان عصمته من الخطأ والضلال ، وفيه تعريض بما عليه المشركون ممّا يزعمونه هدى ويتلقّونه عن كبرائهم ، أمثال عَمْرو بن لُحَيّ الذي وضع لهم عبادة الأصنام ،ومثلِ الكهّان وأضرابهم .
وقوله تعالى : { يهدي به من يشاء من عباده } جملة في موضع الحال من { هُدى الله }.والمراد ب { من يشاء } الّذين اصطفاهم الله واجتباهم وهو أعلم بهم وباستعدادهم لهديه ونبذهم المكابرة وإقبالهم على طلب الخير وتطلّعهم إليه وتدرّجهم فيه إلى أن يبلغوا مرتبة إفاضة الله عليهم الوحيَ أو التّوفيق والإلهام الصادق . ففي قوله : { من يشاء } من الإبهام ما يبعث النّفوس على تطلّب هُدى الله تعالى والتّعرّض لنفحاته ، وفيه تعريض بالمشركين الّذين أنكروا نبوءة محمّد صلى الله عليه وسلم حسداً ، ولذلك أعقبه بقوله { ولو أشركوا لحَبِط عنهم ما كانوا يعملون } تفظيعاً لأمر الشرك وأنّه لا يغتفر لأحد ولو بلغ من فضائل الأعمال مبلغاً عظيماً مثل هؤلاء المعدودين المنوّه بهم . والواو للحال . و«حبط» معناه تلف ، أي بطل ثوابه . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم }
وقال تعالى : {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ }
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها: لَمَّا نَصَّ اللهُ سبحانه على مَن ذَكَر من الأنبياءِ عليهم السَّلام، وخَتَم بتفضيلِ كلٍّ على العالَمينَ- أتبَعَه على سبيلِ الإجمالِ أنَّ غيرَهم كان مَهدِيًّا، فرَغَّبَ في سلوكِ هذا السَّبيلِ بكثرَةِ سالِكيه، وحَثًّا على منافَسَتِهم في حُسنِ الاستقامةِ عليه، والسُّلوكِ فيه
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى هؤلاءِ الرُّسُلَ الكِرامَ، ذَكَرَ أنَّه هدى بعضَ أُصولِهم وفُروعِهم وبَعضَ حواشِيهم فقال: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: وهَدَيْنا أيضًا بعضَ آباءِ مَن تقدَّم ذِكْرُهم؛ من الأنبياءِ والرُّسُلِ الكرامِ عليهم السَّلامُ، وهدَيْنا بعضَ ذُرِّيَّاتهم، وبعضَ إخوانِهم، واختَرْناهم لِدينِنا، وإبلاغِ رِسالَتِنا إلى من أَرْسَلْناهم إليه، وسدَّدْناهم ، فأرشَدْناهم إلى طريقِ الحقِّ الذي لا عِوَجَ فيه، والدِّينِ الخالِصِ الذي لا شِرْكَ فيه، فوفَّقناهم لاتِّباعِه هذا الهُدى الذي هُدِيَ به أولئك الأنبياءُ والرُّسُلُ، فوُفِّقُوا للحَقِّ، هو هُدَى اللهِ الذي لا هُدَى إلا هُداه، فيُوفِّقُ لإصابةِ الحَقِّ مَن يَشاءُ اللهُ هدايَتَه من عبادِه
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السابعة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان : الهدى هدى الله ﭧ ﭨ ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﭼ
قال ابن كثير : أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله صلى اللّه عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين أهـ
وإن البشرية لتخبط في التيه ، كلما تركت هذا الهدى ، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئاً من تصوراتها هي ومقولاتها ، وأنظمتها وأوضاعها ، وشرائعها وقوانينها ، وقيمها وموازينها ، بغير « علم » ولا « هدى » ولا « كتاب منير » إن « الإنسان » موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه ، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض ، وترقية هذه الحياة . .ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون ، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب ، ومنها غيب عقله هو وروحه ، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف ، والتي تدفعها للعمل هكذا ، وبهذا الانتظام ، وفي هذا الاتجاه .
ومن ثم يحتاج هذا « الإنسان » إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق ، وموازين وقيم ، وأنظمة وأوضاع ، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة . .
وكلما فاء هذا « الإنسان » إلى هدى الله اهتدى . لأن هدى الله هو الهدى . وكلما بعد كلية عنه ، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئاً من عنده ضل . لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال . . إذ ليس هنالك نوع ثالث{فماذا بعد الحق إلا الضلال }
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال - وما تزال كلها تذوق - ما هو « حتمي » في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله . . فهذه هي « الحتمية التاريخية » الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله ، ومن خبر الله ، لا تلك الحتميات المدعاة! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله ، لا يحتاج أن ينقب ، فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي ، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده ، وعبادته وحده ، ومخافته وتقواه
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثامنة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ }﴿١٨٥ البقرة﴾
قال الوهراني : تأويل ( هدى) حين يراد به كتاب الله يتبين أنه جامع لعدة أسماء ـ وذلك هو البصيرة والضياء والنور والبينة وشفاء لما في الصدور والميزان والفرقان والقيم والصراط المستقيم والروح والأمر والكلمة.
واعلم أن أصل الهدى والتقوى مودع في الفطرة، وأحدهما ينتج الأخر، فهما مستمران ويزيدان. والتقوى الفطرية تابعة الهدى الفطرى، ثم بعد استعمال النظر وسماع الذكر يجيء الهدى بمدد التقوى الفطرية. فمن بقي على سلامة الفطرة ولم يفسدها بالسيآت، فهو إذا نظر في آيات الله أو سمع دعوة النبي انبعثت فيه التقوى الكامنة كانبعاث سائر القوى الكامنة عند بواعثها. وقد جاء في القرآن كثيرا أن الإهتداء به مبنى على استعداد له، كما قال تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) فنظر في آيات الفطرة فتذكر كما هو حال الطبقة العليا كالأنبياء، وبعد ذلك من هم السابقون إلى دعوتهم كما ذكرهم بعد ذلك بقوله : ( أو ألقى السمع وهو شهيد) وأيضا : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)
وجملة الكلام أن للتقوى مراتب : فبعضها شرط للإهتداء بالقرآن، وبعضها نتيجة له، ثم هذه سبب لمزيد الهدى، كما قال تعالى : ( و الذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) أي آتاهم مزيد التقوى، فإن أصل التقوى لابد من تقدمه على الإهتداء. فالهدى والتقوى يتعاقبان، وكلما زادت التقوى زاد الهدى ومن كان أشدهم تقاة كان أسبقهم وأشدهم اهتداء بالذكر
وقال الشنقيطي : قوله تعالى ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ - أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ الْمَعْرُوفِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ - أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وَقَوْلِهِ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْهُدَى الْخَاصُّ؛ الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، لَا الْهُدَى الْعَامُّ؛ الَّذِي هُوَ إِيضَاحُ الْحَقِّ.
وقال السعدي في تفسيره : فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة
إن أهم وصفٍ للقرآن، وأكثره ورودًا في آياته، كونه هدىً يهدي البشرية أفرادًا ودولاً وأممًا لما يصلحها في كل شؤونها، ذلكم الوصف الرباني الذي قُرن بتاريخ نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) لقد هدى الله تعالى بالقرآن بشرًا كثيرًا في القديم والحديث، ولا زلنا نسمع كل يومٍ قصص المهتدين بالقرآن ممن سمعوه، أو وقع في أيديهم فقرؤوه، ومنهم من قصد قراءته لنقده والطعن فيه، وصرف الناس عنه، فكان من المهتدين به.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله تعالى فيها جميع ما في القرآن العظيم من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبع تفصيلها على وجه الكمال لأتى على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، هذا القرآن العظيم الذي يهدي للتي هي أقوم والذي هُجر وابتُعد عنه ابتعادًا عظيمًا، أمرنا ربنا -تبارك وتعالى- بأن نتبعه وأن نلتزمه، فإن في اتباعه خير الدنيا والآخرة.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة التاسعة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
قال تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }﴿١٤٣ البقرة﴾
قال ابن كثير : يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه أي مرتدا عن دينه وإن كانت لكبيرة أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة أي وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق كما قال الله تعالى{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " وقال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة وقال البخاري في تفسير هذه الآية : عن ابن عمر قال : بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فتوجهوا إلى الكعبة وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر وعنده أنهم كانوا ركوعا فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل رضي الله عنهم أجمعين .
يقول الله –عز وجل-:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)(البقرة:144).وقد عظم الله أمر هذه القبلة، وجعل لها شأنا عظيما في الإسلام؛ ومما يدلنا على ذلك الأمور التالية:
1- أن استقبالها من شروط صحة الصلاة
2- سيد المجالس ما كان بمحاذاة القبلة، يقول –صلى الله عليه وسلم- كما في المعجم الكبير للطبراني: ( إنّ لكلّ شيءٍ سيدًا، وإنّ سيد المجالس قبالة القبلة).
3- شرع الله عبادة الطواف حولها، يقول –سبحانه-:(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(الحج:29).
4- أنها قبلة المسلمين في قبورهم 5- خصها الله –تعالى- بإضافتها إلى نفسه الشريفة، قال –تعالى-:(وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ)6- عصمة دم مستقبل القبلة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري:( مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ).
7- إضافتها إلى المسلمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم
8- النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة
9- النهي عن التفل تجاه القبلة
10- جعلها الله هداية للمؤمنين، يقول الله –تعالى-:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).
11- جعلها الله بقاء للدين12- جعلها الله مظهرا لوحدة المسلمين واجتماعهم
إن رسولنا –عليه أتم الصلاة والتسليم- صلى إلى جهة بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا بعد هجرته إلى المدينة، ولكن كان يهوى ويتمنى أن تكون قبلته الكعبة؛ وذلك لسببين:1-مخالفة اليهود، وكراهة موافقتهم2-أنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة التاسعة عشرة في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼالبقرة: ١ – ٥
قال ابن كثير: أي : المتصفون بما تقدم : من الإيمان بالغيب ، وإقام الصلاة ، والإنفاق من الذي رزقهم الله ، والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل ، والإيقان بالدار الآخرة ، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات . ( على هدى ) أي : نور وبيان وبصيرة من الله تعالى . ( وأولئك هم المفلحون ) أي : في الدنيا والآخرة .
وعن ابن عباس : ( أولئك على هدى من ربهم ) أي : على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم ( وأولئك هم المفلحون ) أي : الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا .
وقال ابن جرير : معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم ، وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم وتأويل قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .
وقال تعالى : {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزنون}
قال السعدي : كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى " أي وقت وزمان جاءكم مني, يا معشر الثقلين, هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي.
فمن تبع هداي منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي.
" فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " . وفي الآية الأخرى " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى " .
فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف, والحزن, والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف. فنفاهما عمن اتبع الهدى وإذا انتفيا, ثبت ضدهما, وهو الهدى والسعادة.
فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى. وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء. فحصل له المرغوب, واندفع عند المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب آياته.
وقال السعدي : قال " هُدًى " وحذف المعمول, فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح الدارين. فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.
وقال في موضع آخر " هُدًى لِلنَّاسِ " فعمم. وفي هذا الموضع وغيره " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " لأنه في نفسه هدى لجميع الناس. فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا. ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم.
وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فاهتدوا به, وانتفعوا. غاية الانتفاع.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة العشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : حديث القرآن عن القرآن
إن حديث القرآن عن القرآن فيه بيان لهدايته ومقاصده ، ودعوة إلى حسن تدبره والعمل به ، وهو حق يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى من سورة البقرة .
﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾
﴿ هدي للمتقين ﴾ أي رشاد وبيان . وتخصيص الهدى بالمتقين يدعونا إلى وقفة متأنية نرى فيها لماذا خصهم مع أن هداية القرآن عامة شاملة وقد جاءت الهداية مطلقة في قوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: الآية185] فلماذا خَصَّ وعَمَّ وأطلق وقيد ؟ لماذا خَصَّ في موضع وعَمَّ في آخر ؟
إن القرآن من حيث هو نور وهدى للناس أجمعين . ومن حيث الانتفاع به والفوز بهدايته لا يكون إلا لمن اتبعه وأخضع هواه لما جاء به ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [ طه 123 – 127 ] فتخصيص الهدى بالمتقين لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بهدايته ، وإن كانت هدايته شاملة لكل ناظر من مؤمن أو كافر ولكن لا يظفر بنتائجه إلا من اتبعه واهتدى بهداه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . والآثار التي تترتب على التقوى في حياة الناس لا تخفى .
فإن من اتقى كف شرّه عن غيره وقدَّم خيره . وردّته تقواه عن ظلمه لنفسه في الإعراض عن الذكر أو الإساءة لغيره
وأما في الآخرة فالدار دارهم ونعم دار المتقين ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ ومن رحمة الله بالخلق أن جعل للتقوى شرعة ومنهاجا . ومنهاج المتقين قرآن وسنة . وأهل التقوى في جميع أحوالهم متبعون لا مبتدعون ، يخضعون أنفسهم للحق ولا يتبعون الأهواء . فإن اتباع الهوى جهل وضلال واتباع الهدى هدى ونور ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ ( سورة الجاثية : 18 ـ 20 ) إن موقف الناس من الحق الذي أنزل هو الذي يحدد مصائرهم . والقرآن الكريم يبين الجزاء ويذكر النتائج ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ (لأنفال: الآية42) فلا يدع الناس يتيهون دون تحديد للمعالم والصفات ، بل يبين صفات الناجين المفلحين ليتبع الناس سبيلهم، ويذكر صفات الهالكين الخاسرين ليجتنب الناس سبلهم ، ويفيض في ذلك إفاضة بالغة حتى لا تبقى لأحد من الناس حجة أو معذرة .
القرآن هدى للمتقين لأنهم المنتفعون بنوره .
فمن هم المتقون الذين خصهم القرآن بهدايته وشملهم الرحمن برحمته ؟
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الواحدة والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : نعمة الهداية إلى دين الإسلام
إن أجلّ نِعَم الله، وأعظم مِنَنِه على عباده هدايته - تبارك وتعالى - من شاء من عباده إلى هذا الدين الحنيف إلى دين الإسلام، دين الله - تبارك وتعالى - الذي رضيه لعباده دينًا، فهذه النعمة العظمى، والعطية الأجل يقول الله تعالى في التنويه بهذه النعمة وبيان عِظَم مكانتها، وأنها مِنَّتُه سبحانه على من شاء من عباده؛ يقول - جلَّ وعلا -: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]، ويقول - جلَّ وعلا -: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾ [الحجرات: 7]، ويقول - جلَّ وعلا -: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
إن هذه النعمة، نعمة الإسلام التي هي أجل النعم عَظُم شأنها، وكَبُر قدرها؛ لأن الإسلام هو دين الله، الذي رضيه - عز وجل - لعباده دينًا، ولا يقبل منهم دينًا سواه؛ يقول - جلَّ وعلا -: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾
ويقول - جل وعلا -: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ويقول - جلَّ وعلا -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] إن من أكرمه الله - عز وجل - وحباه بهذا الدين، وجعله من أهل الإسلام - عليه أن يعرفَ لهذه النعمة قدرها، ويرعى لها مكانتها حِفْظًا ومحافظة ورعاية لهذا الإسلام، وعناية به من كل ما ينقصه أو يناقضه؛ من الأعمال الباطلة، والمخالفات السيئة، وفعل الحرام، والآثام
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثانية والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
*لماذا الدعوة إلى الله والحرص على هداية الناس؟
هناك دوافع تحث المسلم على القيام بالدعوة والحرص على هداية الناس ودخولهم في دين الإسلام، منها :
1- ما ادخره الله من عظيم الأجر وجزيل الثواب لمن سعى إلى هداية الناس للإسلام، فالداعية يحب الخير لنفسه، وإذا علم ذلك تمنى هداية الناس كلهم على يديه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(( لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم))،
ورغب في تضاعف أجره عند الدلالة على الخير واتباع الناس للهدى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (( من دل على خير فله مثل أجر فاعله))
2- حب الخير لناس، فالداعية المؤمن يشفق على غيره من الوقوع في الحرام وحمل الآثام، ويحب التزام الناس بشرع الله وبفضائل الدين، فلا يزال آمرا لهم بالمعروف، ناهيا لهم عن المنكر، دالا لهم على أوجه الخير كلها، يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير الدنيوي والأخروي، ويبغض لهم ما يبغض لنفسه من الشر، وهذا علامة كمال الإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))
3- إقتداؤه بالرسول صلى الله عليه وسلم، إمام الدعاة وأحرصهم على هداية الناس للخير وتعليمهم إياه، وقد وصفه الله تعالى بقوله ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، وقوله تعالى ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ، كما يوجهه وقد غمره شعور بالأسى والحزن لانصراف الناس عنه، وبعدهم عن دعوته، حتى كاد يهلك نفسه غما عليهم، فيقول له تعالى ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
ويضرب عليه الصلاة والسلام مثلاً لحاله مع قومه، وحرصه على هدايتهم، وإبعادهم عن كل ما يضرهم فيقول: ((مَثلي ومَثلكم، كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجَنادب والفَراش يقعن فيها، وهو يذبُّهن عنها، وأنا آخذ بحُجُزكم عن النار، وأنتم تَفلَّتُون من يدِي))
فرغم الأذى والصد والعدوان الذي لقيه صلى الله عليه وسلم من قومه، فإن هدفه الأسمى والأول هو هدايتهم، وانتصار دعوته لا انتصار نفسه أو الثأر لذاته ، فيصفح عنهم بعد الفتح والتمكن صفحا جميلا، لأن دعوة الإسلام دعوة لصلاح الناس وهدايتهم.
وقد سنحت الفرصة سابقاً للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينكل بقومه وقت اشتداد أذاهم عليه، وذلك حين بعث الله تعالى له ملك الجبال مع جبريل عليهما السلام، ليأمره بما شاء من إيقاع العذاب عليهم- كما روى الإمام البخاري رحمه الله- فقال له: ( إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا)) ، وذلك لشدة حرصه وشفقته على أمته، فإن كفر هؤلاء، فقد يأتي من بنيهم من يقول لا إله إلا الله، وذلك ما حدث، فقد أسلم يوم الفتح بعض أبناء أساطين الكفر كعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية بن خلف وعتبة بن أبي لهب وغيرهم. إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
ومن شواهد حرصه على دخولهم في الإسلام في غزوة الفتح ما يلي:
• حقنه لدماء أهل مكة أولاً، ثم العفو عنهم وإطلاقهم، والعفو عمن كان قد أهدر دمه واستؤمن له، وذلك تأليفا لهم وحفظاً لأرواحهم، لعلهم يقبلون على الإسلام وتهتدي له قلوبهم.
• إشعارهم بهذا الحرص عليهم، وبمكانتهم عنده إن هم أسلموا، ومن ذلك قوله: (( اليوم أعز الله قريشًا))، فدعوة الإسلام ما تقصد إلا تكريمهم وتوقيرهم وإعزازهم واحترامهم
• إخباره المسلمين عن رغبة بعض أهل مكة في الإسلام كي لا يعرض لهم بأذى أو قتال، كقوله حين اقترب من مكة: (( إن بمكة أربعة نفر من قريش، أربأهم عن الشرك، وأرغب بهم في الإسلام: عتاب ابن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو))، فأسلموا وحسن إسلامهم
• معاودة الدعوة وتكرارها، لمن كان يعارضها مرة بعد مرة، وعدم اليأس من إسلامه، بل وضع الأمل في غفران الله تعالى له معارضته لدعوة الحق فيما مضى، وتجنب الوقوف موقف الخصومة الأبدية ممن رفضها وصدها، وإنما المسارعة إلى قبوله في صفوف المسلمين، وإظهار الفرح والاستبشار بذلك. وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم، أحرص الناس على هداية غيرهم، فالعباس رضي الله عنه يحرص قبل الفتح على حقن دماء قريش، ويحب لهم أن يدخلوا في الدين، وما أن فتحت مكة حتى أقبل بعضهم بأحد أقربائه ليسلم حرصا على إنقاذه من النار، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع والده أبي قحافة فأسلم، ومجاشع رضي الله عنه مع أخيه أبي معبد فبايع على الإسلام والإيمان والجهاد ، إن تحلي الداعية بهذه الصفة، لا ينبغي أن يجعله متلهفاً على رؤية نتائج دعوته، وثمرة جهده، فيصيبه الألم والحسرة، حين يرى الصد والإعراض، بل إنه رغم شدة حرصه وإيمانه أنه على طريق الحق، لا بد وأن يتذكر قوله تعالى ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ ، فعليه أن يقدم الدعوة إلى الناس كأمثل ما يكون، ويغرس بذرة الخير، والله تعالى هو صاحب المشيئة والإرادة في هداية الناس، لا محبة الإنسان المخلوق ورغبته، وقد قال تعالى ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ (شريفي)
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : لماذا يُحرم الناس الهداية؟
كثير مِن الناس يَطرُق باب الهداية، فمنهم مَن يُحرَم منها بالكلية حتى يُختم له بالشقاء، ومنهم مَن يتحصَّل على جزء مِن الهداية ويُحرَم الجزء الآخَر، ومنهم مَن يَهتدي لفترة ثم ينقلب بعد ذلك على عقبَيه ويُسلَب الهداية، فما الذي حرَمنا الهداية ونحن نَطلُبها؟ ولماذا تُسلَب منا بعدما تذوَّقنا حلاوتها؟
القرآن أجاب لنا عن هذا السؤال؛ يقول الحق سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 108]، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52].
أسباب حِرمان الهداية :
السبب الأول - الظُّلم:
الظلم ظلُمات في الدنيا والآخِرة، والإنسان يُحرم التوفيقَ إلى الهداية بسبب ظلمه لنفسِه أو لغيره، ومِن الظلم للنفس:
• الشِّرك، وهو مِن أقبَح الظُّلم، والذي منه اتخاذ الندِّ والنظير والشريك مع ربِّ العالَمين؛ يحبُّ أحدًا مثل الله، أو يطلُب شيئًا لا يستطيع تلبيتَه له إلا ربُّ العالَمين، أو يُرائي بعمله أو يُسمِّع به؛ لذا الذين لم يُخالطوا إيمانَهم بظلم (بشرك) تتحقَّق لهم الهداية والأمن؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
• ومِن ظلْم الإنسان لنفسِه أيضًا: التمادي في المعاصي، وتَركُ الجوارِح دون ضابط ودون توبة، فتتراكَمُ عليه الذنوب فتَسدُّ باب الهداية عليه؛ لأن الذنوب تُحجِّم حركات الجوارح، وساعتَها لا يستطيع أن يَسلُك طريق الهداية، وقد أكَّد هذا المعنى حديثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((مَثَل الذي يعمل السيئات، ثم يَعمل الحسنات، كمَثَل رجل كانت عليه دِرْع ضيِّقة قد خنَقتْه، ثم عمل حسنةً فانفكَّت حَلقة، ثم عمل حسَنة أخرى، فانفكَّت أُخرى، حتى يَخرج إلى الأرض))؛ (أخرجه أحمد، والطبراني في "الكبير"، والبغويُّ، وهو حديث قوي)، فالذنوب كالدِّرع الذي يَخنق العاصي ويشلُّ حرَكته، فلا بد من توبة واستِغفار، ودعاء ورجاء، وتذلُّل وعمل صالح حتى يفكَّ أسرك من هذه القيود، وتَرجِع مرة أخرى إلى نعيم الطاعة والهداية.
• ومِن ظلم الإنسان لغيره: الاستطالة في أعراض الناس؛ فلسانُه يَجرح في أعراض الناس بحق أو بغير حق، وإنه لَمِن أربى الرِّبا - أشدُّ مِن رِبا الأموال - أن يَخوض المرء في عِرض أخيه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مِن أربى الرِّبا الاستِطالة في عِرض المسلم بغير حق))؛ رواه أحمد والبزار، ورواة أحمد ثقات.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الرابعة والعشرون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : لماذا يُحرم الناس الهداية؟
• ومِن ظلم الإنسان لغيره: تضييع مَن يَعول وقطْع الأرحام التي أمَر الله بوصلِها؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت))؛ (أخرجه أبو داود، وقال الشيخ الألباني: صحيح)، وفي رواية لأحمد عن وهب قال: إن مولًى لعبدالله بن عَمرو قال له: إني أريد أن أقيم هذا الشَّهر هَهُنا ببيت المقدس، فقال له: تركتَ لأهلِك ما يُقوِّتهم هذا الشهر؟ قال: لا، قال: فارجع إلى أهلك فاترك لهم ما يُقوِّتهم؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يَقوت))، وليس الإيضاعُ إيضاعَ النفَقة عليهم وتلبية حاجاتهم فقط، ولكنَّ الإيضاع الأكبر ألا يَقيَهم عذاب النار التي وقودُها الناس والحجارة، وذلك بتعريفهم حقوقَ الله عليهم، والإعانة على تأديتِها، وكذلك الصبر والمُصابَرة في دعوتهم وإعانتهم على ذلك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
وأما عن قطْع الرَّحِم فيقول - صلى الله عليه وسلم -: (وإن هذه الرَّحم شُجنَةٌ مِن الرحمن - عزَّ وجل - فمَن قطَعها حرَّم الله عليه الجنَّة) رواه أحمد والبزار، ورُواة أحمد ثقات.
• ومِن ظُلمِ الإنسان لغيره: أكْل أمول الناس بالباطل، والتعدي على حُقوقهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن ظلَم مِن الأرض شِبرًا طُوِّقه مِن سبع أرَضين))؛ متفق عليه.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الخامسة والعشرون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : لماذا يُحرم الناس الهداية؟
السبب الثاني: الفسق:
ومِن أسباب حِرمان الهداية: الفسْق، وهو الخُروج عن طاعة الله، وأشدُّه النفاق، وكثيرًا ما يَصف ربُّنا المنافقين بهذه الصِّفة، والنِّفاق يَحرم صاحبَه الهداية؛ وذلك لأنه يزيغ القلب عن الطريق المستقيم، وهو أخطر الأمراض التي تُهدِّد المجتمع كلَّه في كل زمان، وما سقَط أناس كثيرون في هاويَة الضَّلال إلا بسبب نِفاقهم، فأزاغ الله قلوبهم لما زاغوا عن طريق الحق بفسقِهم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]، نسأل الله أن يُطهِّر قلوبنا مِن النِّفاق والرياء.
السبب الثالث: الخيانة:
جرَت سنَّة الله في الكون على أنَّ فُنون الباطل وإن راجَت أوائلُها لا تَلبَث أن تَنقشِع، وأن الخائنين مهما طالتْ خيانتُهم فإنهم سيُكشَفون؛ لأن الخيانة سواء بالقول أو الفعل زاهِقةٌ؛ لأنها باطِل، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5].
ومِن أكبَر الخيانة أن يَخون الإنسان دينَه وأمانته، ويَبيع هذا الدِّين بعرَض قليل؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
وعمومًا، فإن التوغُّل في الظلم أو الفسْق أو الخيانة يَحرم صاحبَه الهداية، وإذا أراد العبد أن يَسلك الهداية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ ، إلى أن يلقى الله وهو على ذلك، فلْيتَخلَّص مِن عوائق الهداية؛ وهي الظلم بجميع أنواعه (ظلم الإنسان لنفسِه ولغيره)، ومِن الخروج عن الطاعة، والخيانةِ، ثم يأخذ بأسباب الهداية، فبعدما طلَب اللهُ مِن عباده أن يسألوه الهداية في سورة الفاتحة (اهدِنا)، بيَّن لهم صفات المُهتدين؛ حتى يتمسَّكوا بها، وهذا مذكور في أوائل سورة البقرة مِن قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ، وحذَّرهم كذلك مِن مسالك أهْل الضلال مِن الكافرين والمنافِقين، من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ... ﴾ [البقرة: 6] إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20].
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السادسة والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : الثبات علي الهداية
أخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ بين يدي الساعة فِتنًا كقِطع الليل المظلِم، يُصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، يبيع أقوامٌ دِينَهم بعَرَض من الدنيا قليل؛ رواه الحاكم، وإنَّنا - أيُّها المسلمون - نعيش في هذه الأيَّام في فتن تلاطمت، وشُبَه انتشرت، وأنواع من الرِّدة لم نعهدْها خرجت، حتى أصبح المرءُ يخشى على نفسه الضلالةَ بعد الهداية، والحَوْرَ بعدَ الكَوْر. لقد ازدادتِ الحاجة إلى معرفة نِعمة الهداية، وتوفيق الله للمرء بالثبات عليها؛ لأنَّنا جميعًا - إلاَّ مَن رحم الله - جمعْنا بين تقصيرٍ في طاعة الله، وأَمْن من عقابه، في زمن تعدَّدت فيه وتنوَّعت الشهواتُ والشبهات، ولقد كان سلفُنا الصالح يجمعون بين طاعة الله، والخوف على أنفسهم من الزَّيْغ في مجتمع يعينهم على ذِكْر الله - سبحانه - فما أحرانا أن نقتديَ بهم.
إنَّ سلوك طريق الهداية نعمةٌ يُنعِم الله بها على مَن يشاء من عبادِه، ولذا نرى الكثيرَ من أتباع هذا الدِّين ومِن غيره يتمنَّوْن الهدايةَ الحقَّة إلى الطريق المستقيم، ولكن لا يُوفَّقون لها، وتَحُول بينهم وبين الهداية العوائقُ؛ يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: "تفكَّرْتُ في سبب هداية مَن يهتدي، وانتباه مَن يتيقظ مِن رقاد غفلته، فوجدتُ السببَ الأكبر اختيار الحقِّ لذلك الشَّخْص، كما قيل: إذا أرادك لأمر هيَّأك له".
إنَّ الهِداية في بدايتها بيانٌ للحقِّ، ودلالةٌ إليه، ثم إذا سَلَكها المرءُ جاء دورُ الهداية التالية، وهي هدايةُ التوفيق، وقد أنعم الله علينا بسلوك طريقِ الهداية إلى الدِّين القويم بدعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبَقِي على المرء أن يسأل ربَّه بعدَ أن أكْرمه بالهداية الأولى أن يَمُنَّ عليه بأنواع الهداية الأخرى، والتي أوصلَها ابنُ القيم - رحمه الله - في "مدارج السالكين" إلى عشر مراتب.
إنَّ حاجتَنا للهداية والثبات عليها لا تقتصر على الدنيا فقط، بل يمتدُّ أثرُها ونفعها لِمَن وفَّقه الله إليها إلى يوم القيامة؛ يقول ابن القيم - رحمه الله -: "وللهداية مرتبة أخرى وهي آخِر مراتبها وهي الهداية يومَ القيامة إلى طريق الجنة، فمَن هُدِي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، هُدي هناك إلى الصراط المستقيم للوصول إلى جنَّتِه ودار ثوابه، وعلى قدْر ثبوت قدَمِ العبد على هذا الصراط الذي نصَبَه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوتُ قدمه على الصراط المنصوب على مَتْن جهنم، وعلى قدْر سَيْرِه على هذا الصراط يكون سَيرُه على ذلك الصراط، فمنهم مَن يمرُّ كالبَرْق، ومنهم من يَمرُّ كالرِّيح، ومنهم من يَسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردس في النار، فلينظرِ العبدُ سيرَه على ذلك الصراط من سَيرِه على هذا، حذوَ القُذَّة، جزاءً وفاقًا؛ {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وليحذر الشبهات والشهوات التي تعوقُه عن سَيْره على هذا الصراط،أن تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإذا كثَرُت هنا وقويت، فكذلك هي هناك؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السابعة والعشرون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : الثبات علي الهداية
إنَّ الهداية هي سؤالُ الله معرفةَ الحق، ثم التوفيق للعملِ بالحق، ومِن هنا يُعلم اضطرارُ العبد إلى سؤال هذه الدعوة، وبطلان قوْل مَن يقول: إذا كنَّا مهتدين، فكيف نسأل الهداية؟ لأنَّ المجهول لنا من الحق أضعافُ المعلوم، وما لا نُريد فِعْله تهاونًا وكسلاً مثل ما نُريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نَقدِر عليه مما نريده لذلك، وما نعرف جملتَه ولا نهتدي لتفاصيله أمرٌ يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامَّة، فمَن كَمُلت له هذه الأمور كان سؤالُ الهداية له سؤالَ التثبيت والدوام.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ قلوب بني آدم كلَّها بين أُصبعين من أصابع الرحمن، كقَلْب واحد، يُصرِّفه كيف يشاء))، وفي حديث آخرَ يصوِّر - صلَّى الله عليه وسلَّم - شدَّة تقلُّب قلْب العبد تصويرًا دقيقًا، يورث المسلم الخوفَ والوجل، والشعور بالحاجة إلى تثبيت الله وعونه؛ عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَقلبُ ابن آدم أشدُّ تقلبًا من القِدْر إذا استجمعتْ غليانًا))؛ رواه أحمد وغيرُه، ولقد كان المقداد رضي الله عنه يقول: ما آمَنُ على أحد بعدَ الذي سمعتُ من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إذا كانتِ القلوب بهذه المنزلة، وكانت الهدايةُ يعتريها ما يعتري سائرَ النِّعم، وجَبَ على المسلم العنايةُ بها، والمحافظة عليها، والثبات على طريقها، ألاَ وإنَّ من أهم أسباب حصولِ الثبات على الحق والهدى: الشُّعورَ بالفقر إلى تثبيت الله تعالى وذلك أنَّه ليس بنا غِنًى عن تثبيته سبحانه لنا طَرْفة عين؛ قال الله - سبحانه - مخاطبًا خيرَ خَلْقه وأكرمهم عليه: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} وقال - سبحانه - لأكرم خلقه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا...}
يقول ابن سعدي - رحمه الله -: "وفي هذه الآياتِ دليلٌ على شدَّة افتقار العبد إلى تثبيت الله إيَّاه، وأنَّه ينبغي له ألاَّ يزال متملقًا لربِّه أن يثبته على الإيمان، ساعيًا في كلِّ سبب موصل إلى ذلك؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو أكملُ الخلق قال الله له: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}، فكيف بغيره - صلَّى الله عليه وسلَّم؟!" ا.هـ.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثامنة والعشرون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : الثبات علي الهداية
ومن العوامل المعِينة على الثبات بعدَ الهداية: التقرُّب إلى الله بالأعمال الصالحة، فالنتائجُ لا تخالف مقدِّماتِها، والمسببات مربوطةٌ بأسبابها، وسُنن الله ثابتة لا تتغيَّر، ولن تجد لسُنة الله تبديلاً، ولقد تكرَّر في القرآن جَعْل الأعمال القائمة بالقلْب، والجوارح سببًا للهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمالٌ تقتضي الهُدَى اقتضاءَ السبب لمسببه، والمؤثِّر لأثره، وكذلك الضلال، فأعمال البِرِّ تثمر الهدى، وكلَّما ازداد منها ازداد هدًى، وأعمالُ الفجور بالضد، والله - سبحانه - يحبُّ أعمال البِرّ، فيجازي عليها بالهُدَى والفلاح، ويُبغض أعمالَ الفجور، ويجازي عليها بالضلال والشقاء.
إنَّ الأعمال الصالحة لا تقتصر على الأعمالِ الظاهرة مِن كثرة التعبُّد، وطول الصلاة، والصيام فقط، ولكنَّها تشمل الظاهرةَ والباطنةَ؛ ولهذا جعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عواملَ ذَوْق لذَّة الإيمان وحلاوته أمورًا قلبيَّة، فقال: (ثلاثةٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبُّه الله، وأن يكره أن يعود في الكُفْر كما يكره أن يُقذَف في النار) أخرجه الشيخان. يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: "اعلم أنَّ الطريق الموصلة إلى الله - سبحانه - ليستْ مما يُقطَع بالأقدام، وإنَّما يُقطَع بالقلوب"، ويقول أيضًا - رحمه الله :اللهَ الله بالسرائر، فإنَّه ليس ينفع مع فسادِها صلاحٌ ظاهر".
إنَّ العلم والإيمان إذا اجتمعَا في قلب عبد حقًّا، فلا يمكن أن ينكصَ على عقبيه؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إنَّ الإنسان قد يؤتَى إيمانًا مع نقْص علمِه، ومثل هذا الإيمان قد يُرفع مِن صدره، كإيمان بني إسرائيل لَمَّا رأَوا العجل، وأمَّا مَن أوتى العلم مع الإيمان، فهذا لا يُرفع من صدره، ومثل هذا لا يرتدُّ عن الإسلام قطُّ، بخلاف مجرَّد القرآن، أو مجرَّد الإيمان، فإنَّ هذا قد يرتفع، وهذا هو الواقع، وأكثرُ ما نجد الرِّدة فيمَن عنده قرآن بلا عِلم وإيمان، أو مَن عنده إيمان بلا عِلم وقرآن، فأمَّا مَن أوتي القرآن والإيمان، فحصل فيه العلم، فهذا لا يُرفع مِن صدره".
العلم ليس بمقدار ما يحفظه المرءُ من مسائلَ وأحكام، بل العلمُ - كما يقول الحسن البصريُّ - علمان: عِلم في القلْب، وعلم على اللِّسان، فعِلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللِّسان حُجَّة الله على عباده.
قال ابن الجوزي : "لقد سَبرتُ السَّلف كلَّهم، فأردتُ أن أستخرج منهم مَن جمع بين العِلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قُدوة للعابدين، فلم أرَ أكثرَ من ثلاثة: أوَّلهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل.
فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ **** إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلاَحُ
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة التاسعة والعشرون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : الهداية والرزق بيد الله
قال الله تعالى: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).
الهداية بيد الله، والرزق بيد الله، هو الذي يرزق العباد ويطعمهم ويسقيهم ويكسوهم، خلق الماء، والأرض، والبذر، والشجر، والحيوان، فإذا منع ذلك كله، فمن أين تأكل؟ ومن أين تشرب؟ ومن أين تُكسى؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82] .
فهذا هو ربكم تبارك وتعالى فاسألوه وحده، فبيده الهداية والرزق، وبيده الموت والحياة، والعباد عبيد مربوبون مقهورون، وأمرهم بيد الله تبارك وتعالى، وأمر الله فيهم ماض، فالخلق والأمر لله تبارك وتعالى، والرزق منه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] (أنتم الفقراء إلى الله) تأتون ضعفاء، وتذهبون ضعفاء، وتعيشون ضعفاء، وإن كانت خزائنكم ملأى بالمال لكنكم ضعفاء.
فالغني الذي لا يفتقر أبداً هو الحي القيوم الذي لا تنتهي حياته، ولا ينتهي وجوده، (أنتم الفقراء إلى الله) تحتاجون إلى هدايته ورزقه وعونه وتأييده وتوفيقه، فعليه فتوكلوا، وإليه فاجأروا، ووحده فاسألوا. قاله عمر الأشقر
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثلاثون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : إنك لا تهدي من أحببت
لو تفحص العاقل نعم الله عليه ولن يحصيها عدا فلن يجد أعظم نعمة من نعمة الهداية٬ قال ابن القيم: «فإن أفضل ما يقدر الله بعبده وأجل ما يقسمه له (الهدى)٬ وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه (الضلال)٬ وكل نعمة دون نعمة الهدى٬ وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»٬ ولهذا قال عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.
ومن عظمة الهداية أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من أنواع النعيم فإن أول ما يقولونه: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}٬ وأعظم ما يتحسر عليه المفرط حين يرى العذاب أنه لم يكن من المهتدين كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لوأن الله هداني لكنت من المتقين}
وقال[: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني٬ فيكون له شكرا٬ وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني٬ فيكون عليه حسرة». أخرجه أحمد والحاكم. وقد ذكر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن الهدى والضلال بيده سبحانه وتعالى فقال: {من يهد الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}٬ وهذَا من عظمته وكمال تفرده بالخلق والتدبير أنه يصطفي من يشاء من عباده فيوفقه للخير وهذا من فضله
كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلامن هديته فاستهدوني أهدكم».
وقد يشكل على بعض الأفهام آيتان قرآنيتان تثبت إحداهما الهداية لرسول الله والأخرى تنفيها عنه٬ فالآية الأولى قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}٬ والأخرى قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}.
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد وغيرك من باب أولى لا تقدر على هداية أحد٬ ولو كان من أحب الناس إليك٬ فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية التوفيق٬ وخلق الإيمان في القلب٬ وإنما ذلك بيد الله سبحانه تعالى٬ يهدي من يشاء٬ وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه٬ ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الواحدة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : أسباب الهداية
قال الشيخ ابن باز : الهداية لها أسباب منها : *سؤال الله والضراعة إليه في طلب الهداية وطلب التوفيق وانشراح الصدر للحق، الله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }(60) سورة غافر ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن الله -جل وعلا-أنه قال: (استهدوني أهدكم), فالإنسان يسأل ربه أن يهديه ويشرح صدره للحق ويعينه على طاعته وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- هذا من أعظم الأسباب، الضراعة إلى الله وسؤاله -جل وعلا- الهداية، والإلحاح في ذلك، ولاسيما في أوقات الإجابة مثل آخر الليل جوف الليل، بين الأذان والإقامة, في آخر الصلاة، في السجود, في يوم الجمعة، إذا جلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وفي آخر يوم الجمعة بعد العصر إلى غروب الشمس، كل هذه أوقات ترجى فيها الإجابة، فينبغي للمؤمن أن يلح في طلب الهداية،
وفي طلب التوفيق, وفي طلب صلاحه وصلاح ذريته، وفي سؤال الله لولاة أمور المسلمين أن يهديهم ويوفقهم ويصلح حالهم ويعينهم على كل خير، هذه أوقات مناسبة.
*ومن أسباب الهداية الإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه، فإن الله جعله سبب الهداية، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }(9) سورة الإسراء. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء }(44) سورة فصلت. فالإكثار من قراءة القرآن بالتدبر والتعقل والإقبال بالقلب عليه من أسباب الهداية. ومن أسباب الهداية العناية بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته, كونه يقرأ سيرة النبي –صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه، ويقرأ الأحاديث الواردة في ذلك *ومن أسباب الهداية أيضاً مجالسة الصالحين والأخيار وكونه يتخذهم أصحاب وجلساء يجلس معهم, *ومن أسباب الهداية حضور حلقات العلم من أهل العلم المشايخ المعروفين بالخير يجلس عندهم ويسمع حلقات العلم ويستفيد كل هذا من أسباب الهداية.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثانية والثلاثون في موضوع الهداية وستكون بعنوان : مراتب الهداية :
ذكر ابن القيم في (تفسير سورة الفاتحة ) أن الهداية على عشرة مراتب :
الأولى- تكليم الله تعالى يقظةً بلا واسطة، كتكليم موسى عليه السلام، وفي ذلك هداية خاصة له .
الثانية- مرتبة الوحي المختصة بالأنبياء، وفيها هدايتهم للاقتداء بهم .
الثالثة- مرتبة إرسال الرسل لهداية البشر بعد اجتبائهم واصطفائهم .
وهذه المراتب الثلاث، هداية خاصة بالأنبياء؛ بتكليمهم، والوحي إليهم، وإرسالهم .
الرابعة- مرتبة التحديث، أي : الإلهام والتوفيق والسداد، وهي هداية من الله تعالى كحديث أبي هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لقد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة، فعمر بن الخطاب» (أخرجه البخاري) .
الخامسة- مرتبة الإفهام، كقوله تعالى : "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" [الأنبياء: 79] وهي نوع هداية . السادسة- مرتبة بيان الحق وتمييزه من الباطل، كقوله تعالى : "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [التوبة: 115] .
السابعة- مرتبة البيان الخاص المستلزم للهداية الخاصة، كقوله تعالى : "إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ" [النحل: 37] .
الثامنة- مرتبة الإسماع، كقوله تعالى : "وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ" [الأنفال: 23] .
التاسعة- مرتبة الإلهام، كقوله تعالى : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" [الشمس: 7، 8] .
العاشرة- مرتبة الهداية : بالرؤيا الصادقة، وهي جزء من أجزاء النبوة .
وللهداية طرق أربعة :
1- الإلهام الفطري : وهو يكون مع الطفل حين ولادته، فهو يلتقم ثدي أمه، ويمتصه بإلهام فطري .
2- حواس الإنسان : السمع والبصر والذوق والشم والحس، وهي تنمو مع الإنسان، ولكنها تخطئ كثيرًا .
3- الإرشاد الإلهي عن طريق الرسالات السماوية والكتب المنزلة .
4- العقل: وهو مناط التكليف، وبه تدرك الحقائق، وتصحح أخطاء الحواس، وهو مختلف في الناس . وقد لا ينتفع الإنسان بهذه الحواس، فتقصر أو تضعف، ويضل العقل أو ينصرف، وقد يجهل المرء دينه أو يعرض عنه .
لهذا وغيره، شرع لنا سبحانه أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم؛ فلا تقصر الحواس، ولا تضعف العقول، ولا تحيد عن الدين الحنيف، وفي هذا الإيجاز منتهى الإعجاز .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثالثة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
قال خالد ابو دياك : إن الإنسانَ في بعضِ الأحيانِ يُعتبر مُسير كما في حالة الموت والولادة لقوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (النجم: 44) ، لأنه عندما يكون الإنسان مُسيراً فإن هذا يعني أنه ليس له أدنى نصيب من الإختيار في ما يُقدر أو يَقع عليه من أقوال وأفعال وأحوال وغيرها من الأسباب الدنيوية وكما هو معلوم فإن الإنسان مقهور ومُسير في الموت والحياة. وفي البعض الآخر يكون الإنسان مُخير ومُسير معا في نفس الوقت بحيث أن ترجيح كل من التخيير والتسيير على الآخر يختلف من حال إلى آخر، فتجد في بعض الأمور التي يقوم بها الإنسان يكون التخيير فيها راجحاً على التسيير وفي أمور أخرى تجد التسيير راجحاً فيها على التخيير وهكذا.
بينما يستحيل أن تجد حالة يكون فيها الإنسان مُخير بالمطلق أي بشكل كامل دون أي قيود، لأن الإنسان يُعتبر مُخير عندما يملك حرية مطلقة غير مقيدة في الإنتقاء والإصطفاء بين أمرين أو أكثر أو عندما يملك حرية مطلقة غير مقيدة في قبول أو رفض أمرا ما، وبالتالي فإن الإنسان ما كان له أن يختار أي سبب أو أمر دنيوي بمختلف أنواعه من حال وفعل وقول وظرف زماني ومكاني وغيره من الأنواع إلا عندما يُقَدَّر عليه ذلك السبب أو الأمر الدنيوي بإرادةِ ومشيئةِ وخَلقِ وإيجادِ اللهِ الملك العظيم الخالق القدير فما لا يشاء اللهُ له أن يكون لا يُمكن إختياره. وهذا طبعا لعدة حكم منها (والله أعلم)، أنه لو إستقام أن يكون الإنسان مُخير بشكل مُطلق وبدون قيود لظن الإنسان في نفسه عندئذ بأنه خارج سلطان وقهر الله الملك العظيم، قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 29) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الخليقة وعلى رأسها بني آدم هم مقهورون في كل حركاتهم وسكناتهم وأحوالهم وأفعالهم تحت سلطان ومشيئة وإرادة وقدرة الله الملك العظيم القهار القدير الحكيم ؛فما من إنسان يهتدي أو يضل إلا بمشيئة الله عزوجل لأنَّ ما يشاء اللهُ لهُ أن يكون يكون وما لا يشاء اللهُ له أن يكون لا يكون.
أيضاً، لكي يعلم الإنسان الظلوم الجهول أنه لم يكن الإنسان ليهتدي إلا برحمة الله الملك العظيم الهادي الكريم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لن يدخُلَ الجنَّةَ أحدٌ إلَّا برحمةِ اللهِ ، قالوا : ولا أنت يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ برحمتِه ) وذلك لكي يعلم الإنسان أنه عندما يهتدي فإن ذلك يكون بفضل ورحمة الله عزوجل لأنه سبحانه وتعالى هو من وفقَهُ وأرشَدَهُ لأسبابِ الهدايةِ الدنيويةِ التي قام الإنسان بالإستجابة لها وإختيارها حتى إهتدى، قال تعالى (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ) (الرعد: 18).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الرابعة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
ثم قال الكاتب : وفي المقابل، لكي يعلم الإنسان أنه عندما يضلُ فإنه يظلمُ نفسَه ولم يظلمْهُ الله، قال تعالى (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل: 33) لأنه عندما قَدَّرَ اللهُ عزوجل وهيأ للإنسانِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ وأعرض عنها ولم يستجب لها عندئذ هو من ظلم نفسه ولم يظلمه اللهُ عزوجل، قال تعالى (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (الرعد: 18).
فاللهُ الملك العظيم الهادي الكريم لا يهدي إلا من يُحب الهداية ويرغب فيها ولا يهدي من لا يحبُ الهدايةَ ويُعرض عنها ويحبُ الضلالَ لأنه لا إكراه في الدين، وكذلك لقوله تعالى ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات: 7)، فسبحانه وتعالى يُيسر الأقدار أو المقاديرَ التي تَبعَثُ محبةَ الإيمانِ وكراهيةَ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ في قلب المؤمن وروعه لِعلمِ اللهِ السابق بمحبة المؤمن للإيمان، قال عليه الصلاة والسلام (قلبُ ابنِ آدمَ بينَ إصبَعينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ ، إن شاءَ أن يُقيمَهُ أقامَهُ وإن شاءَ أن يُزيغَهُ أزاغَهُ) فيختارُ المؤمنُ الإيمانَ ويتركُ الكفرَ والعصيانَ فيهديه ويُوَفِقُهُ ويُرشِدُهُ سبحانه و تعالى إلى طريق الحق والهداية ويَصرِفَهُ عن طرق الباطل والضلال، وفي المقابل فإنه سبحانه وتعالى يُيسر الأقدار أو المقادير التي تجعلُ الكافرَ يُحبُ الكفرَ والعصيانَ ويَكرهُ الإيمانَ والطاعةَ لِعلمِ اللهِ السابق بمحبة الكافر للكفر والعصيان فيختمُ اللهُ على قلبه وسمعه ويَجعلُ على بصره غشاوةً فيختارُ الكافرُ الكفرَ والعصيانَ والفسوقَ ويُعرضُ عن الإيمانِ فيُضله عزوجل إلى طرق الضلال المتعددة.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ) (الرعد: 11) فهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن الله عزوجل لا يُغير حالَ الإنسانِ من هدايةٍ أو ضلالٍ حتى يقوم الإنسانُ بنفسِهِ بتغيير نيتِه وقلبِه وروحهِ المُتصلةِ بجسدهِ، أي نَفسِه، بالعزم على طلب الهداية أو بالعزم على الإعراض عنها فإذا طلب الهداية ورغب فيها عندئذ سوف يُوفقه اللهُ عزوجل ويُرشدهُ إلى الهدايةِ بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها، أما إذا أعرض وإستكبر عن الهداية وأضل نفسه فعندئذ الله عزوجل سوف يتركه في ضلاله، قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (القلم: 7).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الخامسة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضيتين والتي هي بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
ثم قال الكاتب : فمن يختارُ الإهتداءَ إلى الإيمانِ والتصديقِ والإعتقادِ بألوهية ووحدانية وعظمة الله الملك العظيم الواحد مالك الملك فعندئذ سوف يهدي اللهُ قلبَهُ ويُوفقهُ إلى الإيمانِ والإذعانِ والإنقيادِ إلى اللهِ عزوجل بعبادته وطاعته في أوامره ونواهيه وبالتقرب إليه بأحبِ ما يُحبُ سبحانه وتعالى بأسبابِ الهداية الدنيوية بمختلف أنواعها من إرشادٍ وعلمٍ وعملٍ صالحٍ وغيرها، فالله عزوجل عليم بحال المرء وحال جميع ما يحيط به من الأسباب الدنيوية. لقوله تعالى (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (التغابن: 11). ثم يزيد اللهُ المؤمنين المهتدين هدايةً لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (محمد: 17)، وقوله تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) (مريم: 76). وفي المقابل نجد في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (الصف: 5) أنه عندما يَميلُ ويَنحرفُ الإنسان عن طريق الهداية المستقيم ويَختارُ الضلالةَ فعندئذ يُضِلُ اللهُ قلبَهُ فلا يُوفقهُ اللهُ إلى إختيار الهداية ويَتْرُكهُ في ضلالهِ لأنه أعرضَ عن طريق الهداية وأضلَ نفسه وبالتالي سوف ينتج عن ذلك نتيجة حتمية بسلوك الإنسان الضال لطرق الضلالة المتعددة فليس هنالك خيار ثالث، وهذا ما يُعتبر بمثابة تمهيد وتهيئة الله عزوجل للضال أسباب الضلال الدنيوية المتعددة.
فالكافرُ هو من يختارُ الضلالةَ ويستحبها على الهدايةِ، لقوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (فصلت: 17)، ولقوله تعالى ( اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) (إبراهيم: 2-3 )، وليس اللهُ من يجَعلُهُ يختارُ الضلالةَ كما قال المشركون في قوله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام: 148)، لأنه سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكُفرَ وإنما يرضى لهم الإيمانَ، لقوله تعالى (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزمر: 7)، وكذلك لقوله تعالى (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء: 147).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السادسة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضيات والتي هي بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
ثم قال الكاتب : إن الكافرَ هو من يختارُ الهدايةَ و الضلالَ طواعيةً من غيرِ إكراهٍ، وكذلك يعني أن ليسَ جميعُ الكافرين كارهين للهدايةَ، قال تعالى عن الكافرين (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (الزخرف: 77-78 )، فالآية الكريمة تُشير إلى أنَّ أكثرَ الكافرين كارهون للحق وليس جميعهم. لأن من يختار بين أمرين ويُفضلُ إحداهما على الآخرِ هو ليسَ بالضرورةِ كارهٌ لما أعرض عنه فقد يكون مُحباً لما أعرض عنه أو يميلُ إليه ولكنَّ حُبَهُ وميلَهُ لِما اختارهُ أكبرَ، وهذا يُفسرُ حقيقةَ أن الإنسانَ خُلِقَ من خيرٍ وشرٍ كلاهما معاً ولم يُخلقْ من شرٍ محض كما هو الشيطانُ وذريتُهُ. فوجودُ الخيرُ في الإنسانِ الكافرِ هو سببٌ لهدايته إذا شاء هو ذلكَ بعد مشيئةِ اللهِ عزوجل، قال تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة: 13)، وقال تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (النحل: 93 ). ولِذلِكَ لا أحدٌ يعلمُ خاتمةَ الإنسانِ إلا خالقَهُ اللهُ عزوجل فمن عَلِمَ اللهُ أن خيرَهُ أعظمَ مِن شَرِهِ ختم اللهُ له بالإيمان، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (النور: 21)، ومن عَلِمَ اللهُ أن شرَهُ أشَدَّ من خيرِهِ خَتمَ لهُ بالكُفرِ، قال تعالى عن الكافرين (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) (المؤمنون: 106) أو أنَّ شَرَهُ إستحوذ عليه خَتمَ له بالنفاقِ أو بالكُفرِ، قال تعالى عن المنافقين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المُجادلة: 19).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة السابعة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضيات والتي هي بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
ثم قال الكاتب : ولكن هنا قد يظهر تناقضٌ ظاهري، فيقول قائل: كيف يستقيم أن الله عزوجل لا يمهد ولا يهيء أسباب الهداية أو الضلال للإنسان إلا عندما يختار بنفسه الهداية أو الضلال حسب ما ذُكر سابقا، بينما تَمَ ذِكرَ أن اللهَ عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم أنه ليس مهتدي وأنه على ضلالة ثم إستجاب لنداء الهداية واهتدى، وكذلك أن الله عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم عدم رغبته وطلبه للهداية فكانت النتيجة أنه إستكبر ولم يستجب لنداء الهداية؟
فالجواب هنا أنه ليس هنالك أي تناقض، لأنه بما أنَّ الإنسانَ الضالَ قد اهتدى ولبى نداءَ الهدايةِ واستجاب لهُ فهذا يعني أنه عزم على الهداية ورغب فيها في نيته وقلبه وروحه المتصلة في جسده، أي نفسه، وهو ما لا يزال في الظاهر ضالٌ لكن الله الملك العظيم العليم علام الغيوب علم ما في قلبه لأنه سبحانه وتعالى يعلمُ السرَ وأخفى فيعلم اللهُ بعلمه السابق متى سوف يعزمُ العبدُ على الهداية في قلبه بإختياره وعندما يغير ويبدل نيته وحال قلبه ونفسه فعندئذ يبدل الله عزوجل حاله لقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ) (الرعد: 11)، فيوفقه إلى الهدايةِ بقلبهِ ثم يرشدهُ إليها بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها فيستجيب ذلك الإنسان الضال لنداء الهداية لأنه طلب الهدايةَ في قلبه بإختياره فوفقه اللهُ إلى ذلك ثم أرشدهُ اللهُ إلى الهدايةِ بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ التي تُعينهُ على الهداية.
أما بما يتعلق بأن الله عزوجل يهيء أسباب الهداية الدنيوية لإنسان لا يرغب ولا يطلب الهداية وبالتالي لا يستجيب لنداء الهداية ويستكبر عنه، فإن تفسير ذلك هو أن الله عزوجل يهيء أسباب الهداية الدنيوية لذلك الشخص من أجل أن يقيم الحجة عليه لقوله تعالى (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (الإسراء: 15)، فالآية الكريمة تشير إلى أن الله الملك العظيم هو العزيز الغني فمن إهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها فلن يضرُ اللهَ عزوجل إعراضُ وإستكبارُ بعضُ الناسِ عن الإستجابةِ لنداءِ الهدايةِ، ولكن الله الملك العظيم هو العدل المقسط فلا يُعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بتبليغه دعوة الهداية سواء عن طريق رسول أو عن طريق نبي أو عن طريق من سار على نهجهم من الدعاة.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه الحلقة الثامنة والثلاثون في موضوع الهداية وستكون إستكمالا للماضيات والتي هي بعنوان :
*الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ
ثم قال الكاتب : وكذلكَ رُغمَ أنَّ السعادةَ والشقاوةَ هي مقدرة ومفروغ منها في علم الله السابق لخلق الإنسان في الحياة الدنيا، فإنَّ الإنسانَ هو من يختار لنفسه الشقاوة والسعادة. كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في جنازَةٍ ، فأخذَ شيئًا فجعلَ يَنْكُتُ بهِ الأرضَ ، فقالَ : ( ما منكمْ من أحدٍ ، إلا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ من النارِ ومقْعَدُهُ من الجنةِ. قالوا : يا رسولَ اللهِ ، أفلا نَتَّكِلُ على كتَابِنَا ونَدَعُ العملَ ؟ قالَ : اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لهُ ، أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ . ثم قرأَ :{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى } الآية. فتفسير هذا الحديث هو أن الله عزوجل خلق الكافرين والمنافقين ليكونوا من أهل النار في علمه سبحانه وتعالى السابق لكل شيء فيَسَر لهم عمل أهل النار لكي يستحقوا دخولها جزاءاً وعدلاً على عملِهم الذي إختاروا فعلَهُ، وكذلك خلق المؤمنين ليكونوا من أهل الجنة فيَسَر وهيأ لهم عمل أهل الجنة لكي يستحقوا دخولها رحمةً ومنةً من اللهِ سبحانه وتعالى على هدايته لهم لِعملِ أهل الجنةِ الذي إختاروا فِعلَهُ لقوله عليه الصلاة والسلام عن الله عزوجل : (... يا عبادي ! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه ...) وذلك متوافقٌ مع قوله تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (الأحزاب: 72-73)، فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الله عزوجل خلق الإنسان وقدر عليه حمل أمانة عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده من أجل أن يعذب المنافقين والمشركين في النار جزاءا وعدلا على أعمالهم وينعم ويتوب على المؤمنين بالجنة رحمةً وِمنَةً من الله سبحانه وتعالى على هدايته لهم، فمن كان من أهل السعادة لحبه للهداية وإختياره لها وخُتِمَ له بذلكَ لقوله عليه الصلاة والسلام (الأعمالُ بالخَواتيمِ) وكذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (إنَّ الرَّجلَ ليعملُ الزَّمنَ الطَّويلَ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ ، ثمَّ يُختمُ عملَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجلَ ليعملُ الزَّمنَ الطَّويلَ بعملِ أَهْلِ النَّارِ ثمَّ يختمُ لَهُ عملَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ. ) فإنَّ اللهَ عزوجل يُوَفقه ويُرشِدُه بأسبابِ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها لعملِ أهلِ السعادةِ أو عملِ أهلِ الجنةِ من عمل القلب بالنية الصالحة وعمل اللسان بالقول الصالح وعمل الجوارح بالطاعات التي عزم القلب على عملها، بينما من كان من أهل الشقاوة وخُتِمَ له بِذلكَ يَترُكْهُ الله في ضلاله ولا يوفقهُ إلى الهداية لِكُرهِهِ لها وإعراضهِ عنها و وبالتالي يضلُ في طرق الضلالة المتعددة أيها شاء لِيعملَ بعمل أهل الشقاوة أو عمل أهل النار من عمل القلب بالنية الفاسدة وعمل اللسان بالقول السيء وعمل الجوارح بإرتكاب المعاصي والآثام التي عزم القلب على عملها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته( الأنترنت ـ موقع ملتقى أهل الحديث ـ المؤلف: خالد صالح أبودياك)
وهذه آخر حلقات هذا البحث العظيم المهم ( الهداية ) وقد جمعت فيه ما استطعت من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء ؛ وهو أشبه ما يكون بالتفسير الموضوعي ، اسأل الله أن يجعله علماً نافعاً وعملاً صالحاً متقبلاً ، وأن يهدينا الى سواء السبيل ، وأن يهدي أبنائنا وأزواجنا ، وأخواننا وأخواتنا وجميع المسلمين إلى صراطه المستقيم آمين ، إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله ، وعلى أتم الإستعداد للرجوع عن خطأي ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الهداية
{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }
تأليف الدكتور
مسفر بن سعيد دماس الغامدي