الحسيب
بسم الله الرحمن الرحيم- المختصر-المقدمة:
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا اله الا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته،ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران/ 120،وقال تعالى : { يائها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } النساء / 1 ،وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } الأحزاب /70 ، 71 وبعـــــد : فهذه الحلقة الأولى في موضوع (الحسيب ) وهي تتضمن المقدمة والتعريفات.
عندما بيّت أهل الكفر الخديعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، واستبطنوا له خلاف ما يظهرونه، طمأن الله سبحانه وتعالى نبيّه، فأنزل عليه: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله} (الأنفال: 62)، فبيّن سبحانه أنه حسيبٌ لنبيّه فلا ينشغل باله بما يكيدون.
وحسبي الله ونعم الوكيل :تقال هذه الكلمة المباركة في مقامين: مقام طلب المنافع ، ومقام دفع المضار :
فمن الأول: قول الله تبارك وتعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] .
ومن الثاني: قول الله تبارك وتعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].
وجُمِعَ الأمران في قول الله عزَّ وجلَّ : {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. أي: قل حسبي الله لجلب النعماء ، ولدفع الضرِّ والبلاء . [الأنترنت – موقع الدكتور عبدالرزاق البدر]
معنى الحسيب : الأصل في الاشتقاق :
الحسيب مأخوذٌ من الفعل: حسِبَ، يُقال: حسَبته أحسِبه حَسبا وحِسَابا وحُسبانا، وحِسابة، إذا عددته، وحاسبته من المحاسبة. يقول الكسائي: "ما أدري ما حَسَبُ حديثك، أي ما قَدْرُهُ".
والحَسَبُ يُطلق كذلك على ما يعدُّه الإنسان من مفاخر آبائه وأجداده، فيُقال: فلانٌ حسيب، أي كريم الأصل والمحْتَد، ويقال: حَسَبُهُ دينُهُ أو مالهُ، والحُسبان بالضم معناه: العذاب، ومثاله من كتاب الله تعالى قوله: { ويرسل عليها حسبانا من السماء} (الكهف:40)، ويُطلق كذلك على الحساب، وذلك كقوله تعالى: {الشمس والقمر بحُسبان} (الرحمن:5)، ومعناه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يجريان بعدد وحساب، وتقول العرب أن الحسبان، جمع حُسبانة، وهي الوسادة الصغيرة. وقد حسبت الرجل أحسبه، إذا أجلسته عليها ووسّدته إياها.
وجرى على الألسنة قولهم: احتسبَ فلان ابنه، وذلك أن يعدّ فقيده في الأشياء المذخورة له عند الله تعالى، ومن هذا الإطلاق قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ) البخاري، أي مريداً وجه الله وثوابه. والحسب هو الكفاية، ونحن نقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ونقصد بأن الله هو كافينا من كلّ شيء، وقد خاطب أبو بكر رضي الله عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فقال: "حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك" رواه البخاري.
وأما قول الرجل للآخر: حسيبك الله،فله أربعة معانٍ، الأوّل: العالم، فيكون الكلام قد خرج مخرج التهديد، فهو كقوله: الله مطّلع وعالم بما تفعله، والثاني: الاقتدار، فكأنّه يقول: الله قديرٌ عليك، والثالث: الكفاية، فالله كافيك وناصرك، والرابع: المحاسبة، فيكون المقصود: الله محاسبك على أفعالك.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية في موضوع (الحسيب ) وهي تتضمن التعريفات.
المعنى الاصطلاحي :
بالعودة إلى كلام العلماء في معنى اسم الله "الحسيب" نجد أنها تدور على أربعة معانٍ: الحفظ، والكفاية ، والشهادة، والمحاسبة، وما تستلزمه هذه الصفات من العلم الكامل.
يقول الشيخ السعدي في تعريف هذا الاسم: "الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق اعمالهم وجليلها".
والحسيب بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل،
وبالفضل، وهوالذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر، ثم يُحاسبهم عليها ويُجازيهم بها على حسب مقتضيات أعمالهم، قال الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه*فسوف يحاسب حسابا يسيرا*وينقلب إلى أهله مسرورا*وأما من أوتي كتابه وراء ظهره*فسوف يدعوا ثبورا*ويصلى سعيرا} (الانشقاق:8-12).
وتأتي بمعنى الكفاية، فالله هو الكافي عباده همومهم وغمومهم، وكفايته لعباده عامّة وخاصّة، فأما العامّة فهي التي تقتضي آثارها من الرزق والإمداد بالنعم، وتكون لجميع الخلائق، وأما الخاصة فهي للمؤمنين به، المتوكّلين عليه، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، أي: يكفيه أمور دينه ودنياه.
قال ابن القيم: وهو الحسيب كفاية وحماية ... والحسب كافي العبد كل أوان
أدلة هذا الاسم من النصوص الشرعيّة :
ورد اسم الله "الحسيب" في ثلاث آيات :
الأولى قوله تعالى: {وكفى بالله حسيبا} (النساء: 6)، وبنفس اللفظ في (الأحزاب: 39) ثانيا
وثالثا وردت في قوله تعالى: {إن الله كان على كل شيء حسيبا} (النساء: 86).
ومن السنّة : ما ورد من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن كان أحدكم مادحا لا محالة؛ فليقل: أحسب كذا وكذا - إن كان يرى أنه كذلك- وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحد) متفق عليه.
وقد ورد هذا الاسم كذلك في حديث إحصاء التسعة والتسعين اسماً لله تبارك وتعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس يصحّ عند المحدّثين.
آثار الإيمان بالاسم الحسيب :
الله سبحانه وتعالى هو الكافي لجميع الخلائق ، وأما المخلوق فقد يكفي مؤونة أحد، لكنّه لا يكفي مؤونة كلّ أحد، وإذا استطاع مدّ يد المعونة فذلك لأجل معلوم ووقت محدود، أما الله فهو الكافي سبحانه لجميع الخلائق على وجه الدوام، يقول الغزالي: "الله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا تُتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده، ولدوام وجوده، ولكمال وجوده، وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله عز وجل؛ فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء، أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء، ويدوم به وجودها، ويكمل به وجودها".
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم: الثقة بالله سبحانه وتعالى والركون إليه، واستشعار معيّة العبد للخالق في جميع الأوقات ومختلف الأحوال، بحيث يكفيه همّه كلّه، ولا يحوجه إلى أحدٍ غيره، كيف لا وهو سبحانه له مقاليد السماوات والأرض، وبيده الأمر كلّه؟[الأنترنت – موقع إسلام ويب - أسماء الله الحسنى – الحسيب -اسم الكاتب: إسلام ويب] [ الأنترنت – موقع المنتدى الرسمي – للدكتور / محمد العريفي - الحسيب ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان :
” حسبنا الله ونعم الوكيل ” ما حقها منك ؟ :”
انظر إلى قول الله تعالى لنبيه:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الأنفال : 64
لو تصورت الآن بخيالك وقع هذا الكلام على قلب النبيّ صلّ الله عليه وسلم وأصحابه !!
تخيل لو أنك في مشكلة كبيرة تسبب لك خوف وقلق بالغ ثم تجد إنسان له منزلة كبيرة يأتي بجانبك ويربت على كتفك ويقول لك : لا تخاف أنا معك، أنت في حمايتي أنت في ضماني ..
كيف يكون أثره وقد ضاقت عليك الدنيا من كل مكان ؟ لا شك أنك ستشعر بالظفر وبكثير من الدفء والحنان والأمان .. أليس كذلك ؟
فحين يقول الله عزوجل:“يا أيها النبي حسبك الله” أدركها النبي صلى
الله عليه وسلم ففرح واستبشر، فمن كان الله معه ماذا فقد ومن كان الله عزّ وجلّ بعيداً عنه فماذا وجد :””
وحقّ قول الله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
أن يكون ردك : بلى يارب ومن يكفيني غيرك؟
يقولها قلبك فتشعر بلذة تودده إليك وقربه منك، فتزداد بدورك حبا وقربا له سبحانه :
من المعاني التي ينبغي أن نتوقف عندها ملياً في اسم الله تعالى الحسيب هي مسألة المحاسبة :” أربع ورقات
فلابد أن يكون الإنسان دائماً وأبداً محاسباً لنفسه ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ” فمن حاسب نفسه بدقة في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.
فلا يمر بك يوم دون أن تنظر أين أنت من الطريق ؟
هل تقدمت أم تأخرت ؟
وقد تتسائل الآن: على أي شيء أُحاسب نفسي؟
أحسبها بحرص وعناية ابدأ أولاً بالأمور العظام الكبار وانظر فيها فإن وجدتها خفيفة عندك فاعلم أن هذا وزنك، يعني :ماشأن الصلوات عندك؟ عظيمة هي عند الله، ما شأنها عندك وما وزنها ؟
هل هي عظيمة في قلبك ؟ :”
وانظر لـأخلاقك وسلوكياتك !
فالأخلاق عظيمة عند الله..
ألم يأتي في الحديث “الرجل يدرك بحسن خلقه منزلة الصائم القائم”
فهل للأخلاق مكانة عندك ؟ :”
وهكذا سلّ نفسك كثيراً هذه الأسئلة، ابدأ بأعظم الأعمال عند الله ثم تدرج شيئا فشيئا إلى أن تصلي بالمحاسبة إلى خطرات النفوس
كذلك تحاسب نفسك على النواهي، فتعرف ما الكبائر التي تقع فيها فتسارع في التوبة منها والإقلاع عنها لعل الله يكفر عنك ما سواها،
قال الله عزّ وجلّ :{إن تجتنبوا كبائرما تنهون عنه نكفرعنكم سيئاتكم } :”
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان : أدب المؤمن مع ربه
واعلم أنه من أدب المؤمن مع ربه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه غداً على الكبيرة والصغيرة، ويطالبه بالنقير والقطمير ومن وراء علم العبد بذلك عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، فيطالب قلبه بالقيام بالحقوق قبل أن يطالبه سواه، ومتى راقب العبد معنى الحسيب تجلّى له نور الله القريب، فانبثق في قلبه نور فإذا نفسه تحاسبه على التقصير في الطاعة وتذكّره بحساب يوم القيامة :”
وختامًا : إذا ولّى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت لأن حسبك الله :” إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفّت بك النكبات، وأحاطت بِك الكوارث، فاثبت لأن حسبك الله :”” لا تلتفت إلى أحد من الناس، ولا تدعو أحداً من البشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله..
لأن حسبك الله. إذا ألمّ بك مرض، وأرهقك دين، وحلّ بك فقر، أو عرضت لك حاجة، فلا تحزن لأن حسبك الله. إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وأدلهمّ الخطب. فلا تحزن لأن حسبك الله إذا وقعت في ظلمٍ شديد وضاقت بك الأرض بما رحبت ولم تجد أحداً ينصفك ، لا تقلق لأن حسبك الله ، يكفيك ما أهمّك ، وينصرك على من ظلمك ، ويقيك كلّ ذي شرّ
جدد علاقتك مع الله ، كن منه أقرب .. استشعر هذا الاسم العظيم واربطه بجوانب حياتك ، علق قلبك بالله ، وانظر لازدهار حياتك حينها :” استيقن أنّ الله هو حسبك وكفى به حسيباً [الأنترنت - نادي غَيْم الدعوي ]
ومن آثار الإيمان باسم الحسيب :
لا مفر من حساب الله: الله لا يشغله حساب أحد عن أحد، ولن يكون هناك دور تنتظر فيه ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة،
قال جلّ في علاه :{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر : 17] وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى.
إن الحسيب معناه الكافي : انظر إلى هذا الدعاء الجميل الذي نردده كثيرا لكن نحتاج أن نستشعره بقلوبنا،
في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-حين ألقي في النار وقالها محمّد -صل الله عليه وسلم - حين قالوا{ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }(آل عمران173)" (صحيح البخاري) ما أحبّ هذا الدعاء إلى القلوب "حسبنا الله" تشعر بها بالسكينة على قلبك،الله يكفيني، يكفي قلبي فلا أقلق ولا أنزعج ولا أرتاب ولا تصيبني من جرّاء الخوف أي إساءة ولا أي إشكال كيف وقد أنزل ربي سبحانه وتعالى على قلبي برد الرضا فصرت ساكناً هادئاً مرتاحاً.
إذاً فمن حظ المؤمن أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه بل لا يتصور العبد حياته دون ربه،
فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء.
فتجد دائما العبد المنيب إلى ربه دائم الاتصال بربه وكلمة (يارب ) هذه لا تخلو منها ساعة من وقته " يارب" دائماً يارب اغفر لي ،يارب تب عليّ ،يارب استرني ،يارب يارب ليس لي سواك.. يارب يارب.. يتصل بالله سبحانه وتعالى في كل وقت وفي كل حين .
لاشك أن المعنى الثالث : الذي ينبغي أن نتوقف عنده ملياً في اسم الله تعالى الحسيب هي مسألة المحاسبة :
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان : شروط وأركان المحاسبة
وضع العلماء للمحاسبة شروطاً وأركاناً ينبغي أن نفقهها :
أول الأمر : أن يكون الإنسان دائماً أبداً محاسباً لنفسه " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.
ثم اعلم أنه من أدب المؤمن مع ربه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه غداً على الكبيرة والصغيرة، ويطالبه بالنقير والقطمير ومن وراء علم العبد بذلك عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، فيطالب قلبه بالقيام بالحقوق قبل أن يطالبه سواه، ومتى راقب العبد معنى الحسيب تجلّى له نور الله القريب، فانبثق في قلبه نور فإذا نفسه تحاسبه على التقصير في الطاعة وتذكّره بحساب يوم القيامة. [سلسلة شرح الأسماء الحسنى - هاني حلمي ]
من آثار الإيمان باسم الله الحسيب ~ محاسبة النفس ، قال الماوردي في مـعـنـى المحاسبة: "أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمـضـــــاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل"
وقفة مختصرة مع أهمية المحاسبة وبعض الآثار الواردة فى ذلك :
قال ـ تعالى ـ:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]،
وقال مالك بن دينار:"رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً".
ويـقــول الله ـ عزّ وجلّ ـ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه:
{إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.[الأعراف: 201].
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر" يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] )، .محاسبة النفس ضرورة ملحة- [محمد حسين يعقوب ]
قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: "واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها من مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها." [صالح العليوي ]
أركان المحاسبة :
أحدها : أن تقايس بين نعمته وجنايتك .
يعني تقايس بين ما من الله وما منك ،فحينئذ يظهر لك التفاوت ، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته ، أو الهلاك والعطب . وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها ، وعظمة جلال الربوبية ، وتفرد الرب بالكمال والإفضال ، وأن كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل ، وأنت قبل هذه المقايسة جاهل
بحقيقة نفسك ، وبربوبية فاطرها وخالقها ، فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كل شر ، وأساس كل نقص، وأن حدها الجاهلة الظالمة ، وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبدا ، ولولا هداه ما اهتدت ، فهناك تقول حقا:
" أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي "
الثاني من أركان المحاسبة : وهي أن تميز ما للحق عليك من وجوب العبودية ، والتزام الطاعة ، واجتناب المعصية ، وبين ما لك وما عليك ، فالذي لك : هو المباح الشرعي ، فعليك حق ، ولك حق ،فأد ما عليك يؤتك ما لك . ولابد من التمييز بين ما لك وما عليك، وإعطاء كل ذي حق حقه
الثالث : أن تعرف أن كل طاعة رضيتها منك فهي عليك، وكل معصية عيرت بها أخاك فهي إليك .
رضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه ، وجهله بحقوق العبودية ، وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به . [مدارج السالكين لابن القيم ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السادسة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان : كيفية محاسبة النفس :
محاسبةِ النفس نوعـان : نوعٌ قَبلَ العمل ، ونوعٌ بعدَه .
النوعُ الأول : محاسبة النفس قبل العمل : وهو أن ينظرَ العبدُ في هذا العمل ، هل هوَ مقدورٌ عليهِ فيعملَه؟
مثل الصيام والقيام . أو غيرَ مقدورٍ عليهِ فيتركَه. ثم ينظر هل في فعله خيرٌ في الدنيا والآخرة فيعملَه ، أو في عملِه شرٌ في الدنيا والآخرة فيتركَه . ثم ينظر هل هذا العمل للهِ تعالى أم هو للبشر ؟، فإن كان سيعملُه لله فعلَه ، وإن كانت نيتَهُ لغيرهِ ترَكه. [مقال محاسبة النفس - صيد الفوائد ]
النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع : النوعُ الأول : محاسبة النفس على طاعاتٍ قصَّرتْ فيها . كتركها للإخلاصِ أو للمتابعة ،أو تركِ العمل المطلوب كترك الذكر اليومي ، أو تركِ قراءةِ القرآن ، أو تركِ الدعوة أو ترك صلاةِ الجماعة أو ترك السننِ الرواتب . ومحاسبة النفس في هذا النوعِ يكون بإكمالِ النقص وإصلاح الخطأ ، والمسارعةِ في الخيرات وترك النواهي والمنكرات ، والتوبةِ منها ، والإكثارُ من الاستغفار ،ومراقبةُ اللهِ عز وجل ومحاسبة القلب والعمل على سلامتِه ومحاسبةُ اللسان فيمـا قالَه ، وإشغالِه إما بالخيرِ أو بالصمت ،وكذلك يكونُ بمحاسبة العين فيما نظرت ، فيطلقها في الحلالِ ويَغُضُّها عن الحرام ، وبمحاسبة الأُذن ما الذي سَمِعته ، وهكذا جميعِ الجوارح .
النوعُ الثاني من أنواع محاسبة النفس بعد العمل : أن يحاسبَ نفسَهُ على كلِّ عملٍ كانَ تركُهُ خيراً من فعله ؛
لأنهُ أطاعَ فيه الهوى والنفس ، وهو نافذةٌ على المعاصي ، ولأنهُ من المتشابه ،يقولُ صلى الله عليه وسلم :
(( إن الحلال بَيِّن ! وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثيرٌ من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقعَ في الشبهات وقع في الحرام )) .ويقولُ عليه الصلاة والسلام : (( دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )).
والنوع الثالث : أن يُحاسبَ الإنسانُ نفسَه على أمرٍ مباح أو معتاد : لـمَ فعله ؟ وهل أرادَ به الله والدارَ الآخرة فيربح ، أم أرادَ به الناسَ والدنيا فيخسر ذلك الربح ويفوتَهُ الظَفَرُ به[مقال محاسبة النفس- صيد الفوائد ]
*إيمانًا واحتسابًا:
الاحتساب لغة: مصدر احتسب وهو من مادة (حَ سَ بَ) التي تدل في اللغة على معانٍ عديدةٍ منها:
العدُّ والكفاية. ومن المعنى الأول (العدُّ) قولهم: حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً، ومن الباب: الحِسبَةُ وهو الأجر أو احتساب الأجر، ويقال: أحتسب بكذا أجراً عند الله، وفي الحديث: "من صام رمضانَ إيماناً واحتساباً". أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه..
والاحتساب اصطلاحاً :
قال الكفوي: الاحتساب: هو طلب الأجر من الله تعالى بالصبر على البلاء مُطمئنةً نفس المحتسب غير كارهةٍ لما نزل بها من البلاء.
وقال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات البِدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر،
أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو منها. ومن التعريفيين السابقين،
يكون الاحتساب ثلاثة أنواع هي:
1-احتساب الأجر من الله تعالى عند الصبر على المكاره، وخاصة فقد الأبناء إذا كانوا كباراً.
2- احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطاعات يُبتغى به وجهه الكريم كما في صوم رمضان إيماناً واحتساباً، وكذا في سائر الطاعات.
3- احتساب المولى ـ عز وجل ـ ناصراً ومعيناً للعبد عند تعرضه لأنواع الابتلاء من نحو منع عطاء أو خوف وقوع ضرر، ومعنى الاحتساب في هذا النوع الثالث الاكتفاء بالمولى ـ عز وجل ـ ناصراً ومعيناً والرضا بما قسمه للعبد إن قليلاً وإن كثيراً. والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة، ومن قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}. [آل عمران: 173]. وهذه الآية في النوع الثالث من أنواع الاحتساب.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان : الأدلة على الاحتساب:
ومن الأدلة على الاحتساب عند الطاعات قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم}. [البقرة: 218]. والآيات والأحاديث في الاحتساب كثيرة، قد يطول المقام بحصرها.. [موقع صيد الفوائد ]
الاحتساب تجارة المخلصين :
مما لا شك فيه أن ما عند الله خيرٌ وأبقى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الشورى:36].
فما قدمه العبد لنفسه من الصالحات يجده عند الله تعالى كاملاً مضاعفًا:
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً)[المزمل:20].
من هنا تأتي أهمية الاحتساب، إذا استحضر العبد هذا المعنى العظيم في نفسه عند قيامه بالطاعات فإنه سيدفع عن نفسه خواطر السوء من السمعة والرياء وطلبة المدح والثناء من الناس إلى غير ذلك من الآفات التي تحبط العمل أو تنقص الأجر؛ لأنه حصر همه في رضا الله وطلب الأجر منه.
وعندئذ يفوز بالأجر العظيم والثواب الجزيل، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من صام رمضان إيمانًا و احتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
بل إن العبد المسلم يؤجر على نفقته على أهله وهي واجبة عليه كأجر الصدقة إن هو احتسبها كما ورد في الحديث:
"إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". فانظر كيف عظم الأجر بسبب الاحتساب في الطاعات فاحتسب أيها الحبيب في طاعاتك وعباداتك، واحتسب في البلايا والشدائد، يثبت الله قلبك ويعلي ذكرك ويضاعف أجرك. [الاحتساب تجارة المخلصين - إسلام ويب ]
من فوائد الاحتساب :
1- امتثال لأمر الله و متابعة لرّسول الكريم.
2- يزكّي العمل فيتضاعف رصيد الإيمان والحسنات
3- سبب للاخلاص والبعد عن شبهة الرياء فلا تريد من أحد جزاءا ولا شكورا لأن النية محلها القلب...فمن يطلع على القلب غير الله؟
4- من علامات حسن الظن بالله فأنا أعمل العمل الصالح وأنا أحسن الظن بربي الكريــم أنه سيقبل عملي مع تقصيري وجهدي
5- سبب لتقوية العزم فحتى لو كسلت في وسط العمل فمجرد ما اتذكر الثواب والأجر أرجع أنشط مرة اخرى
6- المداومة على الاحتساب تجعل الحياة كلها طاعات
فجميعنا نصوم رمضان كباقي الناس في كل عام لكن العاقل من يستفيد من كل لحظة فيه فيحتسبها طاعة فيأخذ الثواب على حسب عدد النوايا التي عددها في العمل الواحد
7- بالاحتساب توهب لك أعمالك عند طروء عذر شرعي منعك من القيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مرض العبدُ أو سافر ، كتب اللهُ تعالى له من الأجرِ مثلَ ما كان يعملُ صحيحًا مُقيمًا " -
8- الاحتساب يزيد العبد رفعة عند ربه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : "إنك لن تُخَلَّفَ، فتعمَلَ عملًا تبتغي به وجهَ اللهِ، إلا ازدَدتَ درجةً ورِفعَةً" - صحيح البخاري
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة في موضوع (الحسيب ) وهي بعنوان :
*وقفة مع "إيمانًا و احتسابًا" :
جاء في فتح الباري : والمراد بـِ " الإيمان " : الاعتقاد بحق فرضية صومه ، و المراد بـِ " الاحتساب " طلب الثواب من الله تعالى .
وقال الخطابي " احتسابا " : أي عزيمة ،وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير كارهة له ، ولا مستثقلة لصيامه ولا مستطيلة لأيامه .
وفي مثل هذا يقول ابن الجوزي : قوله صلى الله عليه وسلم : " إيمانا و احتسابا " أي
تصديقا بالمعبود الآمر له ،وعلما بفضيلة القيام ووجوب الصيام ،وخوفا
من عقاب تركه،ومحتسبا جزيل أجره،وهذه صفة المؤمن.
وهذا الحديث دليل بيِّن على أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل؛ إلا مع الايمان و الاحتساب و الإخلاص و صدق النيات والله أعلم
ومن لطائف هذا الحديث :
أنّ المعَوَّل على القبول لا على الاجتهاد وحده ، بل بـ "بـر القلوب" معه ، فرُب قائم حظه من قيامه السهر ،وكم من قائم محروم ، وكم من نائم مرحوم ؛ نام وقلبه ذاكر وذاك قام وقلبه فاجر!
لكنَّ العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات.
معنى الحسيب في حقّ الله تعالى :
الكافي – سبحانه – جميع عباده كل ما يحتاجون إليه من المنافع، الدَّافع عنهم كل ما يكرهون من المساوئ
يقول الشيخ السعدي في تعريف هذا الاسم :
“الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين همومهم وغمومهم ، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها.
والحسيب بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل ، وبالفضل، و يحفظ أعمال عباده من خير وشر، فهو الذي يحاسب كل الخلائق، يوم يردون إليه، وقد أحصى منهم كلَّ شيءٍ عددًا، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرَّة، في الأرض ولا في السموات العلى يُحاسبهم عليها ويُجازيهم بها على حسب مقتضيات أعمالهم ()
قال تعالى: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} الأنبياء.
و قال الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه*فسوف يحاسب حسابا يسيرا*وينقلب إلى أهله مسرورا*وأما من أوتي كتابه وراء ظهره*فسوف يدعوا ثبورا*ويصلى سعيرا} الانشقاق:8-12 :” أربع ورقات برسيم
وهو الذي يُحصي أعداد المخلوقات، وهيئاتها، وما يميِّزها، ويضبط مقاديرها، وخصائصها، ويحصي أعمال المكلَّفين، في مختلف الدواوين. والله تعالى هو: {أسرع الحاسبين} الأنعام.
لا أحد أسرع حسابًا منه، فلا يشغله حساب أحدٍ عن أحد.
والحسب هو الكفاية، ونحن نقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ونقصد بأن الله هو كافينا من كلّ شيء :”
و كفايته لعباده نوعان:
الأولى: كفاية عامّة
للخلائق كلها بإيجادها، وإرزاقها، وإمدادها، لكل ما خلقت له، وهيَّأ للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم، ويقنيهم
و الثانية: كفاية خاصة
لعباده الموحِّديـن، المخلصيـن لـه فـي العبوديـة ، بالنصر والتمكين، الدافع عنهم في كلِّ ما يكرهون، الكافي لكل أمورهم في الدنيا والدين، قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} الأنفال ، أي كافيك، وكافي أتباعك ، فعلى قدر المتابعة تكون الكفاية والنصرة والعناية قلب أسود عريض
وأخَصّ من ذلك: أنه الحسيب للمتوكِّلين، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} الطلاق: : 3
أي: كافيه كل أموره الدينية، والدنيوية، فيغنيه عن كلِّ ما سواه من البرية، فكفاية الله تعالى لعبده، بحسب ما قام به من متابعة الرسول، ظاهرًا، وباطنًا، وقيامه بعبودية الله تعالى .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان : *وقفة مع"إيمانًاواحتسابًا" :
قول الرجل للآخر : (حسيبك الله ) له أربعة معان :”
الأوّل : العالِم فيكون الكلام قد خرج مخرج التهديد، فهو كقوله: الله مطّلع وعالم بما تفعله.
والثاني : الاقتدار فكأنّه يقول: الله قديرٌ عليك.
والثالث : الكفاية فالله كافيك وناصرك.
والرابع: المحاسبة فيكون المقصود: الله محاسبك على أفعالك.
يُسمى الله بـ ” الحاسب ”
أورد بعض العلماء تسمية الله تعالى باسم “الحاسب”
واستدلّوا على هذا الاسم بقول الله تعالى: {وكفى بنا حاسبين} الأنبياء:47
وقوله تبارك وتعالى، {وهو أسرع الحاسبين} الأنعام:6 وعلى الرغم مما ذكروه إلا أنه لا يظهر مشروعية تسمية الله تعالى بهذا الاسم ، فلا ينبغي أن نثبته له ، فإن الأدلّة التي قاموا بإيرادها لا تدلّ صراحةً على هذه التسمية، وإنما استنبط العلماء هذا الاسم من الألفاظ القرآنيّة الدالة على الصفة فحسب، لذلك نجد أن أكثر العلماء من الذين اعتنوا بجمع أسماء الله وتحقيقها لم يوردوا هذا الاسم.
[الأنترنت - نادي غَيْم الدعوي - نادي التوعية الدينية بكلية العلوم والدراسات الإنسانية بالجبيل .]
وقال الشيخ خالد السبت : حديثنا عن اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- وهو (الحسيب) وسيكون هذا الحديث -بإذن الله- متضمناً لأربع قضايا:
الأولى: في بيان معنى هذا الاسم الكريم.
الثانية: في ذكر ما يدل عليه من الكتاب، والسنة.
الثالثة: في ذكر ما يدل عليه هذا الاسم.
الرابعة: في الكلام على آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم.
أولا: ما يتصل بمعنى هذا الاسم الكريم:
الحسيب في لغة العرب يدل على معانٍ متعددة، والذي يناسب في هذا المقام من هذه المعاني فيما يتصل بأسماء الله –جل جلاله- قد لا يزيد عن ثلاثة.
المعنى الأول: من معاني (الحسيب) في لغة العرب هو: (الكافي)، تقول: حسبي، يعني: كفاني، حسبي كذا، حسبي منك كذا يعني: يكفيني كذا، إذا أعطاك أحد شيئاً،فاكتفيت،ثم قلت: حسبي، يعني: كفاني[انظ:جمهرة اللغة1/277]
المعنى الثاني: لـ(الـحسيب)، هو: أنه الذي يحاسب، فهي صيغة مبالغة، حسيب على وزن فعيل، يحاسب، فالذي يحاسب غيره يقال له: حسيب[انظر: تهذيب اللغة (4/192)، وانظر: الزاهر في معاني كلمات الناس (1/6).]
والمعنى الثالث -وهو قريب من المعنى الثاني- وهو المحصي، الذي يحصي الأشياء، لا يفوته منها شيء،[انظر: تفسير الطبري (20/278).كما سيأتي.]
فهذه المعاني الثلاثة صحيحة في حق الله -تبارك وتعالى-، وهي من جملة ما يفسر به هذا الاسم الكريم، فيقال: الله -تبارك وتعالى- هو الحسيب، يعني: الكافي من الحَسْب، بمعنى: الكفاية، وهذه الكفاية بنوعيها: الكفاية العامة لعموم الخلق، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقهم، ويعطيهم، وهو الذي يخلقهم، وهو الذي يكفيهم كل ما يحتاجون إليه، فلا يفتقرون إلى أحد سواه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق الناس، والخلائق، وخلق الأرض، وقدر فيها أقواتها، فكل ما يحصل للناس إنما هو من فضل الله جل جلاله- ، وكفايته، وهذه الكفاية قد جعل الله جل جلاله- سنته في هذا الكون أن جعل الأسباب، والمسببات، وهو جل جلاله- خالق الأسباب، كما أنه خالق المسببات، فينبغي أن ينظر إلى هذا المعنى بهذا الاعتبار، فهذه الوسائط التي يتحصلون بواسطتها على ما يحتاجون إليه من أرزاقهم، وأقواتهم هو الذي هيأها، وخلقها، وهداهم إليها، يعني: حينما خلق الله -تبارك وتعالى- الأرض، وهيأ فيها الأرزاق، والمعايش،وذللها هدى هذه المخلوقات إلى ما يكون به قوامها، وما يحصل به ما تتحقق به معايشها، علّمهم ذلك، وهداهم إليه هداية فطرية.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة العاشرة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *المحصي
انظر إلى الجنين وهو في بطن أمه، كيف تكون حياته؟ وما الذي يقيمه؟ جعل الله جل جلاله- له من الأسباب ما لا يد له فيه، وما لا يد لأحد من الخلق فيه، حتى الأم فإنها لا تعطيه شيئاً، ولا تتمكن من ذلك، ثم انظر إليه حينما يخرج من بطن أمه فإنه يلتقم الثدي، وقبل ذلك لم يكن ثدي أمه دارًّا بالبن، فإذا خرج هذا المولود در ثديها، ثم هدى الله جل جلاله- هذا الصغير إلى التقام ذلك الثدي، فصار غذاؤه من هذا اللبن، وهكذا تستطيع أن تقيس على ذلك كل ما تشاهده في هذه الحياة، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يكفي الخلق؛ ولهذا يقول ربنا -تبارك وتعالى-: وَآتَاكُمْ مِنْ كل ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ إبراهيم:34.
حتى في حال المرض، فإن بعض أهل العلم يقولون: ينبغي أن يُترك المريض فيما يشتهيه من الطعام، فإن الله قد يلهمه ما تحصل به عافيته، ثم انظر إلى أهل البوادي حيث لا يجدون الأطباء، أهل القرى، والمدن، والأمصار عندهم أطباء، لكن حيث لا يوجد الأطباء في البوادي، فكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وبعض أهل العلم -كابن خلدون- يقولون: "إن أهل البوادي لا يحتاجون إلى الأطباء كثيرًا"[ انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/7)، وتاريخ ابن خلدون (1/523).. ]، وإذا نظرت إلى حالهم، ومزاولاتهم في علاج الأمراض، والأدواء تجد أنهم يتوصلون إلى ذلك بأقرب طريق، وإذا نظرت إلى ما أعطاهم الله جل جلاله- من المنعة، والقوة، والقدرة على تحمل الأمراض وجدت ذلك يتناسب مع البيئة التي يعيشون فيها.
بل لو سألتم من يتطببون، ويتعاطون طب الحيوان فإنهم يقولون: يوجد عند الحيوانات من المناعة أضعاف أضعاف ما عند الإنسان، كنت أتعجب! أسأل بعضهم حينما يجرون العمليات لهذه الحيوانات، ثم تخرج، فتتمرغ بالتراب، أمَا يحصل عندها تلوث، وتسمم، ومضاعفات، المريض يحتاج بعد العملية إلى مدة في المستشفى، يحتاج إلى معقمات، ومضادات وما أشبه ذلك؟، قالوا: هي لا تحتاج إلى شيء من هذا، عندها مناعة قوية جدًّا، تخرج من العملية، وتجدها رابضة في التراب، ولا يضرها ذلك شيئاً، من الذي هيأ هذا، وجعل لكل شيء ما يصلحه، ويناسبه؟، إنه الله -تبارك وتعالى- الذي كفى خلقه ما يحتاجون إليه، وأما الكفاية الخاصة فهي لأهل الإيمان، تكون لأوليائه، وأهل طاعته، أهل العبودية الخاصة الذين عرفوه، فتوجهوا إليه، وتعبدوا إليه عبودية الاختيار، فاشتغلوا بذكره، وشكره وعبادته، فهؤلاء الله -تبارك وتعالى- يكلؤهم، ويحوطهم، ويحفظهم، وينصرهم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الزمر:36، و"العبد" هنا مفرد مضاف إلى المعرفة، الضمير (الهاء)، وذلك للعموم، بمعنى: أليس الله بكاف عباده؟ ويدل على ذلك القراءة الأخرى المتواترة، فذلك لا يختص بالنبي ﷺ، نعم هو -عليه الصلاة والسلام- أولى من يدخل في هذه الآية، ولكن الآية تشمل رسول الله ﷺ، وتشمل أهل العبودية الخاصة، بقدر ما يحققون من هذه العبودية بقدر ما يكون لهم من الكفاية؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، أليس الله بكافٍ عباده؟! على قدر ما يكون عندنا من العبودية على قدر ما يحصل لنا من الكفاية، إن زاد هذا زادت الكفاية، إن زاد الوصف زاد الحكم المرتب عليه، وهو الكفاية، وإن نقص الوصف وهو العبودية نقصت كفاية الله جل جلاله- للعبد بحسب ما قصر، وفرط، ونقص من عبوديته، فمن أراد كفاية الله جل جلاله- فليقبل عليه، ليتقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، لا سيما عبادات السر، إذا كان للعبد خبيئة لا يطلع عليها إلا الله جل جلاله- ولو كانت يسيرة- فإنه يجد أثر ذلك في الملمات، والكروب، والشدائد حينما تداهمه (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (11560)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (2961). ]، (احفظ الله يحفظك)[ أخرجه أحمد في المسند، برقم (2669)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (5302). ] ، فهذه أمور يحتاج المؤمن أن يربى عليها نفسه.
وأكثر ما جاء وصف (الحَسْب) في القرآن إنما يراد به هذا النوع الخاص، وهو كفاية أهل الإيمان، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُآل عمران:172-173، أي: أن الله يكفينا، ونعم الوكيل، فهذا كفاية لأهل الإيمان؛ ولهذا قال: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍآل عمران:174، حصلت لهم الكفاية، لم يمسسهم سوء، انقلبوا بألطاف الله جل جلاله-.
وهكذا في قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال:64، أي: أن حسبهم الله، وليس المعنى: أن حسبه الله، وأن حسبه من اتبعه من المؤمنين، أي: أن الله يكفيه بألطافه، وقوته، ومعونته، ويكفيه بأهل الإيمان، ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى: أن الله كافيك، وأنه يكفي من اتبعك من المؤمنين، فالله كافٍ أولياءه، هذا هو المعنى، حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، فهذا كله بهذا المعنى الخاص من الكفاية، هذا المعنى الأول للحسيب، يعني: الكافي الكفاية العامة، والكفاية الخاصة.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الحادية عشرة في موضوع ( الحسيب ) وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *المحصي
والمعني الثاني: وهو المحصي الذي يحفظ أعمال العباد من خير وشر، ويحفظها، لا يفوته من ذلك شيء، كما أنه يحاسبهم على ذلك، فهذا من معاني الحسيب، يحصي الأعمال، والآجال، وكل شيء، كما أنه أيضاً يحاسب عباده على أعمالهم، فهو حسيب بمعنى: محاسب، كما قال -تعالى-: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} النساء:6،على هذا المعنى، وسيأتي ما قاله ابن جرير-رحمه الله-في تفسيره.
وهكذا في قوله -تعالى-: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًاالنساء:86، ليس معناه: كان على كل شيء كافياً، وإنما يحصي الأعمال، ويحاسب عليها، ويجازي.
وهكذا في قوله –تعالى-: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ الأنعام:62 ليس معناه: هو أسرع الكافين، وإنما ذلك من المحاسبة، أو الحَسْب بمعنى: الإحصاء، والعد، كما سيأتي.
وهكذا في قوله -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء:47.
وهكذا قوله -تعالى-: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًاالطلاق:8، فذلك كله يرجع إلى هذا المعنى الثاني، والثالث، والله تعالى أعلم.
فالله –جل جلاله- حسيب بمعنى: ضابط لأعداد المخلوقات، وهيئاتها، وخصائصها، وأوصافها، ومقاديرها، ويضبط مقادير الأشياء، لا يفوته منها شيء، ويحصي أعمال المكلفين، ويحصي أرزاقهم، وآجالهم، وأقدارهم، ومآلهم حال كونهم في هذه الحياة الدنيا، وبعد موتهم عند الحساب
الله - جل جلاله- - حسيب بمعنى: ضابط لأعداد المخلوقات، وهيئاتها، وخصائصها، وأوصافها، ومقاديرها، ويضبط مقادير الأشياء، لا يفوته منها شيء، ويحصي أعمال المكلفين، ويحصي أرزاقهم، وآجالهم، وأقدارهم، ومآلهم حال كونهم في هذه الحياة الدنيا، وبعد موتهم عند الحساب
، قال -تعالى-: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِالرعد:8-9، لا يفوته شيء - جل جلاله- -، هذا الخلق الهائل بكل ذراته الله - جل جلاله- - قد أحصاه، وعده، ولا يغيب عنه قليل، ولا كثير، وعلى كثرة أفعال الناس، ومزاولاتهم، وعلى كثرة كلامهم الله -تبارك وتعالى- لا يفوته من ذلك شيء.
وهكذا جاءت عبارات المفسرين كما قال ابن جرير -رحمه الله- في قوله -تبارك وتعالى-: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاالنساء:6، هنا فسره بالكافي، أي: كافيًا من الشهود الذين يشهدون له أنه دفع مال اليتيم[انظر: تفسير الطبري (7/596).]
، كفى بالله كافياً، مع أن أكثر المفسرين لا يفسرونه هنا بالكافي، وإنما المحاسب، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاالنساء:6، فسره ابن جرير -رحمه الله- بالحافظ لأعمال الخلق[المصدر السابق (20/278).]
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا النساء: 86، يقول: "حفيظاً عليكم"[ المصدر السابق (8/591).]
فهنا يفسر ابن جرير -رحمه الله- مثل هذه المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- تارة بـ(الكافي)، وتارة بـ(المحصي)، وتارة بـ(الحفيظ) الذي يحفظ أعمال العباد - جل جلاله- وتقدست أسماؤه-، وتجد في عبارات بعض أهل العلم كصاحب المنهاج في شعب الإيمان، حيث فسر الحسيب بأنه: "المدرك للأجزاء، والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب"، يعني العباد يحتاجون إلى عد، وعقد باليد، أو يحتاجون إلى آلة حاسبة، أو نحو ذلك، فالله يحسب ذلك جميعاً، من غير حاجة إلى ما يزاولونه من أجل أن يتوصلوا إلى النتيجة، ويقول: لأن الحاسب يدرك الأجزاء شيئاً، فشيئاً، ويعلم الجملة عند انتهاء حسابه، والله لا يتوقف علمه بشيء على أمر يكون، وحال يحدث"[انظر: الأسماء والصفات، للبيهقي (1/126). ]، يعني: لا يحتاج إلى مقدمات حتى يصل إلى النتائج، العمليات الطويلة، العمليات الصعبة في الرياضيات تحتاج إلى مقدمات أحياناً، وربما تحتاج إلى خطوات كثيرة، قد تحتاج إلى ساعات من أجل أن تحل المسألة الواحدة، وقد لا يصل إليها إلا النادر من الحذاق، لكن الله -تبارك وتعالى- لا يحتاج إلى شيء من ذلك، فهو العليم، الخبير، الحسيب.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية عشرة في موضوع ( الحسيب ) وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : * وفُسـر الحسيب بالكافي
وفسر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- الحسيب بالكافي، كما قال في نونيته:
وهو الحسيبُ حمايةً وكفايةً *** والحَسْب كافي العبد كل أوانِ[ انظر: نونية ابن القيم (ص: 210).]
وهذا فيه شيء من الغرابة، حيث إن هذا من معناه، والمعنى أوسع من ذلك، كان من عادة ابن القيم -رحمه الله- أنه يذكر المعاني التي دل عليها الاسم الكريم، ويجمعها، ويؤلف بينها، ثم يعبر عنها بأحسن عبارة، بينما تجد في كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في مواضع متفرقة من تفسيره حينما يتعرض لهذا الاسم فإنه يفسره غالباً بما يجمع هذه المعاني، فهو يفسره في موضع: "بالعليم بعباده كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير، والشر، بحسب حكمته، وعلمه بتدقيق أعمالهم، وجليلها"[ انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 947).]
ويقول في موضع آخر: "الحسيب بمعنى: الرقيب، المحاسب لعباده، المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى: الكافي عبده همومه، وغمومه، وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين،وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ الطلاق:3؛ أي: كافيه أمور دينه، ودنياه"[ انظر: تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 182).]
ويقول في موضع ثالث: "هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير، وشر، ويحاسبهم إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر"، فهذا بحسب الموضع الذي فسره به.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال:64، ذكر نحواً مما سبق، وبين أن هذه الكفاية تكون للعبد بحسب تحقيقه للإيمان، والعبودية، والمتابعة للنبي ﷺ ظاهراً، وباطناً"[المصدر السابق.]
وهكذا في قوله –تعالى-: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًاالنساء:86، أي: يحفظ على العباد أعمالهم، صغيرها وكبيرها، حسنها وسيئها، ثم يجازيهم عليها، فنخلص من هذا: أن الحسيب هو الكافي، وهو أيضاً الذي يحاسب عباده، وهو كذلك الذي يحصي أعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم إلى غير ذلك، فلا يفوته منه شيء.
ثانياً: ما يدل على هذا الاسم الكريم في الكتاب والسنة:
هذا الاسم يمكن أن يستدل عليه بـ خمس آيات، في آيتين منها جاء بصيغة الجمع، وفي الأولى منهما بصيغة أفعل التفضيل: أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ الأنعام:62، وفي الثانية: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء:47، ولهذا بعض أهل العلم عد من أسمائه الحسنى: سريع الحساب، وعد بعضهم من الأسماء: أسرع الحاسبين، وهذا بناءً على الأصول التي تقدمت في أول هذه الدروس، أن ذلك لا يكون من الأسماء إلا في حال الإطلاق كما في قوله -تبارك وتعالى- في الآيات الثلاث: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَالأنبياء:47، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا النساء:6، والأحزاب:39، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا النساء:86.
ويمكن أن يستدل على ذلك من السنة بحديث أبي بكرة - المشهور: (إن كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحداً)[ أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من التمادح، برقم (6061)، ومسلم، كتاب الزهد، والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح، برقم (3000)، واللفظ للبخاري.]
،(وحسيبه الله)، وإن كان هنا جاء بصيغة مقيدة، لكن لم يُثبَت هذا الاسم من هذا الحديث استقلالاً.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة عشرة في موضوع ( الحسيب ) وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : ثالثاً: ما يدل عليه هذا الاسم الكريم:
هذا الاسم يدل بدلالة المطابقة على الذات، وعلى هذه الصفات: (الكفاية، والمحاسبة)، محاسبة العباد، وإحصاء الأعمال، ويدل بدلالة التضمن على أحدهما، كما أنه يدل بدلالة اللزوم على جملة من صفات الله -تبارك وتعالى- كما لا يخفى، فإن الحسيب إذا كان بمعنى الكفاية فلابد أن يكون حيًّا، وقويًّا، وغنيًّا، وعليماً، وخبيراً، ولطيفاً، وما إلى ذلك من الأسماء، والصفات التي لابد منها من أجل أن تحصل الكفاية.
وهكذا أيضاً حينما يقال: إنه بمعنى المحصي، أو المحاسب لخلقه، فهذا يحتاج إلى علم العليم، الخبير، اللطيف الذي يعلم دقائق الأشياء في أحد معاني هذا الاسم، وهكذا القيوم الذي يقوم على خلقه، وكذلك أيضاً الصمد، فإن من معانيه: أنه تصمد إليه الخلائق بحاجاتها، وأقواتها، وأرزاقها، فتتوجه إليه وحده، دون ما سواه، وهكذا القدرة، والقوة، هذه الصفة التي تضمنها هذا الاسم أيًّا كان المعنى من هذه المعاني الثلاثة، هل هي صفة ذات، أو صفة فعل؟ هي من صفات الأفعال بمعنى الكفاية، أو الإحصاء، أو المحاسبة، هذه كلها من الصفات الفعلية.
رابعاً: أثر الإيمان بهذا الاسم الكريم:
يقول الله -تبارك وتعالى-: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180، وعرفنا أن الدعاء بهذه الأسماء يكون بنوعيه: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، أما دعاء المسألة: فإنه كما قال الله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ آل عمران:173.
وهكذا أيضاً في حديث أبي هريرة - المشهور، في قصة المرأة التي كانت ترضع صبيها، فتكلم في المهد، وفي الحديث: أنها رأت امرأة يضربونها، ويؤذونها في حال من المهانة، فقالت: "اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقال: اللهم اجعلني مثلها"، ثم فسر ذلك، فقال: (أما المرأة فإنهم يقولون لها: تزني، فتقول: حسبي الله، ويقولون: تسرق، وتقول: حسبي الله)[ أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3466)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، برقم (2550).]
وإبراهيم ﷺ كان آخر ما قال حينما ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل)[ أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم} [آل عمران: 173] برقم (4564).]
،هل هذا دعاء؟ النبي ﷺ لما قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ)، فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي ﷺ، فقالوا ما نقول؟ قال: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)[ أخرجه الترمذي في السنن، كتاب أبواب صفة القيامة، والرقائق، والورع، باب ما جاء في شأن الصور، برقم (2431)، وقال الألباني: صحيح.]
فحينما يقول الإنسان: حسبي الله، ونعم الوكيل، هل هذا دعاء؟ بعض الناس يسأل، وبعض النساء تقول: أقول لأولادي: حسبي الله، ونعم الوكيل، أحياناً أُظلم، فأقول: حسبي الله، ونعم الوكيل، هل أكون قد انتقمت ممن ظلمني بالدعاء عليه، وأنا لا أريد أن أنتقم؟، ذلك قد يقوله الإنسان لمجرد الإخبار -والله تعالى أعلم-، يقصد به الإخبار أن الله جل جلاله يكفيني، يعني: تحصل له الكفاية، لا تصل إليه الشرور، والمخاوف وما إلى ذلك.
وقد يقصد به أمراً زائداً على هذا القدر، وهو أن الله ينتصر له، وينتقم له، فيقول: حسبي الله، ونعم الوكيل، الله يكفيني، كأنه يقول: الله ينتصر لي منك، الله ينتقم لي ممن ظلمني، ونحو ذلك، فمثل هذا يكون من قبيل الدعاء عليه، أليس كذلك؟.
فهذا -والله تبارك وتعالى أعلم- تفصيل هذه الجملة أنه: تارة يقصد بها الدعاء، وتارة يقصد بها الإخبار عن كفاية الله جل جلاله، كفاية مجردة، أي أنه لا يصل إليه ما يتخوفه، ولا يصل إليه منهم مكروه، الله يكفيني شرهم، وأذاهم، ونحو ذلك، وقد يقصد ما هو أبعد من هذا، أن الله ينتصر له، وينتقم منهم.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة عشرة في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان : دعاء العبادة
أما دعاء العبادة فهذا يمكن أن يفرع منه جملة من الأمور أذكر منها أربع قضايا:
الأولى: إذا عرف الإنسان أن الله هو الحسيب بمعنى: الكافي، فإنه يحصل عنده ثقة بالله جل جلاله- ، وركون إليه، وتوكل عليه، والله –تعالى- يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال:64، ويقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الزمر:36، فأهل الإيمان يثقون بكفاية الله جل جلاله- لهم، فهو ناصرهم، ومؤيدهم، ومقويهم، فيصرف عنهم شر الأشرار، وكيد الفجار؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ آل عمران:111، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى، فالاستثناء هنا استثناء منقطع؛ لأن الأذى ليس من الضرر؛ بدليل أن الله جل جلاله- قال: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)[ أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2577).] ، مع الحديث الآخر: (يؤذيني ابن ادم)
[ أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وما يهلكنا إلا الدهرالجاثية: 24 الآية، برقم (4826)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، برقم (2246).]
، فحينما يسب الإنسان الظالم الدهر يرجع ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي يقلب الليل، والنهار، ويصرف الأمور، إلى غير ذلك مما يصدر من الناس من أذية الله جل جلاله ، فهذا غير الضرر، فالناس أقل من أن يضروا الله -تبارك وتعالى-، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًاآل عمران:176، لكن الأذى يحصل، قال -تعالى-: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَآل عمران:111، ويقول: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِالزمر:36، ويقول: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ آل عمران:175، هذه الآية يجب أن نفهم معناها، فهي آية عظيمة، (يخوف أولياءه) ليس المعنى: أنه يوجِد الخوف في قلوب أوليائه.
لا، "يخوف أولياءه" يعني: يخوفكم من أوليائه، يجعل لهم هيبة، يجعل لهم عظمة، يضخمهم، يكبرهم في نفوسكم من أجل أن تخافوهم، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَآل عمران:175، ولهذا قال الله جل جلاله لنبيه ﷺ والخطاب لعموم الأمة-: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا الأحزاب:1-3، الكافرون، والمنافقون يطالبون المؤمن بأشياء من التنازلات، وأن يقدم، وأن يبذل لهم من دينه؛ من أجل أن يلتقوا معه في وسط الطريق، علهم أن يرضوا عنه، فالله يقول: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَالأحزاب:1-3؛ لأنهم يشتركون في هذه الأشياء، يتواطئون عليها، ثم قال له: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَالأحزاب:2، هذا هو الطريق، وإذا فعل ذلك -ترك طاعتهم، واتبع ما يوحى إليه من ربه- لن يدعوه من أذاهم، سيتسلطون عليه، وسيوجهون إليه سهامهم، وحربهم بكل ما استطاعوا، قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًاالأحزاب:3، هذا منهج كبير في الحياة، وأصل عظيم، لو سارت عليه الأمة بكاملها في تعاملها مع المنافقين، والكافرين لما صارت حالهم إلى ما ترون.
فالله هو الكافي، يجب أن نثق به - جل جلاله- -: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُالأنفال:62، الله معك في حال المعاهدات، وفي حال السلم، وفي حال الحرب، وفي حال المفاوضات إذا كنت على طريق الصراط المستقيم.
إذا كنتَ بالله مستعصمًا *** فماذا يضيرك كيدُ العبيد
لا تكترث بهم، وبقوتهم، ليست بشيء بإزاء قوة الله -تبارك وتعالى-، وجبروته، وإذا أردتم أن تعرفوا ضعف قوة الخلق انظروا إلى مدينة يضربها الزلزال بقوة، تراها صارت حصيداً، وانظروا إلى مدينة يجتاحها الطوفان تجدون عمرانها يتحول إلى قش، فقوة الله وبأسه عظيمة، لا يمكن للخلق أن يصلوا إلى حقيقتها.
يقول الله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ الأنفال:62، فنلاحظ أن الحَسْب (الكفاية) إنما تكون مختصة بالله جل جلاله- ، لا يشاركه في هذا أحد، "فإن حسبك الله"، وأما التأييد: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين الأنفال:62، فالتأييد يكون بالمؤمنين، ولكن الكفاية لا تكون إلا بالله وحده، لا شريك له، فهي مختصة به، ولهذا التوكل يجب أن يكون على الله، ولا يتوكل على أحد سواه، وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواالمائدة:23، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ آل عمران:122، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ آل عمران:173.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة عشرة في موضوع ( الحسيب ) وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :مقام حسبنا الله ونعم الوكيل
هذا مقام تكثر فيه المخاوف، إذ قيل لهم -بعد الجراح في أحد والهزيمة-: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فأصحاب القلوب الضعيفة، القلوب الخاوية من معرفة الله جل جلاله- ، الفارغة من الثقة به، والتوكل عليه، تجتاحها المخاوف؛ فيكون القلب كالريشة في مهب الريح في هذه المقامات، وهذا قد لا يتصوره الإنسان إلا في وقت المخاوف، هذه المعاني في حال الأمن لا يتصورها الإنسان، ولهذا نحن نقول: ينبغي أن تكون مثل هذه القضايا محل مدارسة دائمة، من أجل أن الإنسان يحتاج إليها.
قد لا أضيف علماً جديداً، وليس هذا هو الهدف، ولكن الهدف هو التربية الإيمانية، أن يبقى عند الإنسان رصيد يتجدد، ويثبت، وإذا حصل للإنسان المكروه، أو الشدة، أو الكرب، أيًّا كان هذا الكرب، سواء انقطع في برية، أو في لجج البحر، أو أشرف على الهلكة، حينما تصيبه الأوجاع، والأمراض التي لربما يفاجئه بها الطبيب فلربما لم تحمل الإنسان قدمه، فيبدأ في حال من الضعف، والانهيار.
الناس الذين يواجهون أنواع المكاره، في حوادث تقع لهم في الطرقات، ونحو ذلك، هؤلاء بحاجة إلى هذه المعاني، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُآل عمران:173، أن يلجئوا إلى الله -تبارك وتعالى- وحده، لا شريك له، هذه لابد منها، وإلا ضعف الإنسان، وانهار، وانكسر، فالإنسان خلق في كبد، ولابد له أن يواجه المصاعب في هذه الحياة، فالله جل جلاله- يسوق لعباده ألوان البلايا، ويقلبهم في ذلك، فلابد أن يواجه الإنسان أشياء مما يكره، فهو بحاجة إلى إيمانٍ راسخٍ يثبت معه؛ ولهذا لما خوف أهل الإيمان بهؤلاء قال الله: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا آل عمران:173، لماذا زادهم إيماناً؟ يثقون بالله جل جلاله- كما قال الله جل جلاله- في سورة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًاالأحزاب:22، ما الذي وعده الله، ورسوله؟، ماذا يقصدون بهذا؟ الأرجح: ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أن الله وعد بالابتلاء"[ انظر: تفسير ابن كثير (6/392).]
، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواالبقرة:214، هذا الذي وعدهم الله جل جلاله- به، فلما رأوا الأحزاب قد تجمعوا، وحاصروا المدينة، مباشرة قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًاالأحزاب:22، فالبلاء يزيد في الإيمان، والعبد يحتاج إلى أن يتذكر هذا دائماً، فإذا واجه الشدة قال: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الأحزاب:22، لا أنه ينهار، وينكسر، وتخور قواه، والإنسان قد لا يدرك هذه المعاني إلا في أوقات الشدائد.
وانظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ التوبة:59، قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ التوبة:59، الكفاية لهم منه وحده - جل جلاله- - والإيتاء: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُالتوبة:59، كما قال الله جل جلاله-: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُالحشر:7، يشمل البلاغ -يعني: في الأحكام-، ويشمل أيضاً العطاء.
وهكذا في الرغبة: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَالتوبة:59، فالرغبة تكون إلى الله وحده: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْالشرح:8؛ ولهذا قدم المعمول على عامله؛ ليفيد: الاختصاص، أو الحصر، رغبة العبد تتوجه إلى الله كما سيأتي في الذي بعده كالتوكل، والإنابة، وقد تحدثت عن قضايا التوكل بحديث طويل في الأعمال القلبية.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السادسة عشرة في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
تحقيق عبودية التوكل :
فمن أراد الكفاية من الله جل جلاله- فعليه أن يحقق العبودية، ومن العبودية: عبودية التوكل على الله -تبارك وتعالى- القلب الذي يلتفت يمنة، ويسرة، فيتعلق بالمخلوقين، ويرتبط بهم، ويؤملهم، أو يخافهم، أو نحو ذلك، ثم يقول: أنا أطلب الكفاية من الله جل جلاله- ، فهذا ما صدق مع الله - جل جلاله- -، فأهل العبودية يكون لهم من الكفاية بحسب عبوديتهم، ومن ثَمّ فإن العبد يرفع حوائجه إلى ربه - جل جلاله- -، فلا يستوحش من إعراض الخلق عنه، ولا يأنس بقبولهم، ثقة بأن الذي قُسم له لا يفوته، وأن ما لم يقسم له لا يمكن أن يحصله، وأن ما شاء الله، وأراد، وقضى، وقدر لابد أن يقع، وما لم يقضه - جل جلاله- - فلا سبيل إلى تحصيله.
وفي الصحيح: كان آخر قول إبراهيم ﷺ حين ألقي في النار: (حسبي الله، ونعم الوكيل)، وفي الحديث الآخر:(من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله)[ أخرجه أحمد في المسند، برقم (11060)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (6027).]
وفي الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه -: (من جعل الهموم همًّا واحدًا) يعني هم الآخرة (كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبالِ الله في أي أوديتها هلك)[ أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم (4106)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (263).]
وفي الحديث الذي رواه أبو الدرداء –رضي الله عنه-: "من قال إذا
أصبح، وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه"[ أخرجه أبو داود في السنن، أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5081)، وقال الألباني: موضوع، وقال في موضع آخر: ضعيف موقوف، انظر: ضعيف الترغيب والترهيب، (1/97).]
وفي الحديث الذي رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه -: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له: حسبك، قد هديت، وكفيت، ووقيت، فيتنحى له الشيطان)[ أخرجه الترمذي في السنن، أبواب الدعوات، باب ما يقول إذا خرج من بيته، برقم (3426)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (499).]
، كل هذا يحصل للمتوكلين، الواثقين بربهم -تبارك وتعالى.
الثاني من ثمرات الإيمان بهذا الاسم من جهة معناه الأول -وهو الكفاية-: الافتقار إلى الله جل جلاله: أن يكون فقر العبد إلى ربه؛ لأنه هو الذي يكفيه، ولا يمكن للعبد أن يستغني عن الله - جل جلاله-، وكل ما يتوهمه الإنسان من أن لوناً من الكفاية يحصل من أحد من المخلوقين فهو خطأ، باعتبار أن تلك الأسباب إنما هيأها الله - جل جلاله -، فهو الذي خلق الأسباب، وخلق المسببات، والله -تبارك وتعالى- يهيئ لعبده ما شاء، وتسمع أشياء عجيبة في أحوال هذا الخلق، وما يهيئ الله جل جلاله لهم من أسباب الرزق، والعافية، والسلامة من الآفات، والنكبات، والشرور في أمور عجيبة.
هذا رجل يريد أن يسافر، ثم بعد ذلك يحصل منه تصرف يسير، ما كان يحسب له حساباً فيما سمعته من بعض المشايخ، ممن سمع من هذا الرجل، يقطف زهرة عند المحطة، أو الميناء الذي يركب منه في السفن، ثم يؤخذ هذا الرجل ليحاسب، ويعاقب؛ لأنه قطع هذه الزهرة، وقد ابتُعث للدراسة، جاء إلى هذا المكان من أجل أن يتفرغ للدراسة، فانقطع عن الناس أسبوعاً؛ من أجل أن يذاكر، وأن يحصِّل، وقبل الاختبار بيوم يتوجه ليسافر إلى مدينته التي يدرس فيها، فيؤخذ بسبب زهرة، ويوضع في الحجز، ويكاد يموت من الحسرة، فلما جاء اليوم الثاني أفرجوا عنه، واكتفوا بهذا الإجراء، فلما خرج، وذهب ليبحث عن أمتعته التي قد سبقته -يفترض في السفينة-، وسأل، وإذا في الميناء حِداد، ونحو ذلك، وإذا بالسفينة التي كان سيركب فيها قد غرقت، وغرقوا جميعاً إلا راكب واحد تخلف، وتبين أنه هو هذا الراكب، انظر بهذا التصرف، وهو يتحسر على ما فاته من اختبار!.
فأقول: الله جل جلاله يهيئ لعبده أموراً لا تخطر له على بال، وإذا نظرتم في أحوال الناس فيما يهيئه الله من الأرزاق، ونحو ذلك تجدون أموراً عجيبة.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة عشرة في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
الحسيب بمعنى المحاسب أو المحصي :
الثالث :مما يثمره هذا الاسم الكريم في معناه الآخر -وهو الحسيب بمعنى المحاسب، أو المحصي الذي يحصي الأعمال-:
أن يكون العبد محاسباً لنفسه، يحصي ما يصدر عنه؛ لأن الله سيحاسبه على جميع أعماله، وأقواله، فالله -تبارك وتعالى- كما يقول عن نفسه: وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا الجن:28، ويقول: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا مريم:93-94، الله -تبارك وتعالى- كتب ذلك، قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات، والأرض بخمسين ألف سنة، وكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، قال -تعالى-: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ يس:12، وهو اللوح المحفوظ، ويقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌالحديد:22.
وقال -تعالى-: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًاالنبأ:29، ومن جملة ذلك الأعمال، والآجال، والأرزاق، وقال –تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء:47، وقال -تعالى-: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُالمجادلة:6، على كثرته، وتفرقه، وكثرة الخلائق.
ويقول -تعالى-: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌق:18، حتى قال بعض السلف كابن عباس -رضى الله عنهما-: "إن الملك يكتب كل ما تكلم به من خير، أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت"[ انظر: تفسير ابن كثير (7/399).]
، ثم بعد ذلك يمحى ما لا يتعلق به الجزاء، ويبقى ما يتعلق به الحساب، فهذا كله يثمر في قلوبنا، فلابد من مراقبة الله جل جلاله والخوف منه، والمحاسبة لهذه النفوس على الأعمال؛ لأننا سنئول إلى الله -تبارك وتعالى- فيحاسبنا، قال -تعالى-: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَالأنعام: 62، والله - جل جلاله - يقول: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا الكهف: 49، فتصور هذه الأعمال القديم، والجديد، الجليل، والحقير أحصاه الله -تبارك وتعالى-، ينساه العبد، أو ينسى منه كثيراً، ولكن الله لا ينسى شيئاً من ذلك، فيصيرون إليه في يوم الحساب، ويجازيهم، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِص:26، فلا يصح، ولا يليق بحال من الأحوال أن يكون المؤمن ممن نسي، وغفل عن يوم الحساب، وإلا فإن من غفل عن يوم الحساب فإنه لا يبالي بما صدر منه، ومن ثَمّ فإنه يقارف ألوان الإجرام، والمعاصي، والكبائر، ولا يرعوي عن شيء؛ ولهذا قال موسى ﷺ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ غافر:27، ولذلك حينما يأمر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان، أو ينهاهم في كثير من المواضع، يقول: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ النساء: 59، ويقول النبي ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...)[ أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف، وخدمته إياه بنفسه، برقم (6138)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، برقم (47).]
، فليفعل كذا، لماذا اليوم الآخر مع الإيمان؟ لأن العبد إذا علم أنه سيأتيه يوم يحاسب فيه على القليل والكثير فإنه يحاسب نفسه، ولا يقدم على شيء يمكن أن يلحقه به ضرر، أو معرّة، ومن ثَمّ يقدم على الله متخففاً من الذنوب؛ ولهذا يقول الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الحشر:18-19، (اتقوا الله) أمر بالتقوى عام، ثم قال: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الحشر:18، هذه المحاسبة، ثم قال: (واتقوا الله) أعادها ثانية، كأن ذلك -والله أعلم- يتعلق بما قبله مباشرة، وهو قوله: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍالحشر:18؛ لأن العبد قد لا يتقي الله فلا يحاسب نفسه، وقد يحاسب نفسه محاسبة لا يتقي الله فيها، ربما يحاسب نفسه، ويقول: أنا ما شاء الله، ما ينقصني شيء، أنا أتقاكم لله جل جلاله هذا لا يصح أن يقوله أحد من الناس، هذا يصلح لمقام رسول الله ﷺ.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة عشرة في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
الحسيب بمعنى المحاسب أو المحصي :
بعض المقصرين حينما يُذكَّر بالله جل جلاله يكابر، ويزكي نفسه، وينفي ما نسب إليه من التقصير، فهذا مؤشر، ودلالة على وجود مشكلة في التقوى من أصلها؛ لأن الإنسان إذا وجدت عنده التقوى فإنه يحاسب نفسه، فإن لم يعرف عيوبه فإنه إذا عُرِّف بها أقر، أمّا أنه لا يتذكر، وإذا ذُكِّر يكابر، فمثل هذا كيف يستقيم؟ وكيف تصلح حاله؟ ولهذا يُخشى أن يطمس الله على قلوب بعض المنحرفين.
وكثيراً ما أسمع زوجة تشتكي من زوجها، تقول: كان صالحاً، كان من طلاب العلم، كان يحضر عندك الدروس، ثم بعد ذلك انحرف، تقول: إذا كلمناه، إذا نصحناه، إذا وعظناه؛ قال: إذا أردتم في هذه الجزئية ألقي عليكم محاضرات، ماذا بقي؟ يقول: أنا أعلم بهذا منكم، لا يقبل نصيحة من أحد، فهذا -نسأل الله العافية- يُخشى أن يكون ممن أضله الله على علم، ويُخشى أن يختم على قلب الإنسان كما قال الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الأنفال: 24، يحول بين المرء، وقلبه، هذا الإنسان الذي يقول: إذا أردتم ألقي عليكم محاضرات ما يخشى أن الله يحول بين قلبه وبين الهداية!.
تجد بعض الناس ضعيف الإرادة تماماً، قد تسلط عليه الشيطان، يقول: أعرف كل شيء، حتى إن أحدهم مرة سأل عن طريقة التخلص من ذنب من الذنوب الكبار، ثم ذكر لي قائمة طويلة من المراجع التي عالجت الموضوع، قال: كل هذا أعرفه، وقرأته، وألقيته، فقلت: والله ما عندي شيء، لا أملك لك الهداية، كنت أريد أن أدلك على بعض الأشياء، بحيث إذا نظر فيها الإنسان أفاق من غفلته، وتذكر، أمّا أنك تقول: إنك على هذا المستوى من المعرفة، والعلم، فإذن بقي أمر واحد وهو الهداية، فيحتاج الإنسان أن يتضرع بين يدي الله جل جلاله ، وينطرح بين يديه، ويكثر من الدعاء، ويلح على الله -تبارك وتعالى- بأن يهدي قلبه، وأن يثبته على الحق، والإيمان، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله -تبارك وتعالى- كما جاء عن عمر جل جلاله: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر"[ أخرجه الترمذي في السنن، برقم (2459)، وضعفه الألباني.]
وكذلك جاء عن جماعة من السلف، كميمون بن مهران: "لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه"[ انظر: الزهد لوكيع (ص: 501). ، وقد قيل: "النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك"[ انظر: موارد الضمآن (1/190).]
وجاء عن الحسن عبارات متفرقة، نافعة في هذا الموضوع كقوله في قوله- تبارك وتعالى-: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ القيامة: 2، يقول: "لا تَلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه"[ انظر: تفسير ابن كثير (8/275).]
وكان يقول: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته"[ انظر: محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 25).]
وكان يقول: "المؤمن قوام على نفسه لله، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة" انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/79).]
وكان بعض الصالحين يقول: "لو أن الإنسان كلما وقع بذنب، أو معصية، سواء كانت مما يتصل باللسان، اغتاب، أو كذب، أو نحو ذلك، أو بأعمال الجوارح من ألوان المعاصي، يقول: لو أنه كلما فعل مخالفة ألقى في بيته حجراً، فكيف سيتحول هذا البيت فيما بعد؟، وجرب هذا لو أن الإنسان ألقى في غرفة، أو في فناء حجراً كلما عصى الله جل جلاله ، ثم بعد ذلك سيجد أنها تتراكم عليه، حتى لا يجد مكاناً يجلس فيه، سيكون هذا المكان مشوهاً، لا يصلح للإقامة، والسكنى، سيكون –أعزكم الله- مزبلة، منفى، فالقلب أشرف من ذلك، كيف تلقي فيه مثل هذه الجرائر، والجرائم، والذنوب، والمعاصي؟ كيف يكون حال القلب بعد هذا، إن لم يصقل بتوبة نصوح، توبة صادقة؟ كما قال النبي ﷺ: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه)[ أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4244)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، برقم (4244).]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة عشرة في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :الحسيب بمعنى المحاسب أو المحصي :
تصور لو أن معك صبغة، وكلما وقعت في مخالفة، أو نحو ذلك قلت بالجدار هكذا، بعد مدة كيف ستجد لون هذا الجدار؟ في حال من السواد، والتشويه، فالقلب أشد تأثراً من الجدار بمثل هذه الممارسات.
فالإنسان بحاجة إلى أن يراجع نفسه دائماً، وأن يحاسبها، ومن ثَمّ يستريح، ويستريح الناس من ظلمه، وشره، وعدوانه، تستريح زوجته، ويستريح أولاده، ويستريح جيرانه، ويستريح أقاربه، هناك مشكلة كبيرة نعاني منها، أحياناً الواحد يتحير كيف يستطيع أنه يعالج مشكلة بعض الناس واقعٌ فيها؟، حينما يذكر الإنسان مشكلة من المشكلات، وتبحث عن علاجات ما لك قريب؟ ما لك أخ؟ ما لك ابن عم؟ الأب هذا كيف نظره إلى الناس؟، تجد أنه لا يعترف بأحد، ولا يُذكر عنده أحد من أهل الفضل، أو الخير إلا شتمه، ولا أحد من جيرانه، ولا أحد من قرابته إلا ذمه، وعابه بأقبح الأوصاف، فمثل هذا كيف يمكن أن تصلح حاله؟ فنحن بحاجة إلى معالجة، وإلى محاسبة، والله –تعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُالزلزلة:7-8، وما جرى لمعاوية بن قرة لما جيء له بطعام، فأكل منه، ثم بعد ذلك ترك بعضه، ونام، فلما أصبح وجده مسودًّا من الذر، فوزنه بالذر، ثم أزال الذر عنه، ووزنه من غير ذر فوجد أن وزنه لم يتغير[ انظر: كتاب الورع لأحمد بن حنبل، (ص: 20، 21).]، والله –تعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُالزلزلة:7، يعني الوزن -الحساب- بمثاقيل الذر.
وجاء أبو العباس الخطاب بحبة خردل، وجاء بمجموعة من الذر، ووضعها في كفة الميزان فوجد أن حبة الخردل أثقل من الذر[ انظر: المصدر السابق (ص: 20). ]، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَالأنبياء:47، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الزلزلة:7، فهل نحن نتعامل مع أنفسنا بهذه الأمور الدقيقة، ونحتاط، ونحترز فيما نأتي، وما نذر بهذه الطريقة؟.
انظر إلى حال بعض هؤلاء! هذا رجل يقال له: رياح القيسي، له ترجمة في "سير أعلام النبلاء"، أثنى عليه الذهبي كثيراً، هذا الرجل كان يمر بجوار رجل آخر، يقال له: معاذ بن عون الضرير، يقول: "يمر بعد المغرب قريباً من المقبرة، يقول: إذا خلت الطريق مر، فكنت أسمعه -ولا يشعر بي- وهو ينشج بالبكاء، ويقول: إلى كم يا ليل، وكم يا نهار تحطان من أجري وأنا غافل عما يراد بي؟! إنا لله، إنا لله، فهو كذلك يردد هذا الكلام حتى يغيب عني"[ انظر: كلام الليالي والأيام (32/41) ]. يقول: كل يوم يمر من هذا الدرب، إذا جاء المغرب، يردد مثل هذا الكلام، يعني: إذا غابت الشمس تذكر، وإذا أشرقت الشمس تذكر، واعتبر، وكم تمر علينا من الأيام، والشهور، والسنوات، ونحن لا نتعظ!.
وكان هذا الرجل يقول: "لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة"[ انظر: صفة الصفوة (2/218). ]، نحن كم ذنبًا عندنا؟!، هو عدها فوجدها نيفًا وأربعين، واستغفر لكل واحد مائة ألف مرة.
وجاء مرة يسأل عن رجل يقال له: ضيغم، كما يحكي ابنه مالك يقول: جاء بعد العصر، فسأل عن الوالد، فقلنا: نائم، فقال: أنوم في هذه الساعة؟!، كره النوم بعد العصر، أنوم في هذه الساعة؟!، ثم ولى منصرفاً، يقول: فأتبعناه رسولاً، يعني من أجل أن يقول له: ألا نوقظه لك؟، فتأخر الذي أرسلوه حتى غابت الشمس، فلما جاء قالوا: غبت عنا طويلاً، نحن أرسلناك عصراً من أجل أن نوقظه إذا رجع إلينا الرجل، فجئتنا بعد غروب الشمس، فقال: هو كان أشغل من أن يفهم عني شيئاً، يقول: أدركته وهو يدخل المقابر، فوجدته وهو يعاتب نفسه قائلاً: قلتِ: نوم هذه الساعة؟، أفكان هذا عليكِ؟! يقول: ما علاقتكِ أنتِ بالموضوع؟ لماذا تقولين هذا الكلام؟، يحاسب نفسه، يقول لماذا تقولين: نوم في هذه الساعة؟ ينام الرجل متى شاء، وقلتِ: هذا وقت نوم؟ وما يدريكِ أن هذا ليس بوقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيك، وتتكلمين بما لا يعنيك، إلى أن قال: سوءة لكِ، سوءة لكِ، أما تستحين؟ كم توبخين، وعن غيك لا تنتهين؟، وجعل يبكي ويقول -وهو لا يشعر بمكاني-، فلما رأيت ذلك انصرفت، وتركته[انظر: محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 93). ]، يقول: هذا الذي حبسني إلى المغرب، كنت أشاهد هذا الإنسان العجيب، على كلمة قالها: نوم في هذه الساعة؟ أينام الرجل بعد العصر؟ ثم جلس يوبخ نفسه، كيف تقول هذا الكلام؟ مع أن هذا الكلام لا إثم فيه فيما يبدو، لكنها المحاسبة الدقيقة، كيف قلت مثل هذا الكلام؟ وما شأنك بالرجل؟ ينام الرجل متى شاء، أما نحن فماذا نقول؟! وإذا قلنا كيف نتصرف؟!.
لو أننا واجهنا أحداً في الطريق، وتصرف تجاهنا تصرفاً غير جيد، ونحن نمر بالسيارة، أو نحو ذلك، قد تصدر من الإنسان عبارات يبدي فيها امتعاضه من هذا الإنسان، وأن هذا الإنسان لم يحسن التصرف، ولم يحسن الأدب، أو نحو ذلك، أو أنه عجول، أو خلق الإنسان من عجل، أو نحو هذا، هنا نحاسب أنفسنا، بل ربما لا نفكر في الكلمة التي قلناها، نقول: إن شاء الله ما يصل هذا إلى شتم الناس، وإلى سب الناس، ولكن الإنسان يبدي أحياناً امتعاضه من بعض التصرفات التي يرى فيها بعض الرعونات من بعض الناس.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة العشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :الحسيب بمعنى المحاسب أو المحصي :
فأرباب القلوب، المحسون بأوجاع الذنوب، العالمون يقيناً بمحاسبة علام الغيوب، وإحصاء حسابه لجميع العيوب، أقاموا في الدنيا موازين القسط على أنفسهم، وأحصوا عليها بالحساب المحرر كل ما برز عنها وصدر، ثم حاسبوها محاسبة الشريك النحرير القائم بماله شريكَه الذي انفصل عن مشاركته بعداوة وقعت بينه وبينه، كيف يتحاسب، ويتعامل معه؟!.
فينبغي على العبد أن يقف مع نفسه على الدوام؛ لمحاسبتها، فيميز حركات النفس، وسكناتها، ويقف عند همه، وخاطره، ماذا أردت بذلك؟، هل تريد وجه الله جل جلاله ، أو تريد وجوه الناس؟
ينبغي على العبد أن يقف مع نفسه على الدوام؛ لمحاسبتها، فيميز حركات النفس، وسكناتها، ويقف عند همه، وخاطره، ماذا أردت بذلك؟، هل تريد وجه الله جل جلاله ، أو تريد وجوه الناس؟
، هل هذا العمل تأتي به على الوجه المشروع، أو أنك تأتي به على وجه فيه مخالفة، أو نحو ذلك؟، تريد الحج، ماذا تريد؟ تريد أن تضيف في العداد رقماً جديداً في الحج؟تريد أن يقال: حاج، أوتريد ما عندالله جل جلاله ؟
ثم إذا أردت الحج، هل تريد أن تأتي بالحج على الوجه المشروع، على الأقل بالمحافظة على الواجبات، أو تريد حجة تخل بكثير فيها من الواجبات، والأعمال التي قد لا تبرأ الذمة بتركها؟.
بعضهم يذهب يحج فيأتي في يوم عرفة في الليل، فيمر عليها، ويرجع إلى الطائف، أو إلى جدة، فقط يمر على عرفة، ثم بعد ذلك إذا ذهب الحجاج، وانتهت مثل هذه الأيام، وخف الزحام في الحرم ذهب، وطاف طواف الإفاضة، وسعى، وأما رمي الجمار، وما إلى ذلك فهو يذبح عن ذلك فدية، ويقول: الحج عرفة، والحمد لله أنا أحج كل سنة بهذه الطريقة، هذه حجة لم يُتقَ الله جل جلاله فيها، وليس من ضرورة تحمله على ذلك، والله المستعان.
الرابع من ثمرات هذا الاسم الكريم:
ومما يؤثره الإيمان بهذا الاسم بمعنى الإحصاء والعد، ونحو ذلك: هو أن يعظم الإنسان ربه -تبارك وتعالى-: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَالأنعام:62 كما يقول ابن جرير -رحمه الله-: (وهو أسرع الحاسبين) أسرع مَن حَسَب عددَكم، وأعمالكم، وآجالكم، وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها، وعرف مقاديرها، ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك، ولا يخفى عليه منه خافية، { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ } سبأ:3 [ انظر: تفسير الطبري (413). ] ، كل ذلك أحصاه الله جل جلاله في كتاب، فكما أن الله -تبارك وتعالى- خلقهم خلقاً لا مشقة فيه، وبعثهم بلا مشقة، كما قال -تعالى-: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍلقمان:28؛ فكذلك حسابهم لا مشقة فيه، ولا تأخير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون } يس:82. تصور لو أن أحداً من الناس أراد أن يجري مقابلات، تقدم مائة ألف طالب للجامعات، ووضعت لهم لجنة واحدة تقابلهم، كم يحتاجون من الوقت حتى يدركوا ذلك؟، فكيف بكل الخلائق من أولهم إلى آخرهم؟، الله يحاسبهم كنفس واحدة، هذا معنى المحاسبة.
ومن معنى الإحصاء: أن الله -تبارك وتعالى- أحصى كل ما في هذا الكون من الذرات، تصور ماذا يوجد في قعر البحار؟ وماذا يوجد من الهباء في الفضاء؟ وماذا يوجد من الكواكب، والنجوم، والأجرام العلوية، والسفلية؟ وما يوجد من البشر، من الأولين، والأخرين؟، وما صدر عنهم من الأقوال والأفعال؟، كل هذا أحصاه الله جل جلاله بلا حاجة إلى ما يحتاج إليه الخلق في الإحصاء، والعد، فعند ذلك إذا عرف العبد مثل هذا عظم الله التعظيم اللائق، فربنا بهذه المثابة من القدرة العظيمة، الباهرة، التي لا يمكن للخلق أن يقاربوها.
[الأنترنت – موقع د خالد السبت - الأسماء الحسنى ( الحسيب ) ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الواحدة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
الحسيب يحاسب على خفايا نواياه :
وقال أحمد محمد : «الحسيب» من أسماء الله الحسنى، معناه أنه يحاسب العبد على خفايا نواياه، وعلى أعماله الظاهرة، هو كافي المتوكلين، رفيع الشأن يعلم ويرزق ويكفي، يحفظ الأعمال، ثم يجازي عليها بحسب حكمته وعلمه، العليم الذي قدر أرزاق الخلائق قبل خلقهم ووعد باستكمال العباد لأرزاقهم وضمن ألا تنفد، يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتهم، ويضبط مقاديرهم وخصائصهم، لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة.
فالله سبحانه من فوق عرشه حسيب باسمه وبصفته، له الكمال المطلق في محاسبته لخلقه، وفي علو شأنه، عظيم العطاء، يعطي فيكفي مؤونة الدنيا والآخرة، ويكفي كل الهم مهما ضاقت السبل ومهما أحكمت الحلقات.
ورد هذا الاسم في القرآن الكريم ثلاث مرات في قول الله تعالى: (...فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى باللّه حسيبا)، «النساء: الآية 6»، وفي قوله: (الذين يبلغون رسالات اللَّه ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا اللَّه وكفى باللَّه حسيبا)، «الأحزاب: الآية 39»، وقوله: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أَو ردوها إن اللّه كان على كل ـشيء حـسيبا)، «النسـاء: الآية 86».
العليم بعباده:
وذكر الحليمي، معنى الحسيب المدرك للأجزاء والمقادير، حسيب من غير أن يحسب، يدرك هذه الأجزاء ومقاديرها لا يحتاج إلى أن يحسب أو يجند ملائكته لكي يحسبوا.
وقال الشيخ السعدي والحسيب بمعنى العليم بعباده الذي كفى المتوكلين عليه، المجازي بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها، الرقيب الحاسب لعباده، المتولي جزاءهم بالعدل وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه وغمومه، وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين، «ومن يتوكل على اللَّه فهو حسبه»، أي كافيه أمور دينه ودنياه، وهو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر، ويحاسبهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وقال الخطابي، الحسيب هو المكافئ وبمعنى المحاسب، وقال أبو حامد الغزالي: الحسيب هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حسبه، إذا كان الله لك فهو حسبك.
وقال ابن القيم، وهو الحسيب كفاية وحماية والله كافي العبد كل أوان، وكفايته عامة وخاصة، فالعامة للعباد جميع ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم من حصول المنافع ودفع المضار، والخاصة كفايته لعبده التقي المتوكل عليه كفاية يصلح بها دينه ودنياه ومن ذلك قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، «الأنفال: الآية 64»، ويحسب ما يقوم به العبد من متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وقيامه بعبودية الله تعالى تكون الكفاية والعزة والنصرة. وكلام العلماء في معنى اسم الله «الحسيب» يدور على أربعة معان هي الحفظ والكفاية والشهادة والمحاسبة، وما تستلزمه هذه الصفات من العلم الكامل.
هموم وغموم :
والحسيب بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل وبالفضل، وهو الذي يحفظ أعمالهم من خير وشر، ثم يحاسبهم عليها ويجازيهم بها، وبمعنى الكفاية، فالله هو الكافي عباده همومهم وغمومهم، وكفايته لعباده عامة وخاصة، فأما العامة، فهي التي تقتضي آثارها من الرزق والإمداد بالنعم، وتكون لجميع الخلائق، وأما الخاصة فهي للمؤمنين به، المتوكلين عليه، قال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، «الطلاق: الآية 3»، أي يكفيه أمور دينه ودنياه.
وقالوا الحسيب بمعنى السيد الذي عليه الاعتماد وعلى هذا يكون ليس في الوجود حسيب سواه، هو القوي القادر على كل شيئ وفي نفس الوقت لطيف بعباده يلطف بهم ويعطيهم ما يريدون وفق حكمته.
وقالوا الحسيب هو الكريم العظيم المجيد الذي له علو الشأن ومعاني الكمال، الذي يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها وما يميزها ويضبط مقاديرها، وكل شيئ محسوب عنده بهذه الدقة وأعطى كل شيئ رزقه وأحصى أعمال المكلفين وأرزاقهم وأسبابهم وأفعالهم ومآلهم وحسابه واقع لا محالة لا يشغله حساب واحد عن الآخر، ولا يشغله سمع عن سمع، والكل سيحاسب بدقة عن كل صغيرة وكبيرة قال جل في علاه: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن اللَّه سريع الحساب)، «غافر: الآية 17».[الأنترنت – موقع الإتحاد - أحمد محمد(القاهرة) - -«الحسيب».. كافي المتوكلين يحصي المخلوقات ويرزقها]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
الحسيب هو الكافي
وقال الغزالي : الحسيب هو الكافي ؛ وهوالذي من كان له كان حسبه واالله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه وهذاوصف لا تتصور حقيقته لغيره فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا االله عز و جل فإن هوحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو
حسبك فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء فهو حسبك ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج
إلى أم ترضعه وتتعهده فليس االله حسيبه وكافيه بل االله عز و جل
حسيبه وكافيه إذ خلق أمه وخلق اللبن في ثديها
وخلق له الهداية إلى التقامه وخلق الشفقةوالمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام ودعته إليه وحملته عليه
فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب واالله تعالى وحده هو المتفرد بخلقها لأجله ولو قيل لك إن الأم وحدها كافية
للطفل وهي حسبه لصدقت به ولم تقل إهنا لا تكفيه لأنه يحتاج إلى اللبن فمن أين تكفيه الأم إذا لم يكن لبن ولكنك
تقول نعم يحتاج إلى اللبن ولكن اللبن أيضا من الأم فليس محتاجا إلى غير الأم فاعلم أن اللبن ليس من الأم بل هو
والأم من االله سبحانه وتعالى ومن فضله وجوده فهو وحده حسب كل أحد وليس في الوجود شيء وحده هو
حسب شيء سواه بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة االله سبحانه وتعالى تنبيه ليس للعبد مدخل في هذا الوصف إلا بنوع من اجملاز بعيد وبالإضافة إلى بادئ الرأي وسابق الظن العامي ، أما كونه مجازا فهو أنه إن كان كافيا لطفله في القيام بتعهده أولتلميذه في تعليمه حتى لم يفتقر إلى الاستعانة بغيره كان واسطة في الكفاية ولم يكن كافيا لأن االله سبحانه وتعالى هو الكافي إذ لا قوام له بنفسه ولا كفاية له بنفسه فكيف يكون هو كفايةغيره
وأما كونه بالإضافة إلى سابق الظن هو أنه وإن قدر أنه مستقل بالكفاية وليس بواسطة فهو وحده لا يكفي إذ يحتاج
إلى محل قابل لفعله وكفايته وهذا أقل الأمور فالقلب الذي هو محل العلم لا بد منه أولا ليكون هو كافيا في التعليم
والمعدة التي هي مستقر الطعام لا بد منها لتكون كافية بإيصال الطعام إلى بدنه وهذا مع ما يحتاج إليه من أمور
كثيرة لا يحصيها ولا يدخل شيء منها في اختياره فأقل درجات الفعل حاجته إلى فاعل وقابل فالفاعل لا يكفي دون
القابل أصلا وإنما صح هذا في حق االله عز و جل لأنه خالق الفعل وخالق المحل القابل وخالق شرائط قبوله وما
يكتنفه ولكن بادئ الرأي ربما يسبق إلى الفاعل ولا يخطر بالبال غيره فيظن أن الفاعل حسبه وحده وليس كذلك
نعم الحظ الذي منه للعبد أن يكون االله وحده حسبه بالإضافة إلى همته وإرادته وهو أنه لا يريد إلا االله عز و جل فلايريد الجنة ولا يشغل قلبه بالنار ليحذر منها ، بل يكون مستغرق الهم باالله تعالى وحده ، وإذا كاشفه بجلاله قال : ذلك حسبي فلست أريد غيره ***ولا أبالي فاتني غيره أم لم يفت [ الأنترنت – موقع المقصد الأسنى للغزالي ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا
نَعِيشُ الْيَوْمَ مَعَكُمْ مَعَ اسْمٍ مِنْ أَسْماءِ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى، اسْمِ اللَّهِ (الحَسِيبُ) الَّذِي وَرَدَ فِي القُرآنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا"، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا".. فاللهُ -سُبحانَهُ وتَعَالَى- كَافٍ مُقْتَدِرٌ، فَكَفَى بِاللهِ حَافِظًا لِعِبَادِهِ، وَحَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَمُحَاسِبًا عَلَيْهَا، هُوَ الْحَفِيظُ عَلَى كُلِّ الْأَعْمَالِ، فَهُوَ الْمُكَافِئُ وَالْمُحَاسِبُ لَهُمْ، الْمُدْرِكُ لِلْأَجْزَاءِ وَالْمَقَادِيرِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعِبَادُ إلَّا بِحِسَابٍ، وَيُدْرِكُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ وَحَالٍ يَحْدُثُ، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِعِبَادِهِ، الْمُجَازِي لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بِعِلْمِهِ بِدَقِيقِ أَعْمَالِهِمْ وَجَلِيلِهَا، وَاللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَافِي الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْحَسِيبُ؛ أَيْ: كِفَايَةً وحِمَايَةً، وَالْحَسِيبُ كَافِي الْعَبْدِ فِي كُلِّ أوَانٍ، هُوَ اللهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْحَسِيبُ الرَّقِيبُ، الْحَاسِبُ لِعِبَادِهِ، الْمُتَوَلِّي جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، الْكَافِي عَبْدَهُ هُمُومَهُ وَغُمُومَهُ، وَهُوَ الْحَسِيبُ لِلْمُتَوَكِّلِينَ، قَالَ تَعَالَى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" أَيْ: كَافِيهِ أُمُورَ دِينِهِ وَدُنْياهُ، فَاللهُ هُوَ الْكَافِي لِعِبَادِهِ، فَلَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ أَبَدًا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي هَذِهِ الْكِفَايَةِ أَحُدٌ قَطُّ، وَمَنْ ظَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ، فَاللهُ لَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ، فَمَنْ كَانَ اللهُ حَسْبَهُ فَيَالَسَعَادَتِهِ وَيَالَهَنَائهِ! وَمَا فَعَلَ الْعِبَادُ لَكَ مِنْ نَفْعٍ فَإِنَّمَا هُوَ بِكِفَايَةِ اللهِ لَكَ، حَيْثُ سَخَّرَهُمْ لَكَ، فَمِنْ كِفَايَةِ اللهِ لَنَا أَنْ خَلَقَ الْعِبَادَ
وَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ .
إِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ مَعْرِفَةِ اسْمِ اللَّهِ الْحَسِيبِ أَنْ يَثِقَ الْإِنْسانُ بِاللهِ، وَيَخْشَى الله؛ حَتَّى يُثْمِرَ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ الْخَوْفَ وَالْوَجَلَ مِنْهُ، والِارْتِدَاعَ عَنِ الْمَعَاصِيْ، وَالِاسْتِعْدَادَ لِهَذَا الْحِسَابِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ: "وَكَفَىٰ بِنَا حاسِبِينَ"، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ".. فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَاسَبَ، وَأَنْ نَزِنَ أَعْمَالَنَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ .
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الِاسْمِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ حَسْبُكَ، وَحَسْبُ جَمِيعِ أهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، فَاللهُ وَحْدَهُ كَافِيكَ وَحْدَهُ يَا مُحَمَّدُ - عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ - وَكَافِي أَصْحَابِكَ فَلَا تَحْتَاجُونَ مَعَهُ أحَدًا، فَاللهُ هُوَ الْحَسِيبُ وَحْدَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ أحَدٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَزِيدُ فِي التَّوْكِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ" فَجَعَلَ الإِيتَاءَ للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الْحَسْبَ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ لَهُ وَحْدَهُ، حَيْثُ قَالَ: "إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ" فَالرَّغْبَةُ وَالْإِنَابَةُ وَالْحَسْبُ وَالْعِبَادَةُ وَالتَّقْوَى وَالسُّجُودُ وَالنَّذْرُ وَالْحَلِفُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ تُقَدَّمُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
عِبَادَ اللَّهِ.. إِنَّ مِنْ آثَارِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفُلُ عَنْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، حِينَمَا يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَسِيبُ تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُ، وَيَوْجَلُ قَلْبُهُ، وَتَهْتَزُّ أَرْكَانُهُ، وَيَقْشَعِرُّ بَدَنُهُ إِذَا قَالَ لَهُ مَظْلُومٌ: حَسْبِيَ اللهُ عَلَيكَ، فَيَجْتَنِبُ الظُّلْمَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَظْلُومَ فَوَّضَ اللهَ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ حَسْبَهُ عَلَيْكَ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ".. فَقَدْ تَوَعَّدَ أهْلُ الشِّرْكِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَوَعَّدُوا أَصْحَابَهُ - رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَوَاعَدَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَلَمْ يَعْبَأْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِهَذَا التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ بِكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ وَقُوَّتِهِمْ؛ بَلْ أَعْلَنُوا تَوَكُّلَهُمْ وَاسْتِعَانَتَهُمْ بِاللهِ وَبِأَنَّهُ حَسْبُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".. فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى "فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.. فَالْمُؤْمِنُ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَوِ الْيَسِيرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، بِحَيْثُ يَمْتَلِئُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ثِقَةً بِأَنَّ اللهَ حَسْبُهُ عَلَى الظَّالِمِ إِذَا ظَلَمَهُ، وَهُوَ حَسْبُهُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَحِينَمَا تَضِيقُ عَلَيْهِ دُنْياهُ يُفَوِّضُ الْأَمْرَ للهِ، وَيُبَشَّرُ بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَالتَّوْفِيقِ، فَإِذَا جَعَلَ اللهَ حَسْبَهُ رَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، فَاللهُ حَسِيبُ كُلِّ مُؤْمِنٍ؛ فَعَلَيْهِ الاعْتِمادُ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ حَسِيبٌ سِوَاهُ، فَكُلُّ الْأَقْوِيَاءِ أَمَامَ اللهِ الْحَسِيبِ ضُعَفَاءُ، وَكُلُّ الْأَغْنِيَاءِ أَمَامَ اللهِ فقراءُ .
فَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ضَلَّ وَافْتَقَرَ وَذَلَّ، فَإِذَا قُلْتَ: حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ مِنْ قَلْبٍ صَادِقٍ وَاثِقٍ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ كُلَّ الْهُمُومِ، وَمَؤُونَةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَيَكْفِيكَ كُلَّ الْهَمِّ، وَيُزِيلُ عَنْكَ الْغَمَّ مَهْمَا ضَاقَتْ عَلَيْكَ السُّبُلُ، وَأُحْكِمَتْ عَلَيْكَ الْقَبْضَاتُ.
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا مَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُها فُرِجَتْ وَكُنْتُ أظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ
فَإِذَا جَعَلْتَ اللهَ حَسْبَكَ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ مُسَلِّمًا لِأَمْرِهِ فَأَبْشِرْ بِالْفَرَجِ. [الأنترنت – خطبة جمعة - القاها الدكتور / صالح مقبل العصيمي ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي بعنوان :
الحسيب هو الكافي الرفيع الشأن يعلم ويرزق ويكفي :
الآن " الحسيب " هو الكافي ، الكريم ، الرفيع الشأن ، الحسب في حقنا نحن البشر هو الشرف الثابت في الآباء ، فلان ذو حسب ، ينتمي إلى أرومة عالية .
الحسب هو العمل الصالح ، رُب حسيب الأصل غير حسيب ، له آباء أبرار لكن الابن ليس كذلك ، هذا في شأن اللغة .
أما إذا قلنا الله جلّ جلاله هو " الحسيب " هو العليم ، هو الكافي ، الذي قدر أرزاق الخلائق قبل خلقهم ، هو الحسيب ، ووعد باستكمال العباد لأرزاقهم على مقتضى حكمته ، فهو " الحسيب " وضمن ألا تنفذ أرزاقه ، فهو " الحسيـب " أليـس الله بكــافٍ عبــده ؟ وأنه سينـــال الأرزاق ،فهـو " الحسيــب " يعنـي الرازق،الكافــي" الحسيب" الرزاق .
قال أبو حامد الغزالي : " الحسيب " هو الكافي ، وهو الذي من كان له كان حسبه ، إذا كان الله لك فهو حسبك ، أحياناً إنسان يقدم لك خدمة ، لكن أنت بحاجة إلى خدمة أكبر ، يقدم لك معونة ، لكنك بحاجة إلى شفاء من مرض ، لكن الله سبحانه وتعالى إذا تولاك ، كن مع الله ترَ الله معك .
إذا كنت في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى
" الحسيب " الكافي ، يعلم ، ويرزق ، ويكفي ، والإنسان حينما يعرف الله منتهى طموحه أن يصل إليه .
والله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه ، كل شخص الله يحاسبه حساباً دقيقاً اطمأن .
" وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ " [إبراهيم:42] .
الحقيقة الذي يكفيه كفاية مطلقة ، لا يمكن أن ينال هذه الصفة إلا الله ، أي إنسان يقدم شيئاً لكنك تحتاج إلى أشياء ، الله يقدم لك الأمن ، يقدم لك الحكمة ، يقدم لك الصحة ، يقدم لك نجاح الزواج ، يقدم لك أولاداً أبرار ، يقدم لك كفاية تزيد عن حاجتك ، يقدم لك راحة نفسية ، يقدم لك رضا ، يقدم لك حياة نفسية رائعة جداً ، يقدم لك حياة مادية رائعة،الله عز وجل حسبك،يكفيك كل شيء النواحي المادية والمعنوية
الله عز وجل حسيب يكفي عباده إذا التجؤوا إليه واستعانوا به واعتمدوا عليه :
إذاً هو الله وحده كافٍ لكل شيء ، لا لبعض الأشياء ، كافٍ ليحصل به وجود الشيء ، واستمرار الشيء ، وكمال الشيء ، وجودك هو " الحسيب " استمرارك هو " الحسيب " كمال وجودك هو " الحسيب " .
" الحسيب " يكفي عباده إذا التجؤوا إليه ، واستعانوا به ، واعتمدوا عليه ، دققوا :الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا " [آل عمران:173] .
أحياناً تشعر في حالات معينة أن العالم كله يحارب الإسلام ، وكأن حرباً عالمية ثالثة معلنة على هذا الدين ، والعجيب أن هذا الدين ينمو ، ينمو في كل مكان .
أنا زرت فرنسا ، الخبر أن خمسين فرنسياً من أصول فرنسية يدخلون في الإسلام يومياً ، وأن في فرنسا ألفين وسبعمئة مسجد ، وأن الدين الثاني هو الإسلام ، والحرب على الإسلام جهاراً نهاراً معلنة وليست مبطنة .
الله عز وجل لا تحتاج معه إلى أحد إذا توكلت عليه :
" الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " [آل عمران:173] .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخامسة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية
والتي هي بعنوان : والله كلمة رائعة : " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
" فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "[آل عمران:173] .
لا تحتاج معه إلى أحد ، لا تحتاج معه إلى معين ، لا إلى قوي هو القوي ، هو الغني ، هو الموفق : " حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، قالها إبراهيمُ حينَ أُلقِيَ فِي النَّارِ " [البخاري] يعني النار أُضرمت كنار عظيمة ليلقى بها هذا النبي الكريم ، فإذا قال حسبي الله ونعم الوكيل قال الله عز وجل : " يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ " [الأنبياء:69] .
وقد لا ننتبه لدقة هذا الكلام " كُونِي بَرْداً " لو لم يقل" وَسَلَاماً " لمات من البرد " كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً " ولو لم يقل " عَلَى إِبْرَاهِيمَ " لألغي مفعول النار إلى أبد الآبدين " كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ " بالذات .
" وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ " [الأنبياء:70] .
الله عز وجل حسيب حسابه واقع لا محالة :
الآن " الحسيب " يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها ، يضبط مقاديرها
وخصائصها ، يحصي أعمال المكلفين في مختلف الدواوين ، يحصي أرزاقهم ، أسبابهم ، أفعالهم ، مآلهم أحوالهم .
الله عز وجل حسيب بالمفهوم الشمولي ، عليم ، حسيب ، يحاسب ، قال حسابه واقع لا محالة .
" فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر:92-93] .
والله يا أخوان أتعجب ممن يترنم بكلمة مسؤول كبير ، والله لو علم معناها لارتعدت فرائصه ، مسؤول كبير ! .
يقول سيدنا عمر : والله لو تعثرت بغلة في العراق ( هو في المدينة ) لحاسبني الله عنها ، لِمَ لم تصلح الطريق لها يا عمر ؟ .
سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فاطمة بنت عبد الملك رأته يبكي قالت له : مالك تبكي ؟ قال لها : دعيني وشأني ، فلما ألحت عليه ، قال : ويحك يا فاطمة إني وليت أمر هذه الأمة ، فرأيت المريض الضائع ، والفقير الجائع ، والشيخ الكبير ، والأرملة الوحيدة ، وذي العيال الكثير ، والرزق القليل ، والمأسور ، والمظلوم ، وأمثالهم في أطراف البلاد ، فعلمت أن الله سيسألني عنهم جميعاً ، وأن خصمي دونهم رسول الله ، فخفت ألا تثبت حجتي فلهذا أبكي ، دعيني وشأني " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ "لماذا طلقتها ؟ ماذا فعلت معك ؟ لماذا قبلت هذه الشراكة ؟ من أجل أن تأخذ خبرته ثم تطرده " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " أنا دائماً أقول إذا كنت بطلاً هيئ لربك جواباً يوم القيامة ، لكل ما تفعل ، حسابه واقع لا محالة ، لا يشغله حساب عن آخر ، كما لا يشغله سمع عن سمع .
الله تعالى سريع الحساب لا يشغله شأن عن شأن :
نحن ثبت علمياً لا تستطيع إطلاقاً أن تنتبه إلى صوتين في آن واحد ، ومن توهم أنه يستطيع هو في الحقيقة عنده ما يسمى سرعة التحول ، أما أنت في وقت واحد لا تسمع إلا صوتاً واحداً ، الدليل : ائتِ بمسجلة وضعها على النافذة ، واجلس مع صديق حميم ساعة ، ثم اسمع ما سجلته المسجلة ، كل هذه الأصوات التي سجلتها لم تسمعها أنت هنا، كنت غارقاً مع صديقك في حديث طويل .
فالإنسان يصطفي ، الله عز وجل لا يشغله سمع عن سمع ، ولا دعاء عن دعاء ، ولا شأن عن شأن ، فهو سريع الحساب .
" الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " [غافر:17] أحياناً بالكمبيوتر تسأل السؤال وتطلب الجواب ، يأتي فوراً ، يقول لك : سرعته عالية جداً ، المعالج بمستوى عالٍ جداً ، إذا إنسان صنع شيئاً يعطيك الجواب سريع ، فكيف خالق الأكوان ؟ .
الله عز وجل سمح لذاته العلية أن توازن مع مخلوقاته كي نعرف من هو الله :
الله عز وجل سمح لذاته العلية أن يوازنها مع مخلوقاته قال : " وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ " [الأنعام:62] ." فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " [المؤمنين:14]
كلية صغيرة لا صوت ، ولا ضجيج ، ولا ألم ، تعمل ليلاً نهاراً حينما لا سمح الله ولا قدر تفشل كلية الإنسان يضطر بالأسبوع ثلاث مرات ، وكل مرة ثماني ساعات ، وكل جلسة خمسة أو ستة آلاف ، معقدة ، وبالنهاية التصفية غير كاملة ، وازن بين كلية صناعية وبين طبيعية ، أحياناً نجد القلب الصناعي بغرف عمليات القلب خزانة ، أجهزة ، قلب يعمل ليلاً نهاراً ، بلا كلل ، وبلا ملل .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السادسة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية
والتي هي بعنوان : الله عز وجل يعلم السر وما يخفى :
" الحسيب " هو الكريم ، العظيم ، المجيد ، الذي له علو الشأن ، ومعاني الكمال له في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال .
" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " [الشورى:11] هل تعلم له سمياً ، أي مشابهاً .
" لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ " [البقرة:284] أنت مع طبيب إن لم تقل أنا أحس بألم في هذا المكان لا يعلم ، الطبيب لا يعلم إن أخفيت عنه الألم لا يعلم ، لكنك إن أخفيت عن الله عيوبك فالله عز وجل سيعالجك بها ، إن أعلنتها أو لم تعلنها ، إن أبديتها أو أخفيتها " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ " من شاء المغفرة غفر الله له ومن شاء العذاب عذبه الله : الآن دقق : " فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ " [البقرة:284]من شاء المغفرة غفر الله له ، ومن شاء العذاب عذبه الله ، كيف يعني ؟ يقول طبيب لمريضه : معك التهاب معدة حاد ، هذا الالتهاب يشفى قطعاً بحمية صارمة ، فإن لم تتقيد بهذه الحمية الصارمة لابدّ من عمل جراحي ، الأمر بيدك ، تطبق حمية صارخة وصارمة تشفى من دون عمل جراحي ، تتساهل ، الأكل غالٍ عليك ، لابدّ من عمل جراحي .
كلام دقيق ، وكأن الله عز وجل يقول لك : تتوب ، تمتنع ، تسلم ، تتابع هذا الخطأ وهذا التجاوز ، لابدّ من تأديب
" فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ "إما بالحمية ، أو بعمل جراحي ، إما من دون ألم أو مع ألم .
" أَثنى رجل على رَجُل عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويلك ، قطعتَ عُنق صاحبك - ثلاثا - ثم قال : مَنْ كان منكم مادحاً أخاه لا محالةَ ، فليقل : أَحْسِبُ فلاناً واللهُ حسيبه ، ولا يُزَكِّي على الله أحداً ، أَحْسِبُ كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه " [البخاري] .
على كل إنسان أن يكون متأدباً في تقييم الأشخاص :
يبدو أن سيدنا الصديق لما ولى سيدنا عمر بعده ، بعض الصحابة خافوا شدته ، وقلقوا على مصيرهم مع سيدنا عمر ، فجاؤوا وعاتبوا سيدنا الصديق ، وكأنهم خوفوه بالله عز وجل ، اتقِ الله يا رجل هذا شديد جداً ، فقال الصديق : تخوفونني بالله ؟ والله لو أن الله سألني يوم القيامة لقلت : يا رب وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به ، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب .
أحياناً إنسان يسألك على شخص ، والله أحسبه صالحاً ، لكني لست ضامناً ، هذا علمي به ، فقال سيدنا أبو بكر : فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب .
كن متأدباً في تقييم الأشخاص ، أحسبه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً .
هذه التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان في زيارة أحد أصحابه ، وقد توفاه الله هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، النبي قال لها : ومن أدراكِ أن الله أكرمه ؟ قولي : أرجو الله أن يكرمه ، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، سماه العلماء التألي على الله أن تحكم على مصير إنسان ، من أنت ؟ .
الترضي على معنيين إما التقرير أو الدعاء :
أيها الأخوة ، قال له : " قطعتَ عُنق صاحبك - ثلاثا - ثم قال : مَنْ كان منكم مادحاً أخاه لا محالةَ ، فليقل : أَحْسِبُ فلاناً ، واللهُ حسيبه ، ولا يُزَكِّي على الله أحداً ، أَحْسِبُ كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه " [البخاري] .
أيها الأخوة ، نحن نقول رضي الله عنه ، الحقيقة هذا الترضي على معنيين إما على معنى التقرير ، أو على معنى الدعاء ، فإذا قلت عن صحابي جليل بشره الله بالجنة تقول رضي الله عنه ، يعني لقد رضي الله عنه ، فإذا رضي الله عنه ، كيف أنت لا ترضى ؟ من أنت ؟ إذا كان خالق السماوات والأرض في عليائه رضي عن كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بايعوه تحت الشجرة ، من أنت حتى لا ترضى عنهم ؟ هذه رضية تقريرية ، أما إذا فيه عارف بالله ( عالم جليل ) إذا قلت رضي الله عنه هذه دعائية ، التقريرية شيء والدعائية شيء .
على الإنسان أن يكون قوياً ومتواضعاً في الوقت نفسه :
" جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً،أجوع يوماً فأذكره،وأشبع يوماً فأشكره" [ورد في الأثر]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السابعة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) و هي إستكمالا للماضية
والتي هي بعنوان :
العمل الصالح له مكافأة عند الله عز وجل ولو كان صغيراً :
الله سبحانه وتعالى يحب إجابة الدعوات ، تفريج الكربات ، إغاثة اللهفات مغفرة الذلات ، تكفير السيئات ، دفع البليات ، المؤمن مع المؤمن متذلل ، لكن مع غير المؤمن عزيز ، مع ربه يمرغ جبهته في أعتابه ، لكن مع غير المؤمن عنده عزة ، ولو وزعت على أهل بلد لكفتهم .
" اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير " [ابن عساكر عن عبد الله بن بسر بسند ضعيف] ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه .
اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
أيها الأخوة ، قال عليه الصلاة والسلام : " حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيءٌ ، إلا أنه كان يُخالِطُ الناسَ ، وكان موسِراً ، فكان يأمُرُ غِلْمَانَه أن يتجاوزا عن المُعْسِرِ ، قال : قال الله عز وجل : نحن أحق بذلك منه ، تجاوزوا عنه " [البخاري ومسلم] يعني أي عمل صالح عند الله له مكافأة .
الله عز وجل محاسب و مكافئ كل إنسان على عمله:
أيها الأخوة، "الحسيب" المحاسب، يوجد أخ مرة التقيت به في لقاء خاص فحدثني عن القصة التالية:
كان محامياً بجريمة قتل، قال لي: بعد سنوات عديدة صدر الحكم على هذا المتهم بالإعدام، قال لي: لما أبلغته الحكم تلقاه بأعصاب باردة، وهو يؤكد لي طوال هذه المحاكمة أنه بريء من هذه الجريمة، قال لي: هذا الوضع أثار فضولي، فأردت أن أحضر إعدامه، الآن بدأت القصة، صعد إلى الخشبة التي سوف يعدم عن طريقها، وقال: أنا بريء من هذه الجريمة، ولكني قتلت رجلاً قبل ثلاثين عاماً، كنت رئيس مخفر في أحد أحياء دمشق في الميدان، وجاء ضابط فرنسي أيام الاستعمار الفرنسي، أعطاني رجلاً ليحكم غداً بالإعدام، أودعته في الإسطبل وقفلت الباب، صباح ذلك اليوم افتقدته، هرب، من شدة خوفه من هذا الذي أعطاه
هذا الإنسان، أخذ بدوياً من الطريق وباع ناقته، وأودع ثمنها في جيبه، ووضعه محل هذا الرجل، في اليوم الثاني أخذوه وأعدموه، مضى على هذه الحادثة ثلاثون عاماً، واتهم بجريمة هو منها بريء وانتهت هذه التهمة بإعدامه، والقصة طويلة. الله عز وجل حسيب أي محاسب، حسيب أي مكافئ، حسيب أي كافٍ.
من أكبر أفضال الله على الإنسان أنه سمح له أن ينتسب إليه:
الآن الله حسيب يعني ذو شرف، عظيم معنى رابع، لذلك من أكبر أفضال الله علينا أنه سمح لنا أن ننتسب إليه.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ ﴾( سورة الزمر الآية: 53 ) أنت عبد من ؟ عبد خالق السماوات والأرض، ما قولك أن هناك أناساً في العالم يعبدون الشجر، وأن هناك أناساً يعبدون الشمس والقمر، وأن هناك أناساً يعبدون النار، وأن هناك أناساً يعبدون بعض الحيوانات، وهناك جماعات كثيرة جداً في آسيا يعبدون الجرذان والحديث طويل، وفي اليابان يعبدون ذكر الرجل، وقد شرفنا الله عز وجل بأن نعبده ، بأن نعبد خالق السماوات والأرض، بأن نعبد مالك كل شيء، أن نعبد من إليه يرجع الأمر كله، أن نعبد من هو في السماء إله وفي الأرض إله، أن نعبد خالقنا، الرحمن، الرحيم، القوي ، الغني، الحكيم. القهار الشكور:
أيها الأخوة، لذلك قال العلماء: فرق كبير بين العباد وبين العبيد، العبيد جمع عبد القهر، والعباد جمع عبد الشكر، العبد الذي عرف الله ابتداءً، وأقبل عليه، وأحبه ، واستسلم لأمره، وسعى لخدمة خلقه، وتقرب إليه بالعمل الصالح، ويجمع على عباد. ﴿ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾( سورة الحجر الآية: 42 ) ، ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾( سورة الفرقان الآية: 63 )
أما العبد الذي قلبه بيد الله، وحركته بيد الله، وسمعه بيد الله، وبصره بيد الله ، ومن فوقه بيد الله، ومن تحته بيد الله، وهو في قبضة الله، وفي أية لحظة سكتة دماغية ، في أية لحظة احتشاء في القلب، في أية لحظة من أهل القبور، هذا العبد المقهور ببقائه ، وباستمرار بقائه، المقهور بصحته، المقهور بأجهزته، هذا اسمه عبد القهر ويجمع على عبيد. ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾( سورة فصلت )
فشتان بين أن تكون عبد القهر، وبين أن تكون عبد الشكر، بين أن تكون عبداً أحبّ الله.
إرادة الله عز وجل في أن تكون العلاقة بيننا و بينه علاقة حب لا علاقة إكراه:
لذلك الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى ما أراد أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة قهر، ولا علاقة إكراه.
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾( سورة البقرة الآية: 256 ) أراد الله جل جلاله أن تكون العلاقة بيننا وبينه علاقة حب، قال: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾( سورة المائدة الآية: 54 )
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثامنة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان :
ثناء الله على نفسه بأنه الحاسب والحسيب :
لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الحاسب والحسيب، قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39]، وقال -سبحانه-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
وقد أرشدنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- إلى عدم الجرأة على الحسيب -سبحانه-، وأن نحكم على الناس بالظواهر، وأن نكل السرائر إلى الله -سبحانه- فهو أحسن حسيبٍ وأعظم رقيبٍ، فعن أَبِى بَكْرَةَ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: “وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ، قالها مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ” (البخاري).
والحسيب -سبحانه-: هو الكافي الذي كفى عباده جميع ما أهمّهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسّر لهم كل ما يحتاجونه، الدافع عنهم كل ما يكرهونه، قال -سبحانه- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) [الحجر:95], وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:137]، وقال -تبارك وتعالى:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)[الزمر: 36].
ويتجلَّى معنى الحسيب الكافي -سبحانه- الذي يكفي عباده ما أهمهم في قوله تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 62]، فالله -سبحانه- حسبك يا محمد وسندك، وناصرك ومؤازرك، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 3]، أي مَن سلَّم أمره لربه، فهو كافيه الأمرَ الذي توكل عليه فيه.
والحسيب يطلق أيضاً على الحسبان الذي يعني النظام والتدبير، يقول الحق -سبحانه-: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 1 – 5]، أي بحساب ومنازلٍ لا يعدونها, فالشمس والقمر، يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، بحيث لا يشوب جرْيَهما اختلال أو اضطراب.
فالحسيب -سبحانه-: هو الحفيظ الذي أحصى كل شيء عددًا، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الضابط لأعداد المخلوقات، وهيئاتها وخصائصها، وأوصافها يضبط المقادير والموازين، ويحصي أرزاق الخلائق وأقدارهم، وأفعالهم ومآلهم، (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد: 9].
فالحسيب -سبحانه- يعلم أدق الأعمال، وأدق الذرات، ويعلم النقير -أي رأس النواة المدبب- والقِطمير -أي الغشاء الرقيق على نواة التمر-، والفتيل –وهو الخيط بين فَلْقَتيْها-، فلا يُظلم الناسُ فتيلاً ولا قِطميرًا ولا نقيرًا ولا مِثقال ذرة.
والحسيب -سبحانه- هو المحاسب لخلقه يوم القيامة، فهو الذي أحصى على عباده كل ما عملوه ويجازيهم عليه، فقد أحصى جميع أقوال العباد وأفعالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، فهي محفوظة مكتوبة لا يضيع منها شيء، ولا يُزاد عليها شيء، فيجازي بها العباد يوم القيامة عدلاً وفضلاً، بلا ظلم ولا بخس ولا نقص, قال الله: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
والله -سبحانه- سريع الحساب؛ وذلك لكمال علمه المحيط، وحفظه لأعمال العباد، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41].
ومن سُرْعَة حِسابِه أَنه لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن مُحاسَبةِ الآخَر، ولاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع، ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ، ولهذا قال -سبحانه-: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)، فهو عالم بما للعباد وما عليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل.
تذكروا -عباد الله- أن الحسيب -جلَّ جلاله- هو أسرع الحاسبين، فإذا رجع العباد إليه يوم القيامة حاسبهم في أسرع وقت على ضخامة أعمالهم، وكثرة اختلافهم، وزيادة أعدادهم، قال -سبحانه-: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62]، وحساب الخلائق كلها سهل لا مشقة فيه على الخالق، بل هو ذلك عليه يسير، فكما أنّ خلْقهم وبعْثهم كنفس واحدة، فكذلك رزقهم وحسابهم كنفس واحدة، قال -سبحانه-: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان: 28], ولما سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: “كما يرزقهم في يوم“.
فكونوا على ثقة من عدل رب العالمين، فإن الله -عزَّ وجلَّ- إذا جمع عباده يوم القيامة للفصل والقضاء حكم بينهم بالحق والعدل، فوضع لهم الموازين العادلة التي يظهر فيها مثاقيل الذر، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئًا، ولن يفلت أحد من الموت، كما أنه لن يفلت أحد من الحساب، قال -سبحانه-: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية: 25-26].
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
التاسعة والعشرون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان :
لاسم الله “الحسيب” آثار إيمانية على العبد المسلم, منها:
=أن يلجأ إلى الله ويدعوه باسمه الحسيب -سبحانه- خاصة عند الشدائد، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يُكثرون الالتجاء إلى الحسيب -سبحانه- ويفوضون أمورهم إليه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: “(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)”. (البخاري).
=فمن حظ المؤمن أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه ولا غنىً له عنه، بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء, والركون والتفويض على الحسيب -سبحانه-، ولذلك كان قَوْل إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- وَمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فِي الشَّدائدِ، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ), دعا بها إبراهيم: (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ), ودعا بها نبيّنا محمد وأصحابه: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ).
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ -أيّ: إسرافيل- قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ: “قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا” (الترمذي وصححه الألباني).
ومن الآثار الإيمانية: أن يقف المسلم مع نفسه على الدوام لمحاسبتها، فيميز حركاتها وسكناتها، فإن كان خاطر النفس عند الهمّ يقتضي نية أو عقدًا أو عزمًا، أو فعلاً أو سعيًا خالصًا لله أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنيا، أو عارض هوى، أو لهوٍ أو غفلة، تركه وسارع في نفيه وتقييده، ثم يذكر أنه ما من فعلة -وإن صغُرت- إلا حاسب نفسه لِمَ فعلت؟.
فإن سلِم من هذا الأمر، سأل نفسه كيف فعلت؟ أبعلم أم بجهل؟ فإن الله -تعالى- لا يقبل عملاً إلا إذا كان خالصًا لوجهه وعلى سُنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإن سلم من هذا سأل نفسه لمن فعلت؟ هل أردت بذلك وجه الله تعالى أم للسمعة والرياء؟.
فالمحاسبة موازنة بين الحسنات والسيئات بميزان الشرع والأحكام، وتمييز الحلال والحرام، واتقاء الشبهات؛ حتى لا يقع في الحرام.
ومن الآثار الإيمانية: إذا أردت أن ييسر الله حسابك في الآخرة فلا تشدد على الناس في الدنيا فيما هو لك عندهم, فعن أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ. قَالَ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ” (مسلم).
ومن الآثار الإيمانية: عندما يوقن المؤمن بأنه ربه -تبارك وتعالى- هو الحسيب، فإن هذا يثمر له مراقبة أحواله وجميع شؤونه، ومحاسبة نفسه في كل ما يقوله ويفعله، وهذا من مقتضى الإيمان بهذا الاسم أن يعلم المؤمن أن الله سريع الحساب، وأنه يحاسب خلقه، ويجازيهم على أعمالهم؛ فيكون دائم الاستعداد للآخرة, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثلاثون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان :
ومن الآثار الإيمانية: أن يوقن العبد أن الله -سبحانه- هو الكافي لعباده، الذي لا غنى لهم عنه أبداً، بل لا يتصور لهم وجود بدونه، فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة، لا يشاركه في ذلك أحد أبداً، فليقطع المؤمن أمله بالناس وليكن اعتقاده في الله وحده, فهو -سبحانه- كافيه, وبقدر ما يلتزم العبد بطاعة الله ورسوله، تكون الولاية والكفاية.
واعلموا -عباد الله- أن حساب الله عسير, فليحسِب العبد له حسابه، وليحسن الاستعداد له قبل أن يقدم عليه، ولات ساعة مندم، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، فَقَالَ: “إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ” (البخاري).
فسارع بالطاعة والخير قبل أن يأتي الأجل وينزل بك الموت. [الأنترنت – موقع الخطباء ]
وأفضل حالا منه حديث يرويه سَيْف ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في الفتوحات الربانية ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير و ضعفه الألباني في ” ضعيف أبي داود “.
وحديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا )صححه الألباني في ” صحيح الترمذي .
وعَن أبي الدَّرداءِ رضيَ اللَّهُ عنه قالَ : “مَن قالَ إذا أصبحَ وإذا أَمسى : حَسبيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هوَ عليهِ توَكَّلتُ وَهوَ ربُّ العرشِ العظيمِ . سَبعَ مرَّاتٍ كفاهُ اللَّهُ ما أَهَمَّهُ صادقًا كانَ أو كاذبًا”قال ابن باز رحمه الله : جاء موقوفا عن أبي الدرداء بسند جيد
وذكره ابن القيم رحمه الله في ” الفصل التاسع عشر في الذكر عند لقاء العدو ومن يخاف سلطاناً وغيره ” انتهى من ” الوابل الصيب ” (ص/114)
ونلاحظ مما سبق أن هذا الدعاء يمكن أن يقال في مواجهة المسلم الظالم ، وليس فقط الكافر ، كما يمكن أن يلجأ إليه المهموم أو المكروب أو الخائف بسبب تعدي أحد المسلمين .
وأما الظالم الذي قيل في حقه هذا الدعاء فليس له إلا التوبة الصادقة ، وطلب العفو ممن ظلمهم وانتهك حقوقهم ، ورد المظالم إلى أهلها ؛ وإلا فإن الله عز وجل سيكون خصمه يوم القيامة ، وغالبا ما يعجل له العقوبة في الدنيا ، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
حسبنا الله وحده :
أثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه
بالحسب، فقال تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ” آل عمران: 173.
ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظير هذا قوله تعالى : ” وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ” [التوبة: 59].
فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 59]. وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59] ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده.
و ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال : ( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفاناوآوانا,فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي
والعبد لا غنى له عن ربه بأن يكون له حافظاً وكافياً ومسددا وهاديا ولذا شرع للمسلم في كل مرة يخرج من بيته أنه يقول: ( بسم الله توكلت على الله لاحول ولا قوة إلا بالله ) ليكفى همه وحاجته روى ابو داود والترمذي – وصححه الألباني لشواهده- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قَالَ « يُقَالُ حِينَئِذٍ هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِىَ وَكُفِىَ وَوُقِىَ ) أي هديت إلى طريق الحق والصواب وكفيت من كل هم ديني ودنيوي .
وكثيرا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى تذلل للمخلوقين وانكسار بين أيديهم وسؤالهم وتعلق قلبه بهم وكأن الأمور بأيديهم كل ذلك لينال بعض مآربه وحاجاته على حساب دينه ونيل رضا ربه عز وجا فيخسر كفاية الله للمتوكلين
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الواحدة والثلاثون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان :
ومن الآثار الإيمانية:
روى الترمذي – وصححه الألباني – عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ).
المعنى الثاني : (الحاسب) الذي أحصى كل شيء، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
قال تبارك وتعالى:”وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا[الجن: 28].
وقال : “إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ” [مريم: 93-94].
وأعمالك كلها أيها الإنسان محسوبة محصية، لا يضيع منها شيء، ولا يزاد عليك شيء، فتجزى بها يوم القيامة ولا تظلم.
قال تعالى:” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ” [الأنبياء: 47]. وقال سبحانه:” أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ” [المجادلة: 6]. وقد أمر الله سبحانه الحفظة بذلك، أن يدونوا كل صغيرة وكبيرة. قال تعالى:” مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” [ق: 18].
وهذا الحفظ والإحصاء الدقيق، والحساب الذي لا يفوته شيء، هو الذي يبهت أهل الأجرام، الذين لا يبالون بأعمالهم صلحت أو فسدت، يعملون السيئات بلا حساب ويظنون أنهم متروكون سدى، لا حساب ولا عذاب، قال تعالى عنهم : “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ” [الكهف: 49].
المعنى الثالث : حسيب بمعنى المحاسب (وهو أسرع الحاسبين )
والله سبحانه وتعالى هو أسرع الحاسبين فحين يَرِدْ إليه العباد فيحاسبهم لا يشق عليه ذلك فهو سبحانه يعلم عددهم وأعمالهم وآجالهم وجميع أمورهم ، وقد أحصاها وعلم مقاديرها ومبالغها وهو لا يحسب بعقد يد ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة ولا أصغر منها ولا أكبرإلا في كتاب مبين.
وحساب الخلق لا مشقة فيه على الخالق الحاسب، بل هو يسير عليه.
قال تعالى : “ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ” [الأنعام: 62].
قال ابن جرير: ثم ردت الملائكة الذين توفوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم إلى الله سيدهم الحق، (ألا له الحكم) يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه، (وهو أسرع الحاسبين) يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس، وأحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها.
لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين اهـ .
فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه كما قال سبحانه مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28].
فكذلك حسابهم لا مشقة فيه ولا تأخير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثانية والثلاثون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان :
خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل
1) إن الله سبحانه وتعالى هو الكافي لعباده الذي لا غنى لهم عنه أبدا بل لا يـُتـصور لهم وجود بدونه فهو خالقهم وبارئهم ورازقهم وكافيهم في الدنيا والآخرة لا يشاركه في ذلك أحد أبدا ، وإن ظن الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل بل كل شيء بخلقه وأمره وتقديره فالله هو الذي كفانا بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء فهو حسبنا.
2) لا تظن أن الطفل الذي يحتاج إلى أمه ترضعه وتتعهده أن الله ليس حسيبه وكافيه بل الله كفاه إذ خلق أمه وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من التقامه ودعته إليه وحملته إليه, فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب والله وحده المتفرد بخلقها لأجله .
3) الله وحده حسيب كل أحد لا يشاركه في ذلك أحد وهذا هو معنى قوله تعالى:”يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين” أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد.
وبقدر ما يلتزم العبد بطاعة الله ورسوله تكون الولاية والكفاية ولذلك كان المقصود من الأية السابقة: أن بحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة والفلاح والنجاة فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته وجعل شقاوة الدارين في مخالفته.
4) أن يكون المؤمن دائماً محاسباً لنفسه” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا” فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.
فلا يمر بك يوم دون أن تنظر أين أنت من الطريق ؟ هل تقدمت أم تأخرت ؟
5)الله سبحانه وتعالى “الحاسب” الذي أحصى كل شيء لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء قال تبارك وتعالى :”وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا”
وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة .”وكل شيء أحصيناه في إمام مبين” ” وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير”
6) حساب الخلق لا مشقة فيه على الخالق الحاسب بل هو عليه يسير. قال تعالى “ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين” فهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم أيها الناس أحصاها وعرف مقاديرها ومبالغها. فكما أن خلقهم وبعثهم لا مشقة فيه فكذلك حسابهم لا مشقة فيه .“ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ““إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون “ فسبحان الله العظيم ..الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. [الأنترنت - موقع الراشدون - شرح أسماء الله الحسنى – الحسيب ]
*فقهِ هذا الاسم المبارك "الحسيب":
اسمٌ جليلٌ يدلُّ على الكفاية من جهة، وعلى المحاسبة مِن جهة أخرى.
وتبيَّنَّا أن الله تعالى كافٍ مَن أخلَصَ التوكلَ عليه، فلا يحتاج إلى غيره، ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، وأنه مُحاسِبٌ عبادَه ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]، لا يُعجِزُه حسابُ أعمال الخلائق، بل يُوكِل حساب الحسنات والسيئات إلى العباد أنفسهم، فيقول المؤمن: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 19، 20]، ويقول الكافر والمنافق: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 25، 26].
الذي سنتناوله من ثمانيةِ أوجهٍ:
1- العلم بأن كفاية الله لعباده عامةٌ وخاصةٌ (وقد تقدم)
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَوَى إلى فراشه قال: ((الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ لَهُ وَلا مُؤْوِيَ))؛ مسلم.
وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم أن نقول عند الخروج من البيت: ((بِسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ؟)).
وكتب معاويةُ إلى عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: أنِ اكتُبِي إليَّ كتابًا توصيني فيه، ولا تُكثِري عليَّ، فكتبَتْ إليه: "سلامٌ عليك، أما بعد: فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنِ التَمَس رضاء الله بسَخَط الناس، كَفَاه الله مُؤْنَة الناس، ومَن التَمَس رضاء الناس بسَخَط الله، وكَلَه الله إلى الناس))، والسلام عليك"؛ صحيح سنن الترمذي.
2- تحقيق اسم الله الحسيب يقتضي التوكلَ عليه، وصدقُ التوكل يدفعُ المضرَّة والأذى، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، قال بعض السلف: "جعل اللهُ تعالى لكلِّ عملٍ جزاءً مِن جنسه، وجعل جزاءَ التوكل عليه نفس كفايتِه لعبده، فقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، ولم يقل: نُؤتِه كذا وكذا من الأجر؛ كما قال في الأعمال، فلو توكَّل العبدُ على الله تعالى حقَّ توكُّله، وكادَتْه السموات والأرض ومَن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك وكفَاه ونصره".
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان : مِن فقه "الحسيب"
3- الاعتقاد بأن الله يُحصِي كلَّ شيءٍ مِن أقوالنا وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا، لا يغيب عنه من ذلك شيءٌ، قال تعالى: ﴿ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴾ [الجن: 28]، وقال تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
4- مِن فقه "الحسيب" أن الحاكمَ يُجرِي القوانين الانضباطية بين الناس، ويُحاسِبهم على مخالفتهم لها، ولا حقَّ في الاعتراض عليها ما دامت مُوافِقةً لكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمَعَت عليه الأمَّةُ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن أُناسًا كانوا يُؤخَذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخُذُكم الآن بما ظهَر لنا مِن أعمالكم، فمَن أظهر لنا خيرًا أَمِنَّاهُ وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيءٌ، الله يحاسبه في سريرته، ومَن أظهر لنا سوءًا لم نَأْمَنه ولم نُصدِّقه، وإن قال: إن سريرتَه حسنةٌ"؛ البخاري.
ولو سَرَتْ هذه المحاسبة على وجهِها الأكمل، لَمَا تفشَّت بيننا مظاهرُ الغش والرِّشوة والمحسوبية، ولكن الفَطِن منا مَن يُؤدِّي المظالم في الدنيا قبل يوم الحساب، فالله كفيلٌ بردِّ الحقوق إلى أصحابها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25، 26].
5- الإيمان باسم الله "الحسيب" يُفضِي إلى استشعار معيَّة الخالق للعبد في كل زمان ومكان، وإذا كان الله معك، فمَن عليك؟ وإذا كان عليك، فمن معك؟
قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا أحببتَ أن يدومَ الله لك على ما تُحِب، فدُمْ له على ما يحب".
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "أصلِحْ سريرتَك يُصلِحِ اللهُ علانِيَتَك، وأصلِحْ فيما بينك وبين الله يُصلِحِ اللهُ فيما بينك وبين الناس، واعمَلْ لآخرتك يكفلِ اللهُ أمرَ دنياك، وبِعْ دنياك بآخرتك تربَحْهما جميعًا، ولا تَبِعْ آخرتك بدنياك فتخسَرَهما جميعًا".
6- المؤمن يحسب حسناته وسيئاته، ويقوم مِن أعمال العبادة بما يُقوِّي به سِجلَّ حسناته، وأيسرُ ذلك مؤونةً أدعيةٌ خفيفة، وأعمالٌ يسيرة علَّمَنَاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
فمن الصِّنف الأول: ما رَوَتْه جُوَيرية رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلَّى الصبح وهي في مسجدِها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسةٌ، فقال: ((ما زلتِ على الحال التي فارقتُك عليها؟))، قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلتُ بعدَكِ أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مراتٍ، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزنَتْهنَّ: سبحان الله وبحمده، عددَ خلقه، ورِضا نفسه، وزنة عرشه، ومدادَ كلماته))؛ مسلم.
ومن الصنف الثاني: ما رواه سعدُ بن أبي وقاص أن خبَّابًا قال لعبدِالله بن عمر رضي الله عنهما: ألا تسمَعُ ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن خرج مع جنازة مِن بيتها وصلى عليها ثم تبِعها حتى تُدفَنَ، كان له قيراطانِ مِن أجر، كلُّ قيراط مثلُ أُحُدٍ، ومَن صلى عليها ثم رجع، كان له من الأجر مثل أُحُدٍ))، فأرسل ابنُ عمرَ خبَّابًا إلى عائشة يسألُها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضةً مِن حصى المسجد يُقلِّبُها في يده حتى رجع إليه الرسولُ، فقال: قالت عائشة: صدَقَ أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: "لقد فرَّطنا في قراريطَ كثيرةٍ!"؛ مسلم. إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الرابعة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان: مِن فقه "الحسيب"
7- عدم المبالغة في إصدار الأحكام، وإن كانت ثناءً ومدحًا؛ دفعًا للغرور أو التغرير؛ فعن أبي بكرةَ أن رجلًا ذُكِر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه رجلٌ خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وَيْحَكَ، قطعتَ عُنُقَ صاحبِك - يقولُه مرارًا - إن كان أحدُكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسبُ كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبُه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا))؛ البخاري.
إنَّا لنفرَحُ بالأيام نقطَعُها ***** وكلُّ يومٍ مضى يُدنِي مِن الأجَلِ
فاعمَلْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهدًا *****فإنَّما الربحُ والخُسرانُ في العَمَلِ
8- ومِن أعظم ما يستوجبُه الإيمان باسم الله "الحسيب"، أن يُحاسِب المؤمنُ نفسَه عن أعماله قبل أن يُحاسَبَ عليها، فلا يُقدِّم رِجلًا ولا يخطو خُطوةً إلا على هُدًى مِن كتاب الله، أو تشريعٍ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكفيه اللهُ همَّ الدنيا والآخرة.
قال الحسن رحمه الله: "رحِم اللهُ عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخَّر".
قال ميمون بن مِهران: "لا يكون العبد تقيًّا حتى يُحاسِبَ نفسَه كما يحاسب شريكه: مِن أين مطعمه وملبسه؟".
وقال الحسن: "كان عمر رضي الله عنه ربما تُوقَد له النارُ، ثم يُدنِي يدَيْه منها ثم يقول: يا بن الخطَّاب، هل لك على هذا صبرٌ؟".
ومن قصص السلف في ذلك: أن رجلًا مؤمنًا أرسل طعامًا إلى البصرة عن طريق وكيلٍ، وقال: "بِعِ الطعام بسعرِ يومِه"، فلما وصل هذا الوكيل إلى البصرة، استدعى التجَّار، ونصَحُوه أن يؤخر البيع أسبوعًا واحدًا ليرتفع السعرُ، ففعل، وربِح أرباحًا طائلة، وبشَّر موكله بهذه الأرباح، لكن المؤمن الذي يحتاط لدينه وماله قال له: "ادفَعِ الثمن كلَّه لفقراء البصرة،فقد دخل على مالي الشبهةُ"،وهو يرى أن ذلك احتكارٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يحتكِرُ إلا خاطئٌ) مسلم.
هي الدارُ دارُ الأذى والقذى ******ودارُ الفناءِ ودارُ الغِيَرْ
ولو نِلْتَها بحذافيرِها ******** لَمِتَّ ولم تقضِ منها الوَطَرْ
أَيَا مَن يُؤمِّلُ طولَ البقاءِ ******وطولُ الخلودِ عليه ضَرَرْ
إذا ما كبِرتَ وفات الشبابُ ***** فلا خيرَ في العيشِ بعدَ الكِبَرْ
[الأنترنت – موقع الألوكة – سلسلة شرح أسماء الله الحسنى - فقه اسم الله: الحسيب - د محمد ويلالي ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخامسة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان: مِن فقه "الحسيب"
وقال الدكتور / محمد ويلالي أيضاً :
ففي سورة النساء يقول تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6].
قال ابن كثير رحمه الله: "وكفى بالله محاسبًا وشهيدًا ورقيبًا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال: هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مَبْخوسة؟"، ولذلك استصعب النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ تولِّي مال اليتيم؛ لخطورة ما يعقبه مِن محاسبة في الدنيا والآخرة، حتى قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذَرٍّ، إني أراكَ ضعيفًا، وإني أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي: لا تأمَّرَنَّ على اثنينِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيمٍ))؛ مسلم.
فمال اليتيم إما أن يكون سبيلًا إلى الجنة، إن أحسن الوليُّ التصرف فيه، وحفظه لصاحبه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [الأنعام: 152]، وإما أن يكون قطعة من النار لمن لم يتقِ الله فيه، وجعله نهبة يتصرف فيها ذات اليمين وذات الشمال؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، مِن هنا نفهم السرَّ في تذييل الآية الكريمة السابقة بقوله تعالى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾؛ أي: احذروا من أكل مال اليتيم، ولا تعتقدوا أن اليتيم صغير لا ينتبه لماله، فإن الله حسيبه، أي: كافيه، وهو لحقِّه ضامن، وهو كذلك محاسبكم على تصرفكم في ماله، ومُوقفكم يوم القيامة بين يديه؛ قال الزمخشري: "أي: كافيًا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبًا، فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب".
ومثل مال اليتيم، كل مال، أو مسؤولية، أو وظيفة استؤمنَّا عليها؛ فالله تعالى محاسبنا عليها، ورقيب علينا، لا يغيب عنه شيء؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61]، ولذلك قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62]، فالله تعالى سيحاسب المخلوقات كلها في وقت واحد، لا يحتاج إلى من يحسب له؛ لأنه الحسيب، قال الحليمي: "الحسيب: المدرك للأجزاء والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب"، بل إن الله تعالى يجعل العبد يوم القيامة حسيبًا على نفسه، حاكمًا على أعماله، مقرًّا بذنوبه؛ قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14]، أي: محاسبًا، وقرأ مجاهد: ﴿ وَيَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا ﴾؛ أي: يخرج له الطائر كتابًا، فيقيم ربنا عز وجل علينا الحجة، بأن يجعلنا نُحاسب أنفسنا بأنفسنا، حتى الذي لا يعرف منا القراءة والكتابة يقدره الله على ذلك، قال قتادة: "يقرأ يومئذ مَن لم يكن قارئًا في الدنيا"؛ قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]
ومِن شدة فرح المؤمن واستبشاره يقول: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 19، 20]، يريد أن يظهر للناس مكانته عند الله، وأنه من الناجين؛ لأنه حُوسب حسابًا يسيرًا؛ ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 64].
وأمَّا الكافرُ فيقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾ [الحاقة: 25 - 27]، وفي الآية الأخرى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 11]؛ أي: يدعو على نفسه بالهلاك، قال قتادة: "تمنى الموت، ولم يكن في الدنيا شيءٌ أكره عنده مِن الموت"﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [غافر: 17].
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السادسة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان: مِن فقه "الحسيب"
فالتخويف في الدنيا أمن في الآخرة، والنَّصَب في الدنيا راحة في الآخرة، والعمل الصالح في الدنيا تيسير للحساب في الآخرة.
بصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبرى فلمْ ترَها *** تُنالُ إلا على جسـرٍ مِنَ التَّعَبِ
والتوكل على الله كفاية في الدنيا والآخرة؛ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، قال السعدي رحمه الله: "أي: كافيه أمور دينه ودنياه"، هؤلاء لا يخشون أحدًا إلا الله؛ لأنه وكيلُهم وحسيبُهم، لا يخافون حضارة أعدائهم، ولا تقنياتهم، ولا أسلحتهم؛ لأن معهم القوي الجبار، ولذلك قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].
وأما الغفلةُ في الدنيا، والذهول عن العبادة وأعمال الخير، والانشغال بالملذات، والإغراق في المسرَّات، فتورث مناقشة الحساب يوم القيامة، و((مَنْ نُوقِش الحساب يهلك))؛ متفق عليه، يقول تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، قال ابن كثير رحمه الله: "﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾ ؛ أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير، ﴿ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ ﴾، أي: من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة؛ لأنَّ هذا الكتاب لم يغادرْ صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".
إذا كنتَ في كلِّ حالٍ معي *** فعن حملي زادي أنا في غِنى
ولقد ابتلي المسلمون في عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعداوة المشركين، وشوكة المُثبِّطين، الذين أرادوا الفَتَّ في عضدهم، فأشاعوا أن أبا سفيان خارج بجيش كبير في أعقاب معركة أُحُد، عازم على القضاء على المسلمين واستئصالهم، فكان سلاحهم أن قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، خالصين من قلوبهم، مُستيقنين بنصر الله لهم؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]؛ أي: كافينا الله، ونعم المولى لمن وَلِيَهُ وكفله، فكانت النتيجة: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾ [آل عمران: 174] ومِن ثم استحب أهل العلم أن يقال هذا الدعاء عند نزول المصائب الصعاب.
عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾، قالها إبراهيمُ عليه السَّلام حين ألقي في النَّار، وقالها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾"؛ البخاري.
فالمسلم لا يلتفت إلى أهل الخداع والمكر؛ لأن الله كافيه شرهم، وهو حسبُه من كيدهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 62].
هذا هو المؤمن، يفزع إلى الله في كلِّ شؤونه، ويعتمد عليه في كلِّ أموره.
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً ***** لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ وارْضَ بهِ ***إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ *******فحَسْبُك اللهُ في كلٍّ لكَ اللهُ
[الأنترنت – موقع الألوكة - سلسلة شرح أسماء الله الحسنى - اسم الله: الحسيب د. محمد ويلالي ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السابعة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان: مِن فقه الحسيب
وكتب هاني حلمي عبد الحميد مقالا مهما عن الحسيب فقال :
لكي تعرف كم ذرة رمل في جبل فهذا أمر يعجز عنه البشر! اللهم إلا إذا وجدت تقنيات عالية تصنع مثل هذا الأمر، لكن إن صنعته ستصنعه عن حساب كالحاسوب أو غيره، أما الله عزّ وجلّ فيحسب دون حاجة إلى حساب، الله سبحانه وتعالى يدرك هذه الأجزاء ومقاديرها، هذا جبل الحسنات وهذا جبل السيئات لا يحتاج إلى أن يحسب أو يجند ملائكته لكي يحسبون، الله سبحانه وتعالى يدرك الأجزاء والمقادير التي يعلمها العباد بالحساب من غير أن يحسب.
ورود الاسم في القرآن الكريم: هذا الاسم ورد في القرآن الكريم في قول الله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا} [النساء:6]، وقوله تعالى في سورة الأحزاب: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39] وقول الله تعالى أيضًا في سورة النساء: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}[النساء:86]، وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، وقوله تعالى: {نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]
معنى الاسم في اللغة: الحسيب: يجوز أن يكون من: حسبت الحساب، ويجوز أن يكون من معنى: أحسبني الشيء إذ كفاني، فمعنى الحسيب: أي الكافي. من معاني الاسم في حق الله تعالى: أنه يحاسب العبد على خفايا نواياه وعلى أعماله الظاهرة قال أبو عبيدة: "{إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي كافيًا مقتدرًا". وقال ابن جرير: {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا} أي كفى بالله كافيًا من الشهود الذين يُشهدهم، أى جاء أيضًا بمعنى الكفاية". وقال في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا}: "أي وكفاك يا محمد بالله حافظًا لأعمال خلقه ومحاسبًا لهم عليها".
إذًا أول معنى: الكفاية والاقتدار.
والمعنى الثاني: وهذا الذي اختاره ابن جرير الطبري: "أن حسيبًا أي حفيظًا يعني بذلك أن الله كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة أو معصية حفيظًا عليكم حتى يجازيكم بها جزاؤه".
يقول الخطابي: "الحسيب هو المكافيء وقيل: الحسيب أي المُحاسب ومنه قول الله تعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] أي محاسبًا".
الحليمي ذكر معنى آخر فقال: "الحسيب المدرك للأجزاء والمقادير التي يعلم العباد أمثالها بالحساب من غير أن يحسب" سبحانه حسيب من غير أن يحسب..
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: "المجازي لعباده بالخير والشر بحسب
حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها"، فيتلخّص لنا من ذلك: أن اسم
الله تعالى الحسيب يدور حول معاني:
(أولها: الكافي. الثاني: الحفيظ. الثالث: المحاسب). كل هذا في طيّات معاني هذا الاسم الشريف.
ذكروا أيضًا بعض المعاني الأخرى قالوا: "أن الحسيب بمعنى السيّد الذي عليه الاعتماد وعلى هذا فليس في الوجود حسيب سواه، فقد تعتمد على إنسان يحبّك لكنه ضعيف لا يستطيع أن ينجّيك مما أنت فيه وقد تعتمد على إنسان قوي ولكنه لا يحبّك، وقد تعتمد على إنسان قوي ويحبك ولكن لاتصل إليه". أما الله فهو قريب ودود قادر فيجعله هذا سبحانه وتعالى محل الإعتماد، هو لطيف بعباده يلطف بهم ويعطيهم ما يريدون على وفق حكمته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {ِإن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } لأنهم ضعفاء {ولو سمعوا ما استجابوا لكم } لأنهم عجزة لا يستطيعون أن يقدروا على كل شيء، فمن اعتمد على غير الله ضلّ ومن اعتمد على غير الله ذُلّ ومن اعتمد على ماله افتقر، ومن اعتمد على عزّ الإنسان خُذل، فاللهمّ إنا نعوذ بك أن نَذلَّ أو نُذل أونضلّ أو نُضلّ أو نجهل أو يُجهل علينا، قيل كذلك إن الحسيب هو الكريم العظيم المجيد الذي له علو الشأن ومعاني الكمال.
وقيل: الحسيب جل شأنه هو الذي يحصي أعداد المخلوقات وهيئاتها وما يميزها ويضبط مقاديرها وأحصى أعمال المكلفين في مختلف الدواوين فأحصى أرزاقهم وأسبابهم وأفعالهم ومآلهم ثم كيف يكون حالهم بعد الموت وعند الحساب يوم يقوم الأشهاد فيجازيهم سبحانه وتعالى على حسناتهم وسيئاتهم وحسابه واقع لامحالة لايشغله حساب واحد عن الآخر كما لايشغله سمع عن سمع.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثامنة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
تدبر الآيات التي ذكر فيها اسم الله الحسيب:
في ضوء هذه المعاني التي تقدمت سنتدبر الآيات التي ذكر فيها اسم الله الحسيب: قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء:86]، فمفهوم السياق في الآيات يتكلم عن بذل السلام وعن أدب السلام، إما أن تحييه بنفس هذه التحية أو تأتي له بالأفضل، فإذا مثلاً قال: السلام عليكم، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله فزدته، أو إذا أبلغ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قلت: كذلك قلت وعليكم، ولكن ما الارتباط -في ضوء هذه المعاني- بين إفشاء السلام وتذييل الآية باسم الله الحسيب؟
أولاً: يدل ذلك ذكر الله لمسألة السلام في القرآن في آية تتلى إلى يوم
القيامة على أهمية هذه العبادة بين المسلمين وأنها من أعظم القربات عند
الله عزوجل. فالنبيّ صلّ الله عليه وسلم حين دخل المدينة كان أول مرسوم وأول قرار له: «يا أيها الناس أفشوا السلام بينكم وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» (السلسلة الصحيحة:113/2)، وإفشاء السلام منك يجب أن يشمل الناس جميعًا.. كل المسلمين، حتى لمن تحمل في قلبك تجاهه عداوة أو بغض، فالله يذكرك أنه حسيب، فإن ألقيت علي مسلم السلام وأنت بداخلك فتور أو إعراض عنه، أو لو أفشيت السلام بغرض مصلحة لديك عنده، فالله يقول لك انتبه إلى نيتك حتى يؤتي العمل ثمرته من الألفة والمودة.
فبذل السلام جُعل سببًا عظيمًا للتواد بين البشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (صحيح مسلم:54)، وهذه مسألة بناء مجتمع وبناء أمة.
وبناء هذه الأمة يجب أن يكون على روابط وثيقة فإذا كان النبي صلّ الله عليه وسلم يجعل المفتاح في هذا الأمر اليسير جدًا في بذل السلام وتنزل آية منزلة من قبل الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر اليسير تتلى إلى يوم القيامة، إذًا فالأمر كبير.
فكان ذكر اسم الله الحسيب تذكرة لك أنه سبحانه وتعالى يعلم بواطنك ومتى تفشي السلام عن بغض أو عن مصلحة وسيحاسبك على ذلك، فأصلح نيّتك وألقي السلام وابذله وأنت لا تريد إلا رضا رب العالمين، فإذا حسُنت نيتك في مثل ذلك سيجازيك الله عز وجل عن هذا أضعاف ما تتصور وسيعود ذلك بالنفع العميم على المجتمع الإسلامي كله. وانتبه إلى جرم قد يفعله الكثيرون وهم غافلون : " أنه حين تقع خصومة بين اثنين ثم يهاتف أحدهما الآخر بادئًا بالسلام وإصلاح ذات البين.. فيرده الآخر ويغلق الهاتف في وجهه ويرفض مصالحته، سيحاسب عن هذا حسابًا مريرًا إذ أفسد ذات البين التي سعى صاحبه لإصلاحها، يقول النبي صل الله عليه وسلم: « ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟» - وهذه أعظم أعمال الإسلام- قالوا: "بلى يا رسول الله".
قال:« إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة.لا أقول:
إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين»(صححه الألباني)
لذلك يحث الله عزوجل مثل هذا بتذكيره بـ"الحسيب" أنه سيحاسبك، سيحفظ عليك ذلك الموقف وسيجازيك به حين تعرض عنه ثم تقبل عليه تناديه يارب فيعرض عنك ولا يقبل عذرك، من هنا تأتي خطورة اسم الله الحسيب. حظ المؤمن من اسم الله الحسيب : لا مفر من حساب الله: الله لا يشغله حساب أحد عن أحد، فأنت حينما كنت تلميذًا تنتظر حساب معلمك لك، وتصغي بأذنك لصوته وهو ينادي أسماء من حولك، تقول في نفسك لعل الوقت ينتهي وأنجو من هذه المواجهه، لعله ينشغل مع تلميذ قبلي، وتظل تحدث نفسك وتنظر في الوقت منتظرًا الجرس، وهكذا إلى أن يصل دورك أو أن تنجو.. الله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب أحد عن أحد ولن يكون هناك دور تنتظر فيه، ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة، قال جلّ في علاه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى. أن الحسيب معناه (الكافي) انظر إلى هذا الدعاء الجميل الذي نردده كثيرًا لكن نحتاج أن نستشعره بقلوبنا، في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمّد صل الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، (صحيح البخاري).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
التاسعة والثلاثون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
تدبر الآيات التي ذكر فيها اسم الله الحسيب:
ما أحبّ هذا الدعاء إلى القلوب "حسبنا الله" تشعر بها بالسكينة على قلبك، الله يكفيني، يكفي قلبي فلا أقلق ولا أنزعج ولا أرتاب ولا تصيبني من جرّاء الخوف أي إساءة ولا أي إشكال كيف وقد أنزل ربي سبحانه وتعالى على قلبي برد الرضا فصرت ساكنًا هادئًا مرتاحًا. كل هذا حين تقول: "حسبي الله" فيكفيك.. قد تبتلى ولكن هذا البلاء لا يؤثر على نفسيتك فلا تشعر به بلاءً وقد قلت هذا كثيرًا، وقد يحدث العكس فالبعض يُبتلى فيعيش في البلاء دون أن يمسّه البلاء، يكون دائمًا خائفًا، تحدّثه نفسه: سوف يحدث كذا، سأفقد فلانًا، سأخسر صفقة، سأتعرض لحادث.. فتصيبه الأمراض النفسية والقلق والاكتئاب والمشاكل من دون أن يمسه شيء، أو يحدث له أي مشكلة. إنما المؤمن موقفه حيال هذه الابتلاءات: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} فلم يقعوا في شراك شرك الخوف بل اعتمدوا على ربهم، السيّد الذي لا يعتمد إلا عليه سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فكان هذا الرزق العميم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ...} [آل عمران:174] وجاءت "فضل" نكرة في سياق الإثبات على اعتبار أن تكون مطلقة. وكان يمكن أن يقول: "فانقبلوا بنعمة وفضل" لكن أضاف من الله لكي يشعر قيمة هذه النعمة، فهي نعمة خاصة جدًا مميزة جدًا {..بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ..} [آل عمران:174]، أي كل سوء، سواء كان هذا السوء مشاكل نفسية سواء كانت ابتلاءات تصيبه بأذى في جسده أو بأذى في نفسيته أو في أهله في ماله، لم يقربه أدنى شيء {..لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} [آل عمران:174]، فرضي عنهم ربهم فأرضاهم، ولا شك هذا هو الفوز العظيم. إذًا فمن حظ المؤمن أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه، بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء، فتجد دائما العبد المنيب إلى ربه دائم الاتصال بربه وكلمة يا رب هذه لا تخلو منها ساعة من وقته (يا رب) دائمًا يا رب اغفر لي يا رب تب عليّ يا رب، استرني يا رب، يا رب ليس لي سواك.. يا رب يا رب.. يتصل بالله سبحانه وتعالى. ويشير العلماء هنا إلى معنى دقيق من معانى الكفاية: فيقولون هل احتياج الإنسان لملاذ الحياة يقدح في شعوره بكفاية الله له؟ فأنت إذا احتجت إلى طعام وشراب وإلى شمس وإلى أرض وإلى مسكن وإلى زوجة وسعيت في تحصيل ذلك هل هذا يقدح في فهمك بأن الله هو كافيك؟ فقالوا: "الكفاية حصلت بهذه الأسباب لكن الله وحده المتفرد بخلقها للعبد فهذا لا يُسمى في الاعتبار إنشغالًا عن الله إلا إذا كان هذا قاطعًا عن الله، يعني العبد إذا خرج من بيته ليعمل متوكلاً على الله سائلاً منه الرزق والفتح، موقن بأن الله هو الفتاح الرزاق، يختلف عن عبد آخر خرج مشغولاً بالأسباب ناسيًا للاستعانة، معتمدًا على عقله وحوله وقوته ومهارته، فيأبى الله عزّ وجل إلا أن ينقض عزيمته ولا يحصل مراده، بل وقد يُفتن. إذًا فمتى استعان فلا قدح في سعيه إلا أن يتعلّق بالأسباب دون مسببهًا. حسبنا الله ونعم الوكيل.. ما حقها منك؟ انظر إلى قول الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، لو تصورت الآن بخيالك وقع هذا الكلام على قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه! تخيل لو أنك في مشكلة كبيرة تسبب لك خوف وقلق بالغ ثم تجد إنسان له منزلة كبيرة يأتي بجانبك ويربت على كتفك ويقول لك: لا تخف أنا معك، أنت في حمايتي أنت في ضماني.. كيف يكون أثرها وقد ضاقت عليك الدنيا من كل مكان؟ لا شك أنك ستشعر بالظفر وبكثير من الدفء والحنان والأمان.. أليس كذلك؟ فحين يقول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ} أدركها النبي صلى الله عليه وسلم ففرح واستبشر، فمن كان الله معه ماذا فقد ومن كان الله عزّ وجلّ بعيدًا عنه فماذا وجد، ولكن:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، ما حقها منك أنت؟ أعني ذلك الرجل الذي وقف معك ذلك الموقف وقت ضعفك، فحفظك وأمنك ونصرك على ظروفك، بماذا ستقابل فعله هذا معك؟ لعلك تريد أن تقبّل يديه وقدميه أو تفعل له أي جميل وخدمة جزاء وقوفه بجانبك في شدتك. فحق هذه الآية الجميلة، قول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36]، أن يكون ردك: بلى يارب ومن يكفيني غيرك؟ يقولها قلبك فتشعر بلذة تودده إليك وقربه منك، فتزداد بدورك حبًا وقربًا له سبحانه. لا شك أن المعنى الثالث: الذي ينبغي أن نتوقف عنده مليًا في اسم الله تعالى الحسيب هي مسألة المحاسبة..
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
أمثلة من محاسبة السلف لأنفسهم: - أرسل رجل مؤمن طعامًا إلى البصرة عن طريق وكيل وقال: "بع الطعام بسعر يومه"، فلما وصل هذا الوكيل إلى البصرة استدعى التجار ونصحوه أن يؤخر البيع إسبوعًا فقط ليرتفع السعر، فأخّر إسبوع وربح أرباحًا طائلة وبشّر موكله بهذه الأرباح وجاء الجواب: "ادفع الثمن كله لفقراء البصرة فقد دخل على مالي الشبهة". القصة أن التاجر أمر وكيله أن يذهب إلى البصرة ويبيع الطعام فور وصوله بالسعر الذي يبيعون به، فالتجار قالوا له فقط انتظر أسبوع سترتفع الأسعار وستكسب أكثر، فانتظر الرجل وربح فعلاً، فلما بشّره بهذا امره أن يوزع الأرباح الزائدة على فقراء البصرة مخافة الشبهة، لأنه حبس الطعام ليزداد سعره فصار محتكرًا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المحتكر ملعون» (صحيح الجامع الصغير). إنما هكذا يحاسب الإنسان نفسه، على أدنى شيء، انظر كيف فكّر الرجل؟ فسبحان الله.. لو كان رجلاً من عصرنا بل ومن الملتزمين هل كان سيفعل فعلته؟ أم سيقول يا شيخ لم التشدد، هون على نفسك، الدين يسر إنما رزق وبركه! وغيره مما سيقال؟! - آخر جاءته رسالة أن قصب السكر قد تلف فذهب إلى السوق واشترى السّكر، وبعدها ربح ثلاثين ألف دينار، وبعد ربحه تذكّر أن هذا الذي اشترى منه السكر ما علم أن السّكر أصابته آفة فباعه بهذا السعر البخس فاعتبر أنه بهذا غرر به وخدعه فجاءه فقال: "يا هذا لقد جاءتني رسالة من غلامي أن قصب السّكر أصابته آفة، فأقل هذه البيعة، فقال له: أنت الآن قد بلّغتني قال: كان ينبغي أن أبلغك قبل هذا وبَطُل شرائي للبضاعة، فقال البائع: قد سامحتك على هذا، فقال: لن أقبل ولا أنام الليل إلاإذا أقلتني من هذه البضاعة"، أي أنه يطلب منه أن يأخذ ماله فيقول له: أني سامحتك، فيقول له: لا أنا الآن لن أستطيع أن أنام أو أن افعل أي شيء إلا إذا أنت أخذت حاجتك وأخذت أموالك وأنا لا أريد أن يدخل جيبي أي شيء من هذا! - وذاك الراعي قال له ابن عمر رضي الله عنهما: "بعني هذه الشاة! فقال: ليست لي، فقال له: قل له ماتت، قال له: والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ولو قلت له أنها ماتت أو أكلها الذئب لصدّقني فأنا أمين عند صاحب هذه الشاة ولكن أين الله"! - كان عمر ابن عبد العزيز إذا كلمه أحد بمسألة شخصية يطفأ السراج الذي يوقد من بيت المال. - وهذا عمر رضي الله عنه رأى إبلًا سمينة فقال: "لمن هذه الإبل؟ فقالوا: هي لابن عمر، قال: ائتوني به، فقال: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لي، اشتريتها بمالي الحلال وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا فعلت؟! قال عمر رضي الله عنه: ويقول الناس يا بنيّ: ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين! هل علمت لماذا هي سمينة؟ لأنك ابني، بع هذه الإبل وخذ رأس مالك وردّ الباقي إلى بيت مال المسلمين". انظر كيف كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم حسابًا شديدًا على كل شيء، حتى إذا وقفوا أمام الله عزّ وجل وأمسكوا كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة خُفّف عليهم من هذا الحساب. يقول الأُقْليْشِيّ: "أرباب القلوب الذين يستشعرون بأوجاع الذنوب العالمون يقينًا بمحاسبة علّام الغيوب، وإحصاء حسابه لجميع العيوب أقاموا في الدنيا موازين القسط على أنفسهم وأحصوا عليها بالحساب المُحرِّر كل ما برز عنها وصدر، ثم حاسبوها محاسبة الشريك النّحرير القائم بمال شريكه، الذي انفصل عن شركته بعداوة وقعت بينه وبينه، فانظر هل يسمح له بأن يترك حبة أو يسقيه من مائه عند ظمأه عُبّة؟ فلذلك انتثرت ذنوب هؤلاء من الصحائف كما ينتثر ورق الشجر اليابس بالريح العاصف، فإذا قدموا قضاء الموقف برزت لهم تلك الصحائف منيرة، وقد استنارت فيها المعاني والأحرف لأنها مُمحّضة مُخلَّصة بدقيق المحاسبة وشديد المطالبة، فكان حسابهم عرضًا لا مناقشة فيه".
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الواحدة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
أمثلة من محاسبة السلف لأنفسهم:
وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأنّ النّبيّ صل الله عليه وسلم قال: «من حوسب عُذّب»، قالت عائشة: "فقلت: أوليس يقول الله عزّوجلّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]"، قال: «إنما ذلك العرض» -أي ذلك عرض الصحائف أي تُطوى من غير أن يُناقش في أي شيء- «لكن من نوقش الحساب يهلك» (صحيح البخاري). فائدة: روي أن رجلاً سأل أي الشهداء أفضل؟ قال: «الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك ينطلقون في الغرف العلا من الجنة، ويضحك إليهم ربهم، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه» (صححه الألباني). وفي الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه، والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء» (صححه الألباني). هؤلاء الثلاثة عمل الأول منهم كان قيام الليل، كانوا في سفر ثم نام الناس جميعًا أما هو فقام يتملّق الله سبحانه وتعالى ويتلو آياته، والثاني الذي يدافع عن هذا الدّين بصدره، يفرّ الناس من المواجهة وهو يبقى ثابتًا إما أن يقتل وإما أن ينال من هؤلاء الأعداء فيردهم، والثالث رجل ينام مع زوجته الجميلة الوضيئة على فراش وطيئ جميل، فما يكون منه إلا أن يقوم فزعًا ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ويدع شهوته من زوجته. وقياسًا على المعنى فكل موقف وقفته في حياتك نازعتك فيه نفسك على شهوة شديدة مباحة تداخل معها حق لله فآثرت الله على الحلال المباح إلا خفف عنك الحساب بإذن الله.
نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بمحاسبة دائمة لأنفسنا وأن نشهد اسم الله
تعالى الحسيب هذا دائمًا أبدًا فلا يمر بنا يوم إلا وكنا مستشعرين لهذا المعنى، نسأل الله تعالى أن يدخلنا الجنّة بغير حساب ولا سابقة عذاب. [ المصدر: موقع الكلم الطيب (هاني حلمي عبد الحميد) ] [ الأنترنت – موقع شرح وأسرار الأسماء الحسنى - (اسم الله الحسيب )- هاني حلمي عبد الحميد]
كلمة حسْب: استخدمت في غزوة أحد عندما قال ابوبكر رضي الله عنه لمحمد صلى الله عليه و سلم: حسبك يا رسول الله لقد ألححت على ربك، و ذلك عندما أخذ النبي يدعو و يلح على الله في الدعاء حتى بان بياض إبطه ،من هذه المعاني، واحدة لا تنطبق على الله تعالى، و هي حَسِب اي ظنَّ.أما بقية المعاني فكلها تليق بالله جلّ و علا:
١-الله يحسب كل الاعمال الأصلية و المتولدة عنها و يحاسب على الحسنات و السيئات بما فيها من حسنات و سيئات جارية ( حَسَبَ) ، و بعد ان يحاسب يكافئ.
٢- و الشرف و الحسَبْ بحقه ( ذو حسب)،
٣- الله الحسيب هو الكافي : هو الكافي حقيقة و ليس مجازاً.
مثال: عندما ترضع الام طفلها حتى يشبع: من كفاه حقيقة؟ انه الله الذي رزقها الحليب و علمه كيف يرضع، فهو من كفاه، قد يكون لديها الحليب لكن الطفل لا يستطيع ان يرضع ! فالأم هي الكافية مجازاً.
مثال آخر: شخص غني يتكفل بتمويل عائله؛ هو الكافي مجازاً، لكن الله هو من رزقه المال ليتصدق و رقق قلبه لينفق؛ فالله هو الكافي حقيقة. قال تعالى( أليس الله بكافٍ عبده)؟
كفاية الله عبده تكون في الأشياء الملموسة و المعنوية، في الأشياء المعنوية لا يستطيع غير الله ان يكفينا.(أنه هوأضحك وأبكى) سورة النجم.
في غزوة بدر، قال تعالى: ( يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين) الله يكفيك و يكفي المؤمنين معك.
في غزوة أحد: ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم
فزادهم إيماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله و
فضلٍ لم يمسسهم سوء)
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثانية والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا :
قال تعالى { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَآئِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا } (النساء - 45)
قال السعدى : وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا
.ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.
وقال ا لطنطاوي : وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ جملة معترضة للتأكيد والتحذير.أى: والله- تعالى- أعلم بأعدائكم منكم- أيها المؤمنون- وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى أقوالهم وأعدوا العدة لتأديبهم دفاعا عن دينكم وعقيدتكم.
وقوله وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً تذييل قصد به غرس الطمأنينة في نفوس المؤمنين بأن العاقبة لهم.
أى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يتولى أموركم، ويصلح بالكم، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يدفع عنكم مكرهم وشرورهم وما دام الأمر كذلك فاكتفوا بولايته ونصرته. واعتصموا بحبله، وأطيعوا أمره، ولا تكونوا في ضيق من مكر أعدائكم فإن الله ناصركم عليهم بفضله وإحسانه. وقوله وَكَفى فعل ماض. ولفظ الجلالة فاعل والباء مزيدة فيه لتأكيد الكفاية. ووليا ونصيرا منصوبان على التمييز. وقيل على الحال.
وكرر- سبحانه- الفعل كفى لإلقاء الطمأنينة في قلوب المؤمنين، لأن التكرار في مثل هذا المقام يكون أكثر تأثيرا في القلب، وأشد مبالغة فيما سيق الكلام من أجله.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة. ومن كان الله كافيه نصره على عدوه فاطمئنوا ولا تخافوا.
وقال البغوى : ( والله أعلم بأعدائكم ) منكم فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم ، ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) قال الزجاج : معناه اكتفوا بالله وليا واكتفوا بالله نصيرا .
وقال ابن كثير : ( والله أعلم بأعدائكم ) أي : هو يعلم بهم ويحذركم منهم ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) أي : كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره .
وقال القرطبى :
قوله تعالى : والله أعلم بأعدائكم ،يريد منكم فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم . ويجوز أن يكون أعلم بمعنى عليم ؛ كقوله تعالى : وهو أهون عليه أي هين . وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا الباء زائدة ؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . ووليا ونصيرا نصب على البيان ، وإن شئت على الحال .
وقال ابن عاشور : جملة { والله أعلم بأعدائكم } معترضة ، وهي تعريض؛ فإنّ إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد .
وجملة { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [ النساء : 45 ] تذييل لتَطْمئنّ نفوس المؤمنين بنصر الله ، لأنّ الإخبار عن اليهود بأنّهم يريدون ضلال المسلمين ، وأنّهم أعداء للمسلمين ، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين ، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عَدد وعُدد ، وبيدهم الأموال ، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها : من قينقاع وقريظة والنضِير وخِيْبر ، فعداوتهم ، وسوء نواياهم ، ليسا بالأمر الذي يستهان به؛ فكان قوله : { وكفى بالله ولياً } مناسباً لقوله : { ويريدون أن تضلوا السبيل } ، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فاللَّه وليّكم يهديكم ويتولّى أموركم شأن الوليّ مع مولاه ، وكان قوله : { وكفى بالله نصيراً } مناسباً لقوله : { بأعدائكم } ، أي فاللَّه ينصركم .
وفعل ( كفى ) في قوله : { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } مستعمل في تقوية اتّصاف فاعله بوصف يدلّ عليه التمييز المذكورُ بعده ، أي أنّ فاعل ( كفى ) أجدر من يتّصف بذلك الوصف ، ولأجل الدلالة على هذا غلَب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل كفى ، وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية ، بحيث يحصل إبهام يشوّق السامع إلى معرفة تفصيله ، فيأتون باسم يُميّز نوع تلك النسبة ليتمكّن المعنى في ذهن السامع .
وقد يجيء فاعل ( كفى ) غير مجرور بالباء ، كقول عبدِ بني الحسحاس :
كفَى الشيبُ والأسلام للمرء ناهياً ...
وجعل الزجّاج الباء هنا غير زائدة وقال : ضُمّن فعل كفَى معنى اكتف ، واستحسنه ابن هشام .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۚ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة - 104)}
ورد في التفسير الميسر : وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام، قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل، أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا أي: لا يفهمون حقًّا ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه؟ فكيف يتبعونهم،والحالة هذه؟ فإنه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.
وقال السعدى :
فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا، و { قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله. ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا.
وقال الطنطاوي : ثم حكى- سبحانه- ما كان عليه هؤلاء العوام المقلدون من جمود وخضوع للباطل فقال.
{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا }
أى: وإذا قال قائل- على سبيل النصح والإرشاد إلى الخير- لهؤلاء المقلدين المنقادين انقيادا أعمى للأوهام إذا قال لهم هذا القائل: تعالوا أى: أقبلوا واستجيبوا لما أنزل الله في كتابه، ولما أنزل على رسوله من هدايات لتسعدوا وتفوزوا قالوا: بعناد وغباء- حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: كافينا في هذا الشأن ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وتقاليد وعادات. فلا نلتفت إلى ما سواه.
وهذه حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه بغير تعقل ولا تدبر. إنه يترك معاني العزة والكرامة وإعمال الفكر ليعيش أسير ذلته للأوهام التي شب عليها وسار خلفها مقلدا غيره ومنقادا له انقياد الخانعين الأذلاء.
ولم يذكر- سبحانه- القائل في قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للإشارة إلى أن الذين يدعونهم إلى طريق الحق متعددون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم، والمؤمنون يدعونهم. والأدلة الدالة على صدق هذا الدين تدعوهم. ومع كل ذلك فهم في ضلالهم سادرون، وتحت سلطان سادتهم خانعون.
وقوله- تعالى- {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ } رد عليهم بأسلوب التأنيب والتعجيب من جهالاتهم وخضوعهم للباطل بدون مراجعة أو تفكير.
والواو في قوله {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ} واو الحال. والهمزة التي دخلت عليها للإنكار والتعجب من ضلالهم.
والمعنى: أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا. ويغلقون على أنفسهم باب الهداية ليبقوا في ظلمات الضلالة ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الحق ولا يهتدون إليه لانطماس بصيرتهم.
وليس المراد أن آباءهم لو كانوا يعلمون شيئا أو يهتدون إلى شيء لجاز لهم ترك ما أنزل الله وإنما المراد هنا تسجيل الواقع المظلم الذي كانوا عليه وكان عليه آباؤهم من قبلهم. فآباؤهم كانوا كذلك يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم بدون تأمل أو تفكير. فالآية الكريمة زيادة في توبيخهم وتوبيخ آبائهم لأنهم جميعا مشتركون في الانغماس في الضلال والجهل.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الرابعة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قال علماؤنا : وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التحذير مما يجب أن يحذر منه ، وهو حال من تقدمت صفته ممن ركن في دينه إلى تقليد آبائه وأسلافه ، وظاهر هذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس القيام به بواجب إذا استقام الإنسان ، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة وأقاول الصحابة والتابعين على ما نذكره بحول الله تعالى .
الثانية : قوله تعالى : عليكم أنفسكم معناه احفظوا أنفسكم من المعاصي ; تقول عليك زيدا بمعنى الزم زيدا ; ولا يجوز عليه زيدا ، بل إنما يجري هذا في المخاطبة في ثلاثة ألفاظ ; عليك زيدا أي : خذ زيدا ، وعندك عمرا أي : حضرك ، ودونك زيدا أي : قرب منك ; وأنشد :
يا أيها المائح دلوي دونكا ****** إني رأيت الناس يحمدونكا
الثالثة : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس قال : خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ; قال إسحاق بن إبراهيم سمعت عمرو بن علي يقول : سمعت وكيعا يقول : لا يصح عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا حديث واحد ، قلت : ولا إسماعيل عن قيس ، قال : إن إسماعيل روى عن قيس موقوفا . قال النقاش : وهذا إفراط من وكيع ; رواه شعبة عن سفيان وإسحاق عن إسماعيل مرفوعا ; وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أياما ، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ، وفي رواية قيل : يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . قال ابن عبد البر قوله : ( بل منكم ) هذه اللفظة قد سكت عنها بعض الرواة فلم يذكرها ، وقد تقدم ، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به هلك ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا قال : هذا حديث غريب ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ; قولوا الحق ما قبل منكم ، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل . في رواية عن ابن عمر بعد قوله : ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم ، وقال ابن المبارك قوله تعالى : {عليكم أنفسكم } خطاب لجميع المؤمنين ، أي : عليكم أهل دينكم ; كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم فكأنه قال : ليأمر بعضكم بعضا ; ولينه بعضكم بعضا ، فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب ; وهذا لأن الأمر بالمعروف يجري مع المسلمين من أهل العصيان كما تقدم ; وروي معنى هذا عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب : معنى الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن خويز منداد : تضمنت الآية اشتغال الإنسان بخاصة نفسه ، وتركه التعرض لمعائب الناس ، والبحث عن أحوالهم فإنهم لا يسألون عن حاله فلا يسأل عن حالهم وهذا كقوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : كن جليس بيتك وعليك بخاصة نفسك ، ويجوز أن يكون أريد به الزمان الذي يتعذر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فينكر بقلبه ، ويشتغل بإصلاح نفسه .
قلت : قد جاء حديث غريب رواه ابن لهيعة : قال حدثنا بكر بن سوادة الجذامي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك . قال علماؤنا : إنما قال عليه السلام ذلك لتغير الزمان ، وفساد الأحوال ، وقلة المعينين ، وقال جابر بن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب ; عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ، لا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ; قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت ; فأنزل الله الآية بسبب ذلك وقيل : الآية في أهل الأهواء الذين لا ينفعهم الوعظ ; فإذا علمت من قوم أنهم لا يقبلون ، بل يستخفون ويظهرون فاسكت عنهم ، وقيل : نزلت في الأسارى الذين عذبهم المشركون حتى ارتد بعضهم ، فقيل لمن بقي على الإسلام : عليكم أنفسكم لا يضركم ارتداد أصحابكم ، وقال سعيد بن جبير : هي في أهل الكتاب - وقال مجاهد : في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم ; يذهبان إلى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية ، وقيل : هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; قاله المهدوي . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله .
قلت : قد جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : ليس في كتاب الله تعالى آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية . قال غيره : الناسخ منها قوله : إذا اهتديتم والهدى هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والله أعلم .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخامسة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}
الرابعة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول ،
أو رجي رد الظالم ولو بعنف ، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته ، أو فتنة يدخلها على المسلمين ; إما بشق عصا ، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ; فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده ، ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم ; وعلى هذا جماعة أهل العلم فاعلمه .
وقال الطبرى : يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنـزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله, ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء ، أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به, ويقولون: " نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة, وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل "قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله, لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون ، ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب, بل كانوا على ضلالة وخطأ.
وقال ابن عاشور : الواو للحال . والجملة حال من قوله : { الذين كفروا } [ المائدة : 103 ] ، أي أنّهم ينسبون إلى الله ما لم يأمر به كذباً ، وإذا دعوا إلى اتّباع ما أمر الله به حقّاً أو التدبّر فيه أعرضوا وتمسّكوا بما كان عليه آباؤهم . فحالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا لهم من الضلالات ، مثل البحيرة والسائبة وما ضاهاهما ، ويعرضون على دعوة الرسول الصادق بلا حجّة لهم في الأولى ، وبالإعراض عن النظر في حجة الثانية أو المكابرة فيها بعد علمها .
والأمر في قوله { تعالَوْا } مستعمل في طلب الإقبال ، وفي إصغاء السمع ، ونظر الفكر ، وحضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الصدّ عنه ، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه . وتقدّم الكلام على فعل ( تعالَ ) عند الكلام على نظير هذه الآية في سورة النساء .
و { ما أنزل الله } : هو القرآنُ . وعطف { والى الرسول } لأنّه يرشدهم إلى فهم القرآن . وأعيد حرف ( إلى ) لاختلاف معنيي الإقبال بالنسبة إلى متعلّقي { تعالوا } فإعادة الحرف قرينة على إرادة معنيي { تعالوا } الحقيقي والمجازي .
وقوله { قالوا حسبنا } أي كافينا ، إذا جُعلت ( حَسْب ) اسماً صريحاً و { ما وجدنا } هو الخبر ، أو كفانا إذا جُعلت ( حسب ) اسمَ فعل و { ما وجدنا } هو الفاعلَ . و ( على ) في قوله : ما وجدنا عليه ءاباءنا } مجاز في تمكّن التلبّس ، وقوله : { أو لو كان آباؤهم لا يعلمون } الخ ،
وليس لهذه الآية تعلّق بمسألة الاجتهاد والتقليد كما توهّمه جمع من المفسّرين ، لأنّ هذه الآية في تنازع بين أهل ما أنزل الله وأهل الافتراء على الله ، فأمّا الاجتهاد والتقليد في فروع الإسلام فذلك كلّه من اتّباع ما أنزل الله . فتحميل الآية هذه المسألة إكراه للآية على هذا المعنى .
[الأنترنت – موقع {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۚ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ (المائدة - 104)} إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السادسة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
ورد في التفسير الميسر : ولا تظنن الذين يفرحون بما أَتَوا من أفعال قبيحة كاليهود والمنافقين وغيرهم، ويحبون أن يثني عليهم الناس بما لم يفعلوا، فلا تظننهم ناجين من عذاب الله في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب موجع. وفي الآية وعيد شديد لكل آت لفعل السوء معجب به، ولكل مفتخر بما لم يعمل، ليُثنيَ عليه الناس ويحمدوه.
وقال السعدى : ثم قال تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي: من القبائح والباطل القولي والفعلي. { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه. { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي: بمحل نجوة منه وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم } ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، ولم ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية، وفرح بها، ودعا إليها، وزعم أنه محق وغيره مبطل، كما هو الواقع من أهل البدع. ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } وقال: { سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين } وقد قال عباد الرحمن: { واجعلنا للمتقين إماما } وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر.
وقال الطنطاوي في الوسيط : لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم حكى - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة ، وهى أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ويفرحون بما أتوا ، وبين سوء عاقبتهم بسبب تلك الأخلاق القبيحة فقال : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . والخطاب فى قوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } موجه إلى النبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له الخطاب .
والنهى موجه إلى حسبان أن يكون فى هؤلاء الأشرار خير .
أى أن الله تعالى ، ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم ، نهيا مؤكدا عن أن يظن خيرا فى هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا . و " المفازة " مصدر ميمى بمعنى الفوز . وقيل هى اسم مكان أى محل فوز ونجاة .
والمعنى : لا تظن يا محمد أن هؤلاء الأشرار { الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } أى يفرحون بما فعلوا من بيعهم الدين بالدنيا واستبدالهم الذى هو أدنى بالذى هو خير ، والذين { يُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } أي يحبون أن يمدحهم الناس على ما لم يفعلوه من الوفاء بالعهود ، ومن إظهار الحق وعدم كتمانه ، فإنهم فعلوا الشرور والآثام . ثم لم يحاولوا أن يستروا ما اقترفوه من آثام ، بل يطلبون من الناس أن يمدحوهم على ما ارتكبوه من منكرات ، فهم ممن قال الله فيهم { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } لا تحسبن هؤلاء الأشرار { بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } أى بمنجاة منه ، بل لهم عذاب مؤلم أشد الإيلام بسبب ما اجترحوه من سيئات .
وقوله { الذين يَفْرَحُونَ } هو المفعول الأول لتحسب ، والمفعول الثانى محذوف والتقدير : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا موفقين . أو مهتدين ، أو صالحين .
وحذف هذا المفعول الثانى لدلالة ما بعده عليه وهو قوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } ولتذهب النفس كل مذهب فيما يتناسب مع الوصف الذى وصفهم به - سبحانه - ، وهو أنهم يفعلون القبيح ويحبون أن يحمدهم الناس عليه .
وقوله { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } بيان لسوء عاقبتهم بسبب أفعالهم السيئة وهو تأكيد لقوله { لاَ تَحْسَبَنَّ } .
قال الزجاج : جرت عادة العرب أنهم إذا طالت القصة أو الكلام أعادوا لفظ حسب وما أشبهه ، للإعلام بأن الذى جرى متصل بالكلام الأول والأول متصل به . فتقول . لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا . فيفيد " لا تظنن " توكيدا وتوضيحا .
والتعبير عن النجاة من العذاب الأليم ، ولكنهم لن ينجوا منه أبدا ، ولذا أكد - سبحانه - عدم نجاتهم بقوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فذكر - سبحانه - عذابهم الأليم بالسلب والإيجاب ، فنفى أولا أنهم بمنجاة منه ، وأخبر ثانيا أنهم واقعون فيه .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السابعة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
وقد ذكر كثير من العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شان أحبار اليهود فقد روى الشيخان والترمذى والنسائي ، وغيرهم عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف أن مروان قال لبوابه رافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذ بن جميعا .
فقال ابن عباس : مالكم وهذه ، وإنما نزلت هذه فى أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إلى قوله { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال ابن عباس : " سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ،واستحمدوا بذلك إليه ،وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه "
وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين ، فقد روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو ، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبو أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزت ، { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ } .
قال العلماء : ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة فى جميع ما ذكر . وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حدثتنا عن جملة من رذائل أهل الكتاب ، فقد حكت قولهم { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } وحكت قولهم { أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } ووصفتهم بكتمان الحق ونبذه وراء ظهورهم ، كما وصفتهم بأنهم يفرحون بما أتوا وييحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، وردت على أكاذيبهم بما يدحضها وأنذرتهم بسوء مصيرهم ، وساقت للمؤمنين من ألوان التسلية ما يخفف عنهم مصابهم ، ويجعلهم يسيرون فى هذه الحياة بعزم ثابت ، وهمة عالية ، ونفس مطمئنة
ثم ختم - سبحانه - سورة آل عمران بالحديث عن مظاهر قدرته ، وأدلة وحدانيته ، وبشر أصحاب العقول السليمة - الذين يعتبرون ويتعظون ويتفكرون ويكثرون من ذكره - برضوانه وجنته ، وأمر عباده بألا يغتروا بما عليه الكافرون من سلطان وجاه فإنه - سبحانه - قد جعل العاقبة للمتقين ، كما أمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة ومداومة خشيته فقال - تعالى - : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات . . . } .
وقال البغوى : قوله : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) الآية قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( لا تحسبن ) بالتاء ، أي : لا تحسبن يا محمد الفارحين وقرأ الآخرون بالياء " لا يحسبن " الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب ( فلا يحسبنهم ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين ، أي فلا يحسبن أنفسهم ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتح الباء أي : فلا تحسبنهم يا محمد وأعاد قوله ( فلا تحسبنهم ) تأكيدا وفي حرف عبد الله بن مسعود ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب ) من غير تكرار .
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا سعيد بن أبي مريم ، أنا محمد بن جعفر ، حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن موسى ، أنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم : أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) كذلك حتى قوله : (يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا )
قال عكرمة : نزلت في فنحاص وأشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون بإضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا بأهل العلم . وقال مجاهد : هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه .
وقال سعيد بن جبير : هم اليهود فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم وهم برآء من ذلك
وقال قتادة ومقاتل : أتت يهود خيبر نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نحن نعرفك ونصدقك وإنا على رأيكم ونحن لكم ردء ، وليس ذلك في قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون : ما صنعتم؟ قالوا : عرفناه وصدقناه فقال لهم المسلمون : أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : ( يفرحون بما أتوا ) قال الفراء بما فعلوا كما قال الله تعالى : " لقد جئت شيئا فريا " ( مريم - 27 ) أي : فعلت ، ( ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة ) بمنجاة ، ( من العذاب ولهم عذاب أليم ) .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثامنة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
وقال ابن كثير : وقوله : ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد ، وبالياء على الإخبار عنهم ، أي : لا تحسبون أنهم ناجون من العذاب ، بل لا بد لهم منه ، ولهذا قال : ( ولهم عذاب أليم )
وقال القرطبى : أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاءوا به من العذر . ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ; فنزلت لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية . وفي الصحيحين أيضا أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب . ثم تلا ابن عباس {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه و لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا }. وقال ابن عباس : سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ; فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، وما سألهم عنه . وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق ، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم ، واشتروا به ثمنا قليلا أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا ; فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم . فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله . وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبينا في آخر الزمان يختم به النبوة ; فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك : هو غير ذلك ، فأعطاهم الملوك الخزائن ; فقال الله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا . والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني . ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد ، فكانت جوابا للفريقين ، والله أعلم . وقوله : واستحمدوا بذلك إليه ، أي طلبوا أن يحمدوا . وقول مروان : لئن كان كل امرئ منا إلخ دليل على أن للعموم صيغا مخصوصة ، وأن " الذين " منها . وهذا مقطوع به من تفهم ذلك من القرآن والسنة . وقوله تعالى : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلفين ; لأنهم كانوا يقولون : نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه ، وكانوا يقولون : نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ; يريدون أن يحمدوا بذلك . و ( الذين ) فاعل بيحسبن بالياء . وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير وأبي عمرو ; أي لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب . وقيل : المفعول الأول محذوف ، وهو أنفسهم . والثاني بمفازة . وقرأ الكوفيون تحسبن بالتاء على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; أي لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب . وقوله فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الباء ، إعادة تأكيد ، ومفعوله الأول الهاء والميم ، والمفعول الثاني محذوف ; أي كذلك ، والفاء عاطفة أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول . وقرأ الضحاك وعيسى بن عمر بالتاء وضم الباء " فلا تحسبنهم " أراد محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين ; أي فلا يحسبن أنفسهم ; " بمفازة " المفعول الثاني . ويكون " فلا يحسبنهم " تأكيدا . وقيل : " الذين " فاعل " بيحسبن " ومفعولاها محذوفان لدلالة " يحسبنهم " عليه ; كما قال الشاعر :
بأي كتاب أم بأية آية ****** ترى حبهم عارا عليّ وتحسبِ
استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذكر مفعول ، الثاني ، و " بمفازة " الثاني ، وهو بدل من الفعل الأول فأغنى لإبداله منه عن ذكر مفعوليه ، والفاء زائدة . وقيل : قد تجيء هذه الأفعال ملغاة لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر :
وما خلت أبقى بيننا من مودة*** عراض المذاكي المسنفات القلائص
المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ; الواحد مذك ، مثل المخلف من الإبل ; وفي المثل جري المذكيات غلاب ، والمسنفات اسم مفعول ; يقال : سنفت البعير أسنفه سنفا إذا كففته بزمامه وأنت راكبه ، وأسنف البعير لغة في سنفه ، وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ; يتعدى ولا يتعدى . وكانت العرب تركب الإبل وتجنب الخيل ; تقول : الحرب لا تبقي مودة . وقال كعب بن أبي سلمى :
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ******** وما إخال لدينا منك تنويل
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
التاسعة والأربعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم {أتوا} بقصر الألف ، أي بما جاءوا به من الكذب والكتمان . وقرأ مروان بن الحكم والأعمش وإبراهيم النخعي {آتوا } بالمد ، بمعنى أعطوا : وقرأ سعيد بن جبير " أوتوا " على ما لم يسم فاعله ; أي أعطوا . والمفازة المنجاة ، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا ; أي ليسوا بفائزين . وسمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل ; قاله الأصمعي . وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ; تقول العرب : فوز الرجل إذا مات . قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ ، قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة ; لأن من قطعها فاز . وقال الأصمعي : سمي اللديغ سليما تفاؤلا . قال ابن الأعرابي : لأنه مستسلم لما أصابه . وقيل : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب ; لأن الفوز التباعد عن المكروه ، والله أعلم .
وقال الطبرى : القول في تأويل قوله : لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عني بذلك قومٌ من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وقال آخرون: عني بذلك قوم من أحبار اليهود، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلى العلم.
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم: أهل صلاة وصيام.
والصواب من المخطوطة.] =" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا "، من الصلاة والصوم، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم: " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ".
وقال آخرون: بل معنى ذلك: " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا "، من تبديلهم كتاب الله، ويحبون أن يحمَدهم الناس على ذلك.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام.
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من اليهود، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه.
وقال آخرون: بل عني بذلك قومٌ من يهود، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد، والله عالم منهم خلاف ذلك.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية، قول من قال: " عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه "، لأن قوله: " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: لا تحسبن، يا محمد، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناسَ أمرك، وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبًا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم، واتباع لوحيه وتنـزيله الذي أنـزله على أنبيائه، وهم من ذلك أبرياء أخلياء، لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم، لم يفعلوا شيئًا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه=" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ".
وقوله: " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب "، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا، [ انظر تفسير"فاز" فيما سلف قريبا ص: 452.] من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله، ولا هم ببعيد منه، [ انظر معاني القرآن للفراء 1: 250. ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
وقال ابن عاشور : تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدّث عنهم ببيان حالة خُلقهم بعد أن بيّن اختلال أمانتهم في تبليغ الدين ، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبّر عنهم بالمَوصول للتوصّل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشرّ والخسّة ثم لا يقف عند حدّ الانكسار لما فعل أو تطَلُّب الستر على شنعته ، بل يرتقي فيترقّب ثناء الناس على سوء صنعه ، ويتطلّب المحمدة عليه . وقيل : نزلت في المنافقين ، والخطاب لكلّ من يصلح له الخطاب ، والموصول هنا بمعنى المعرّف بلام العهد لأنّ أريد به قوم معيَّنون من اليهود أو المنافقين ، فمعنى { يفرحون بما أتوا } أنّهم يفرحون بما فعلوا ممّا تقدّم ذكره ، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمناً قليلاً وإنّما فرحهم بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا
ومعنى : { يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أنّهم يحبّون الثناء عليهم بأنّهم
حفظة الشريعة وحُرّاسها والعالمون بتأويلها ، وذلك خلاف الواقع . هذا ظاهر معنى الآية . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أنّهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأحبّوا الحمد بأنّهم علماء بكتب الدين .
وفي «البخاري» ، عن أبي سعيد الخدْري : أنّها نزلت في المنافقين ، كانوا يتخلّفون عن الغزو ويعتذرون بالمعاذير ، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحبّون أن يحمدوا بأنّ لهم نية المجاهدين ، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق . وفي «البخاري» : أنّ مروان بن الحكم قال لِبَوّابِه : «اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئِنْ كان كلّ امرىء فرح بما أتَى وأحَبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذّباً لنعذّبَنّ أجْمعون» قال ابن عباس : «وما لكم ولهذه إنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ ، فسألهم عن شيء فأخبروه بغيره فأرَوْه أنّهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرِحوا بما أتوا من كتمانهم» ثم قرأ ابن عباس : { وإذ أخذ الله ميثاقَ الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 187 ] حتّى قوله : { لا تَحْسِبَنّ الذين يفرحون بما أتوا } [ آل عمران : 188 ] الآية . والمفازة : مكان الفوزَ . وهو المكان الذي مَن يحلّه يفوز بالسلامة من العدوّ سمّيت البيداء الواسعة مَفَازة لأنّ المنقطع فيها يفوز بنفسه من أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلّبون الإقامة فيها . قال النابغة :
أوْ أضَعُ البيتَ في صَمَّاء مُظلمةٍ ***** تُقَيّدُ العَيْر لا يسري بها الساري
تُدافع الناس عنّا حين نركبها ******* من المظالم تُدْعَى أمّ صَبَّار
ولمّا كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بيّن ذلك بقوله : { من العذاب } . وحرف ( مِن ) معناه البدلية ، مثل قوله تعالى : { لا يسمن ولا يغني من جوع } [ الغاشية : 7 ] ، أو بمعنى ( عن ) بتضمين مفازة معنى منجاة .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمور ، وأبو جعفر : لا يحسبنّ الذين يفرحون بالياء التحتية على الغيبة ، وقرأه الباقون بتاء الخطاب .
وأمّا سين ( تحسبن ) فقرأها بالكسر نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وأبو جعفر ، ويعقوب . وقرأها بالفتح الباقون .
وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حُذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأوّل لدلالة ما يدلّ عليه وهو مفعول { فلا تحسبنّهم } ، والتقدير : لا يحسبنّ الذين يفرحون إلخ أنْفسَهم . وأعيد فعل الحسبان في قوله : { فلا تحسبنهم } [ آل عمران : 188 ] مسنداً إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتي بعده بالمفعول الثاني : وهو { بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] فتنازعه كلا الفعلين . وعلى قراءة الجمهور : { لا تَحسبنّ الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] بتاء الخطاب يكون خطاباً لغير معيّن ليعمّ كلّ مخاطب ، ويكون قوله : { فلا تحسبنهم } اعتراضاً بالفاء أيضاً والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول ، وهو محلّ الفائدة ، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه . وقرأ الجمهور فلا تحسبنّهم : بفتح الباء الموحدة على أنّ الفعل لخطاب الواحد؛ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بضم الباء الموحدة على أنّه لخطاب الجمع ، وحيث إنّهما قرءا أوّله بياء الغيبة فضمّ الباء يجعل فاعل ( يحسبنّ ) ومفعوله متّحدين أي لا يحسبون أنفسهم ، واتّحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظنّ كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة ، وهي : ( وَجد ) و ( عَدِم ) و ( فَقَدَ ) .
وأمّا سين «تحسبنّهم» فالقراءات مماثلة لما في سين { يحسبنّ } .
[الأنترنت – موقع لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (آل عمران - 188)]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الواحدة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
وقال د خالد السبت : يقول الله جل جلاله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]،وفي القراءة الأخرى المتواترة: { لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ } [آل عمران:188]، هذه الآية اشتهر فيها ما أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده عن ابن عباس -ا: "أن مروان بن الحكم حينما كان أميراً على المدينة، أرسل مولاه أو بوابه واسمه رافع، وقال له: اذهب إلى ابن عباس فسأله عن هذه الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، وقال: قل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذَّبًا، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم وهذه الآية؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران: 187]، هذه الآية، وتلا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، وقال: "سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنْ قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه"، يعني: أنهم قد أخبروه وأعلموه كأنهم تمدحوا بذلك، فهذا القول عن ابن عباس رضي الله عنهما مشهور غاية الشهرة في تفسير الآية، حتى إن الكثيرين لربما أخذوا بظاهر هذا الكلام وظنوا أن هذا الوعيد يختص باليهود، ولعل الأمر بخلاف ذلك، فهو لا يختص بهم، فالأمر كما قال حذيفة رضي الله عنه حينما ذُكر له قول كهذا فقال: "نعم بني العم -يعني اليهود- ما كان من بيضاء أو حسنة فهي لكم، وما كان من سوداء أو سيئة فهي لهم"، يعني: أن الأشياء الجيدة تقولون: هذه نزلت فينا،والأشياء السيئة تقولون: نزلت في اليهود، يعني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،حتى لو كانت الآية نازلة في اليهود، مع أن قول ابن عباس - رضي الله عنهما - هذا ليس صريحاً في النزول، بل هو من قبيل التفسير، يقول: هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، يعني: نزلت في هؤلاء،فهم داخلون في معناها، ولكنها تشمل هؤلاء وغيرهم.
وسبب نزولها هو ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخُدري : "أن جماعة من المنافقين تخلفوا عن رسول الله ﷺ في بعض مغازيه، فلما قفل"، لما رجع، طبعاً هم فرحوا بتخلفهم وقعودهم خلاف رسول الله ﷺ، "فلما رجع جاءوا إليه واعتذروا إليه، واستحمدوا عنده فنزلت هذه الآية"، هذا صريح في هذا الحديث المُخرج في الصحيحين أن سبب نزول هذه الآية ليس اليهود بل نزلت في هؤلاء المنافقين الذين يتخلفون عن رسول الله ﷺ ويفرحون بتخلفهم وقعودهم ثم بعد ذلك يتشبعون بما لم يعطوا، ولهذا قال النبي ﷺ: المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور[4]، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، ولذلك يقال في معناها -والله تعالى أعلم: إن هذه الآية -كما قال الحافظ ابن القيم وجماعة من المحققين- يدخل في معناها كل من أتى شيئاً مما حرمه الله عليه من الشرك، أو البدعة، أو المعصية، ثم بعد ذلك أيضاً يحب أن يُحمد بما لم يفعل، فهذه ليست من صفات أهل الإيمان، وإلا فإن المؤمن مَن سرته حسنته، كما أخبر النبي ﷺ، وساءته سيئته[5]، ولمّا سئل النبي ﷺ عن العمل الذي يعمله الرجل ثم يطلع عليه الناس بعد ذلك من غير قصد منه، فأخبر النبي ﷺ بأن هذا: عاجل بشرى المؤمن والله جل جلاله يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فالمؤمن يفرح بالعمل الطيب والعمل الصالح الذي يوفقه الله جل جلاله إليه ولا يكون معذباً بسبب هذا، ولكن هذه الآية فيمن فرح بالمخالفة، والمعصية، والذنب، أو الكفر أو الشرك، ويحب أن يُحمد بشيء ما فعله،يتشبع به وهو لم يفعل، يوهم الناس أنه فعل، وأنه بذل وأنه قدم،وليس كذلك، فهذا هو معنى الآية -والله تعالى أعلم، ولشهرة قول ابن عباس رضي الله عنهما حتى ظن الكثيرون أنها في اليهود، وأنه لا بأس عليهم إذا وقعوا في مثل هذا الصنيع، فمن أجل ذلك أدخلتها في الآيات التي نذكرها في هذه الليالي، وهي التي قد تُحمَل على غير مراد الله جل جلاله منها. إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثانية والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
أخرجه أحمد في المسند، برقم (2712)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2778)، ولفظه: "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس -ا: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، هذه الآية، وتلا ابن عباس: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، وقال ابن عباس: "سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه".
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، برقم (714)، عن أبي البختري، قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ البقرة:229، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82]، قال: فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟، قال: "نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مُرة، ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك"، والحاكم في المستدرك، برقم (3218)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأبو نعيم في الحلية (4/179).
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا، برقم (4567)، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2777)، عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين، في عهد رسول الله ﷺ، كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ، فإذا قدم النبي ﷺ اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188].
أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى من افتخار الضرة، برقم (5219)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، برقم (2129).
أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في لزوم الجماعة، برقم (2165)، وأحمد في المسند، برقم (114)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن إسحاق -وهو المروزي- فقد روى له الترمذي، وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2546).
أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، برقم (2642).[الأنترنت – الموقع الرسمي للدكتور خالد السبت - الآية 188 من سورة آل عمران ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان: من صفات المنافقين
*{لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران - 188)
مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ وَيُمْدَحَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُعَابَ وَيُذَمَّ، وَهَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ فِيهِ، يَرْغَبُهُ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ؛ وَلِذَا كَانَ التَّشْجُّعُ مِنْ مُحَفِّزَاتِ الْعَمَلِ وَالْإِنْجَازِ، وَمِنْ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْإِنْتَاجِ. وَلَا غَضَاضَةَ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فُرَادَى وَجَمَاعَاتٍ، وَتَنَزَّلَ الْقُرْآنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَقْرَؤُونَهُ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِأَفْعَالٍ فَعَلُوهَا، أَوْ صِفَاتٍ تَخَلَّقُوهَا. وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا.
وَإِنَّمَا المَحْذُورُ وَالمَمْنُوعُ أَنْ يُثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَأَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَأَنْ يُوصَفُوا بِمَا لَا يَتَّصِفُونَ بِهِ، وَتِلْكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْكَذِبِ، وَالمُنَافِقُ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ. وَفِي الْقُرْآنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ رَضِيَ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 188]، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا»، فَنَزَلَتْ: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ﴾» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَلَا غَرَابَةَ فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ المُنَافِقُ بِهَذَا الْخُلُقِ الرَّدِيءِ، وَأَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّ المُنَافِقَ وَقَعَ فِي شَرٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ؛ لِيَنَالَ بِذَلِكَ أَعْرَاضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ وَلِذَا كَانَ المُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَزْوِ وَهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ هَزِيمَتَهُ وَقَتْلَهُ، فَإِنِ انْتَصَرَ تَوَدَّدُوا لَهُ، وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ؛ لِيُكْمِلُوا مُهِمَّتَهُمْ فِي النِّفَاقِ وَالْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ، وَلِيَكُونُوا مِمَّنْ يُنْسَبُ النَّصْرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَلِيَظْفَرُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا شَيْئًا لِلْإِسْلَامِ سِوَى الصَّدِّ عَنْهُ، وَالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَإِنْ غَلَبَ الْكُفَّارُ المُؤْمِنِينَ تَوَدَّدُوا لِلْكُفَّارِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِتَخْذِيلِهِمْ وَإِرْجَافِهِمْ فِي أَوْسَاطِ المُؤْمِنِينَ، وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ كَانُوا سَبَبَ نَصْرِ المُشْرِكِينَ؛ لِيَجْعَلُوا لَهُمْ أَيَادِيَ عِنْدَهُمْ؛ وَلِكَيْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّـهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141].
وَإِنَّكَ لَتُبْصِرُ هَذَا المَشْهَدَ النِّفَاقِيَّ الَّذِي يَعْرِضُهُ الْقُرْآنُ ظَاهِرًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِعْلَامِيِّينَ الْعَرَبِ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ وَصُحُفِهِمْ وَمَجَلَّاتِهِمْ؛ فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ مَعَ الْأَحْدَاثِ تَقَلُّبَ السَّفِينَةِ عَلَى الْأَمْوَاجِ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَهُوَ نِفَاقٌ؛ فَيَمْدَحُونَ الْيَوْمَ مَنْ كَانُوا يَذُمُّونَ بِالْأَمْسِ، وَيَقْدَحُونَ فِي مَنْهَجٍ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يُبَشِّرُونَ بِهِ، وَيُغَيِّرُونَ انْتِمَاءَاتِهِمْ وَوَلَاءَاتِهِمْ بِحَسَبِ مَصَالِحهِمُ الشَّخْصِيَّةِ، وَيُخَوِّفُونَ المُسْلِمِينَ بِأَعْدَائِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ لَهُمْ.
بَلْ إِنَّهُمْ يَقِفُونَ بِأَقْلَامِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ فِي خَنْدَقٍ وَاحِدٍ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ، وَمَعَ كُلِّ مِلَّةٍ وَنِحْلَةٍ وَطَائِفَةٍ تُحَارِبُ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ فَضَحَتْ وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَمْ مِنْ مُغَرِّدٍ وَدَّ لَوْ غَيَّرَ مَا كَتَبَ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، وَسَارَ عَكْسَ اتِّجَاهِهِ، وَلَكِنْ بَقِيَ مَا يَفْضَحُ تَوَجُّهَهُ وَانْتِمَاءَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَفْرَحُ بِمَا فَعَلَ مِنْ تَقَلُّبِهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَبِمَا لَا يَدَ لَهُ فِيهِ.
وَإِذَا انْتَشَرَ فِي النَّاسِ دَاءُ المَدْحِ بِلَا حَقٍّ، وَأَحَبَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ رَاجَتْ سُوقُ النِّفَاقِ، وَاضْمَحَلَّ الصِّدْقُ فِي الْأَوْصَافِ، فَصَارَ الْوَاحِدُ يَكْذِبُ فِي مَدْحِهِ، وَالمَمْدُوحُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصْغِي إِلَيْهِ وَيَبْتَسِمُ لَهُ، وَالْحُضُورُ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصَفِّقُونَ وَيُوَافِقُونَ، فَأَيُّ إِنْجَازَاتٍ سَتَكُونُ لِمَنْ هَذِهِ أَخْلَاقُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ؟!
وَإِذَا وَصَلَ الْحَالُ بِالنَّاسِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تُصْبِحُ حَسَنَاتٍ، وَالْإِخْفَاقَاتِ سَتُعَدُّ إِنْجَازَاتٍ، وَيُصْبِحُ الْأَغْبِيَاءُ أَذْكِيَاءَ، وَيُصْبِحُ الْفَاشِلُونَ نَاجِحِينَ، فَتَنْقَلِبُ المَوَازِينُ، وَيَجْنِي الْجَمِيعُ كُلَّ النَّتَائِجِ المُرَّةِ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْوَضِيعَةِ.
ولَوْلَا أَنَّ حُبَّ المَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ تَعَالَى الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزُّخرف: 44]. وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَعْمَلَ المَرْءُ عَمَلًا لِأَجْلِ المَدْحِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ مَدْحِ النَّاسِ يُذْهِبُ الْأَجْرَ، وَيَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا يُنْجِزُ مَا يُنْجِزُ أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ الَّتِي حُمِّلَهَا، وَرِعَايَةً لِلْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا، وَيَكُونُ دَافِعُهُ لِذَلِكَ رِضَا اللَّـهِ تَعَالَى بِمَا عَمِلَ، وَالسَّعْيَ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَرَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ «أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّـهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، «وَخَيْرَ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الرابعة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان: من صفات المنافقين
وَلِتَقْلِيلِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ السَّيِّئَةِ وَهِيَ أَنْ يُحِبَّ الْوَاحِدُ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاقْتِصَادِ فِي المَدْحِ؛ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ المَدْحِ وَلَوْ كَانَ بِحَقٍّ يَقُودُ المَمْدُوحَ إِلَى الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَفُتُورِ الْهِمَّةِ، وَتَرْكِ المُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي مُدِحَ لِأَجْلِهِ. كَمَا أَنَّهُ يُحَوِّلُ مُجْتَمَعَ المَدَّاحِينَ إِلَى قُطْعَانٍ بَشَرِيَّةٍ تَأْلَفُ بَذْلَ المَدْحِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ صِفَاتِهَا الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُعِيقُهَا عَنِ الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ وَالتَّقَدُّمِ.
لمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَمْدِ بِمَا لَمْ يَفْعَلِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَفْتِكُ بِالمُجْتَمَعَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُشِيعُ النِّفَاقَ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَمَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ؛ لِتَبْقَى أَخْلَاقُ النَّاسِ عَلَى فِطْرَتِهَا لَا تَتَلَوَّنُ لِأَجْلِ مَصَالِحهَا، وَلَا تَتَبَدَّلُ مَوَاقِفُهَا لِأَجْلِ دُنْيَا تَطْلُبُهَا، رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «… مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَعَاقَبَهُ اللهُ تَعَالَى بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَهُوَ مَا ادَّعَى إِلَّا يُرِيدُ كَثْرَةً فَزَادَهُ اللهُ تَعَالَى قِلَّةً، وَمَا ادَّعَى إِلَّا يُرِيدُ مَدْحًا فَيَزِيدُهُ اللهُ تَعَالَى ذَمًّا عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ.
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ». وَثُنِّيَ ثَوْبُ الزُّورِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، فَجُعِلَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ كَذَبَ مَرَّتَيْنِ؛ فَكَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ، وَكَذَبَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِينَا سُنَنَهُ فِي أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّزَلُّفِ وَالتَّلَوُّنِ؛ فَيَلْفِظُهُمُ النَّاسُ وَيَمْقُتُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفَضِيحَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَنْكَى.
فَلْنَحْذَرْ مِنْ أَوْصَافِ المُنَافِقِينَ، وَلَا نَغْتَرَّ بِمَدْحِ المَدَّاحِينَ، وَلَا نَتَحَلَّ بِمَا لَمْ نُعْطَ، وَلَا نَدَّعِ مَا لَمْ نَفْعَلْ، وَلْنُخْلِصْ لِلَّـهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شُئُونِنَا، فَلَا تَوْفِيقَ وَلَا عِزَّ وَلَا رِفْعَةَ إِلَّا مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 139] .[ الأنترنت – موقع الخطباء ]
قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه.
ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة، فقال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ}، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن، هو ابن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آتاه الله مالاً، فلم يؤد زكاته، مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه ـ يعني: بشدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك
ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} إِلى آخر الآية، تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، به.
(حديث آخر) قال الإِمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إِن الذي لا يؤدي زكاة ماله، يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة، به. ثم قال النسائي: ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة.
(قلت): ولا منافاة بين الروايتين، فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين، والله أعلم، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ}، وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد، زاد الترمذي: وعبد الملك بن أعين، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود، به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله تعالى: {وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ} أي:{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} [الحديد: 7] فإن الأمور كلها مرجعها إِلى الله عز وجل.
فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم {وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: بنياتكم وضمائركم.
[الأنترنت – موقع تفسير القرآن الكريم - قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخامسة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
الحذر من سنة الاستدراج :
سُنَنُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ لَا تَتَبَدَّلُ، وَآثَارُهَا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ؛ فَلِأَهْلِ الثَّوَابِ ثَوَابُهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَشُكْرِهِمْ، وَلِأَهْلِ الْعِقَابِ عِقَابُهُمْ بِمَعْصِيَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 34]، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا، أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ: اسْتِدْرَاجُهُمْ بِالنِّعَمِ، وَإِنْذَارُهُمْ بِالنُّذُرِ، ثُمَّ أَخْذُهُمْ بِالنِّقَمِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ﴾ [الْأَعْرَافِ: 182- 183]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِيّ مَتِينٌ﴾ [الْقَلَمِ: 44- 45].
وَالِاسْتِدْرَاجُ الرَّبَّانِيُّ لِلْبَشَرِ يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ نِعْمَةً إِذَا أَعْقَبَهُ تَوْبَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ نِقْمَةً إِذَا خُتِمَ بِعَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ فِيهِمْ حِينَ يَسْتَدْرِجُهُمْ بِنِعَمِهِ، فَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النُّذُرَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ.
وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلْكُفَّارِ: فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُسْتَدْرَجُونَ بِالنِّعَمِ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 178]، ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 196-197]، ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطَّارِقِ: 17].
وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلظَّلَمَةِ: وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، وَقَدْ يُسْتَدْرَجُ مَنْ بَغَى عَلَى النَّاسِ وَبَخَسَهُمْ حُقُوقَهُمْ، فَلَا يُعَجَّلُ عِقَابُهُ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: 42]، ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الْحَجِّ: 48]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِيُ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُودٍ: 102]» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِلْمُنَافِقِينَ: كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 126]، فَاللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا لِيُذَكِّرَهُمْ، ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ لِيَسْتَدْرِجَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَاضُونَ فِي عِنَادِهِمْ، مُنْغَمِسُونَ فِي نِفَاقِهِمْ؛ وَلِذَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 55].
وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاجُ لِأَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ: كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: 205-207]، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 44]» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَكُلُّ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّتِي عُذِّبَتْ قَدِ اسْتُدْرِجَتْ وَأُنْذِرَتْ قَبْلَ الْعَذَابِ ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الْحَجِّ: 48] وَهِيَ سُنَّةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 94- 95]. فَهَذَا هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْأُمَمِ قَبْلَ عَذَابِهَا.
وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ يُسْتَدْرَجُونَ بِالنِّعَمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ بِهِمُ النِّقَمُ ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزُّمَرِ: 49].
وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا لِلْعَذَابِ: فِرْعَوْنُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ آتَاهُ الْمُلْكَ وَالْمَالَ، وَأَرْسَلَ لَهُ النُّذُرَ فَلَمْ يَعْتَبِرْ، بَلِ ازْدَادَ فِي اسْتِكْبَارِهِ وَطُغْيَانِهِ ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: 133]. فَاكْتَمَلَتْ لِآلِ فِرْعَوْنَ النِّعَمُ؛ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي دُعَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يُونُسَ: 88-89]، ثُمَّ كَانَ الْعَذَابُ بِالْغَرَقِ ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ [الْأَنْفَالِ: 54].
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السادسة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان: وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا ....
وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا لِلْعَذَابِ قَارُونُ: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [الْقَصَصِ: 76]، فَكَانَ عَاقِبَةُ اسْتِدْرَاجِهِ مَعَ بَغْيِهِ: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [الْقَصَصِ: 81].
وَمِمَّنِ اسْتُدْرِجُوا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: وَالِدُ سَيْفِ اللَّهِ الْمَسْلُولِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، كَفَرَ النِّعْمَةَ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآذَاهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْوَحِيدَ فِي قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ الْوَلِيدُ يَقُولُ: أَنَا الْوَحِيدُ بْنُ الْوَحِيدِ، لَيْسَ لِي فِي الْعَرَبِ نَظِيرٌ، وَلَا لِأَبِي الْمُغِيرَةِ نَظِيرٌ»، فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ [الْمُدَّثِّرِ: 11 - 17].
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ إِذَا ذُكِّرُوا تَذَكَّرُوا، وَإِذَا وُعِظُوا اتَّعَظُوا، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا أَعْطَانَا عَنْ رِضًا لَا عَنِ اسْتِدْرَاجٍ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ التَّائِبِينَ الشَّاكِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْخَشْيَةِ يَخَافُونَ الِاسْتِدْرَاجَ، وَيَنْتَهُونَ بِالْإِنْذَارِ، وَيَخْشَوْنَ الْعَذَابَ ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يُونُسَ: 98].
وَأَمَّا أَهْلُ الْغُرُورِ وَالْفُجُورِ فَإِنَّهُمْ يَغْتَرُّونَ بِالِاسْتِدْرَاجِ، وَلَا تَزِيدُهُمُ النُّذُرُ إِلَّا عُتُوًّا وَنُفُورًا، كَمَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: 187].
وَاسْتَبْطَأَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْعَذَابَ وَسَأَلُوهُ مُسْتَهْزِئِينَ ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: 16]؛ أَيْ: عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: 53]. بَلْ دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُونَهُ الْعَذَابَ اسْتِكْبَارًا وَتَكْذِيبًا: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الْأَنْفَالِ: 32]. «وَكَانَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ، وَوَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِهِ. وَلَكِنِ اسْتَفْتَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ».
فَحَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَنْ يَفْهَمُوا سُنَّةَ الِاسْتِدْرَاجِ الرَّبَّانِيِّ، وَأَنْ يَخْشَوْهَا، وَأَنْ يَتَلَمَّسُوا طُرُقَ النَّجَاةِ فِيهَا، بِالْإِقْبَالِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ التَّوْبَةِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَالْحَذَرِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالْغُرُورِ.
[الأنترنت – موقع سنن الله تعالى في خلقه - سنة الاستدراج - الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السابعة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ } :
ورد في التفسير الميسر : يا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أظننتم أن تدخلوا الجنة، ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد؟ لا يحصل لكم دخولها حتى تُبْتلوا، ويعلم الله -علما ظاهرا للخلق- المجاهدين منكم في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقال السعدى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
ثم قال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم ويعلم الصابرين } هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال ا لطنطاوي في الوسيط: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
ثم بين- سبحانه- أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وأن الوصول إلى رضا الله- تعالى- يحتاج إلى جهاد عظيم، وصبر طويل فقال- تعالى-: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وأَمْ هنا يرى كثير من العلماء أنها منقطعة، بمعنى بل الانتقالية، لأن الكلام انتقال من تسليتهم إلى معاتبتهم على ما حدث منهم في غزوة أحد من مخالفة
بعضهم لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفرارهم عنه في ساعة الشدة.
والهمزة المقدرة معها للإنكار والاستبعاد.
وقوله{ أَمْ حَسِبْتُمْ } معطوف على جملة وَلا تَهِنُوا وذلك أنهم لما مسهم القرح فحزنوا واعتراهم شيء من الضعف، بين الله لهم أنه لا وجه لهذا الضعف أو الحزن لأنهم هم الأعلون، والأيام دول، وما أصابهم فقد سبق أن أصيب بمثله أعداؤهم، ثم بين لهم هنا: أن دخول الجنة لا يحصل لهم إذا لم يبذلوا مهجهم وأرواحهم في سبيل الله، فإذا ظنوا غير ذلك فقد أخطئوا.
والمعنى: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده مع أنكم لم تجاهدوا في سبيل الله جهاد الصابرين على شدائده ومتاعبه ومطالبه، إن كنتم تحسبون هذا الحسبان فهو ظن باطل يحب عليكم الإقلاع عنه.
ويحتمل أن تكون أَمْ هنا للمعادلة بمعنى أنها متصلة لا منقطعة «ويكون المعنى عليه:
أعلمتم أن الله- تعالى- سننا في النصر والهزيمة، وأن الأيام دول. وأن الوصول إلى السنة يحتاج إلى إيمان وجهاد وصبر، أم حسبتم وظننتم أنكم تدخلون الجنة من غير مجاهدة واستشهاد؟.
وقوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ معناه: ولم تجاهدوا جهاد الصابرين فيعلم الله ذلك منكم.
وقال صاحب الكشاف: وقوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ بمعنى ولما تجاهدوا. لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقه، لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل:
ما علم الله من فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى يعلمه، و «لما» بمعنى ولم إلا أن فيها ضربا من التوقع، فدل على نفى الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما يفعل، تريد: وأنا أتوقع فعله» .
وجملة وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ حالية من ضمير تَدْخُلُوا مؤكدة للإنكار، فإن رجاء الأجر من غير علم مستبعد عند ذوى العقول السليمة، ولذا قال بعضهم:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ****** إن السفينة لا تجرى على اليبس
وقال بعض الحكماء «طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور. وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة» .
وقوله وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أى ويتميز الصابرون في جهادهم عن غيرهم فالآية الكريمة تشير إلى أن الشدائد من شأنها أن تميز المجاهدين الصادقين في جهادهم، الثابتين في البأساء والضراء من غيرهم، وأن تميز الصابرين الذين يتحملون مشاق القتال وتبعاته بقلب راسخ، ونفس مطمئنة من الذين يجاهدون ولكنهم تطيش أحلامهم عند الشدائد والأهوال.
فالجهاد في سبيل الله يستلزم الصبر، لأن الصبر هو عدة المجاهد وأساس نجاحه، ولقد سئل بعضهم عن الشجاعة فقال: الشجاعة صبر ساعة.
وقال بعض الشعراء يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم.
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ******* ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
ولقد كان عدم صبر الرماة في غزوة أحد، ومسارعتهم إلى جمع الغنائم، من أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة المسلمين في تلك المعركة.
والآية الكريمة كذلك تشير إلى أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان وإنما هو طريق محفوف بالمكاره والشدائد. ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثامنة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ } :
وقال البغوى : ( أم حسبتم ) أحسبتم؟ ( أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله)[ أي : ولم يعلم الله ]( الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )
وقال ابن كثير : يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد
وقتل منهم سبعون: { قد خلت من قبلكم سنن} ، أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى: { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} ، ثم قال تعالى: { هذا بيان للناس} يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم، { وهدى وموعظة} يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم. ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين: { ولا تهنوا} أي لا تضعفوا بسبب ما جرى، { ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون، { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} أي إن كنتم قد أصبتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعدائكم قريب من ذلك من قتل وجراح، { وتلك الأيام نداولها بين الناس} أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى: { وليعلم اللّه الذين آمنوا} قال ابن عباس: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء { ويتخذ منكم شهداء} يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته، { واللّه لا يحب الظالمين وليمحص اللّه الذين آمنوا} أي يكفِّر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله تعالى: { ويمحق الكافرين} أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلو الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا} وقال تعالى: { أم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} الآية، ولهذا قال ههنا: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى اللّه منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، ولهذا قال تعالى: { فقد رأيتموه} يعني الموت شاهدتموه وقت حدِّ الأسنة واشتباك الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب.
ثم قال : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) أي : أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا [ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ] ) [ البقرة : 214 ] وقال تعالى : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ العنكبوت : 1 - 3 ] ، ولهذا قال هاهنا : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) أي : لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
التاسعة والخمسون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ } :
وقال القرطبى :قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
" أم " بمعنى بل . وقيل : الميم زائدة ، والمعنى أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم لا ; حتى يعلم الله الذين جاهدوا منكم أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء . والمعنى : ولم تجاهدوا فيعلم ذلك منكم ; فلما بمعنى " لم " . وفرق سيبويه بين " لم " و " لما " فزعم أن " لم يفعل " نفي فعل ، وأن : " لما يفعل " . نفي قد فعل . ويعلم الصابرين منصوب بإضمار أن ; عن الخليل . وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر " يعلم الصابرين " بالجزم على النسق . وقرئ بالرفع على القطع ، أي وهو يعلم . وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو . وقال الزجاج . الواو هنا بمعنى حتى ، أي ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم حتى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا .
وقال الطبرى : القول في تأويل قوله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " أم حسبتم "، يا معشر أصحاب محمد، وظننتم =" أن تدخلوا الجنة "، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف المنازل عنده =" ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم "، يقول: ولما يتبيَّن لعبادي المؤمنين، المجاهدُ منكم في سبيل الله، على ما أمره به.
وقد بينت معنى قوله: " ولما يعلم الله "، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ، وما أشبه ذلك،
بأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. [ انظر تفسير"لنعلم فيما سلف 3: 158 – 162]
وقوله: " ويعلم الصابرين "، يعني: الصابرين عند البأس على ما ينالهم في ذات الله من جرح وألم ومكروه.
وقال ابن عاشور : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
{ أم } هنا منقطعة ، هي بمعنى ( بل ) الانتقالية ، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر ، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام ، لملازمتها للاستفهام ، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون : إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها ، وقال غيره : ذلك هو الغالب وقد تفارقه ، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل . فقوله : { أم حسبتم } عطف على جملة { ولا تهنوا } [ آل عمران : 139 ] وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر ، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت ، ثُمّ بيّن لهم هنا : أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك ، فقد أخطأوا .
والاستفهام المقدّر بعد ( أم ) مستعمل في التَّغليط والنَّهي ، ولذلك جاء ب ( أم ) للدلالة على التغليط : أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد .
وعقّب هذا النفي بقوله : { ويعلم الصابرين } معطوفاً بواو المعية فهو في معنى المفعول معه ، لتنتظم القيود بعضها مع بعض ، فيصير المعنى : أتحسبون أن تدخلوا الجنَّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان . والجهاد يستدعي الصّبر ، لأنّ الصّبر هو سبب النَّجاح في الجهاد ، وجالب الانتصار ، وقد سئل عليّ عن الشَّجاعة ، فقال : صبر ساعة .
وقال زفر بن الحارث الكلابي ، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم. ... سَقَيْنَاهُمُ كأْساً سَقَوْنا بمثلها
ولكنَّهم كانُوا على الموْتتِ أصبرا ... وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يومَ أُحُد ضعفُ صبر الرماة ، وخفّتهم إلى الغنيمة ، وفي الجهاد يُتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتَّى لا يهن ولا يستسلم .
الأنترنت – موقع { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ : }
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الستون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان:
*{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }78 آل عمران
قال ابن كثير في تفسيره :
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن اللّه، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام اللّه ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنهم في كتاب اللّه كذلك، وينسبونه إلى اللّه وهو كذب على اللّه، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال تعالى: { ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون} ، قال مجاهد والحسن: { يلوون ألسنتهم بالكتاب} يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون، وليس أحد من خلق اللّه يزيل لفظ كتاب من كتب اللّه، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله.
وقال الطبري في تفسيره : يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب , وَهُمْ الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيْ مَدِينَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى عَهْده مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل . وَالْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : { مِنْهُمْ } عَائِدَة عَلَى أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْله : { وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب مَنْ إِنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْك } . وَقَوْله : { لَفَرِيقًا } يَعْنِي : جَمَاعَة { يَلْوُونَ } يَعْنِي : يُحَرِّفُونَ { أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَاب } يَعْنِي : لِتَظُنُّوا أَنَّ الَّذِي يُحَرِّفُونَهُ بِكَلَامِهِمْ مِنْ كِتَاب اللَّه وَتَنْزِيله , يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : وَمَا ذَلِكَ الَّذِي لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتهمْ , فَحَرَّفُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنْ كِتَاب اللَّه , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتهمْ مِنْ التَّحْرِيف وَالْكَذِب وَالْبَاطِل فَأَلْحَقُوهُ فِي كِتَاب اللَّه مِنْ عِنْد اللَّه , يَقُول : مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى أَنْبِيَائِهِ , وَمَا هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه , يَقُول : وَمَا ذَلِكَ الَّذِي لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتهمْ , فَأَحْدَثُوهُ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّه إِلَى أَحَد مِنْ أَنْبِيَائِهِ , وَلَكِنَّهُ مِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِبَل أَنْفُسهمْ , اِفْتِرَاء عَلَى اللَّه . يَقُول عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يَعْنِي بِذَلِكَ : أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ قِيلَ الْكَذِب عَلَى اللَّه , وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ , وَالْإِلْحَاق بِكِتَابِ اللَّه مَا لَيْسَ مِنْهُ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَالْخَسِيس مِنْ حُطَام الدُّنْيَا . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ }
قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 5764 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ } قَالَ : يُحَرِّفُونَهُ . * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . 5765 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ } حَتَّى بَلَغَ : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هُمْ أَعْدَاء اللَّه الْيَهُود حَرَّفُوا كِتَاب اللَّه وَابْتَدَعُوا فِيهِ , وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه . 5766 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إِسْحَاق , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , مِثْله . 5767 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي , قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَاب } وَهُمْ الْيَهُود كَانُوا يَزِيدُونَ فِي كِتَاب اللَّه مَا لَمْ يُنَزِّل اللَّه . 5768 - عَنْ اِبْن جُرَيْج : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ } قَالَ : فَرِيق مِنْ أَهْل الْكِتَاب يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ , وَذَلِكَ تَحْرِيفهمْ إِيَّاهُ عَنْ مَوْضِعه . وَأَصْل اللَّيّ : الْفَتْل وَالْقَلْب , مِنْ قَوْل الْقَائِل : لَوَى فُلَان يَد فُلَان : إِذَا فَتَلَهَا وَقَلَبَهَا , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : لَوَى يَده اللَّه الَّذِي هُوَ غَالِبه يُقَال مِنْهُ : لَوَى يَده وَلِسَانه يَلْوِي لَيًّا , وَمَا لَوَى ظَهْر فُلَان أَحَد : إِذَا لَمْ يَصْرَعهُ أَحَد , وَلَمْ يَفْتِل ظَهْره إِنْسَان , وَإِنَّهُ لَأَلْوَى بَعِيد الْمُسْتَمَرّ : إِذَا كَانَ شَدِيد الْخُصُومَة صَابِرًا عَلَيْهَا لَا يُغْلَب فِيهَا
[الأنترنت – موقع {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 78 آل عمران]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الواحدة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
عـظــات وعـبـرفي حياة النبي زكريا عليه السلام
جاء ذكر النبي زكريا عليه السلام في عدة سور في التنزيل الحكيم من بينها آل عمران، الأنعام، مريم، والأنبياء. هو نبي من أنبياء بني إسرائيل، ويتسلسل نسبه حتى يصل إلى نبي الله سليمان بن داوود عليه السلام. كما يرتبط زكريا عائليا مع نبي الله عيسى عليه السلام حيث إنَّ زوجته هي إيشاع بنت فاقوذ ابن قبيل أخت حنّة بنت فاقوذا، وحنّة هي زوجة عمران والد مريم، وبالتالي تكون زوجة زكريا هي خالة مريم.
ذكر الله زكريا ضمن جملة من الأنبياء المهديين المصطفين وجعله من الصالحين فقال جل شأنه «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ(85)» الأنعام، وقد نال عليه السلام من ربه مرتبة العبودية لله سبحانه وتعالى عندما شهد الله له بهذا المقام في قوله تعالى «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا(2)» مريم، فكان عليه السلام كثير الدعاء والعبادة لله والمسارعة في بذل الخيرات وقد أثنى الله عليه بقوله عنه وعن عائلته «.... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90)» الأنبياء.
أكرم الله زكريا بأن وهبه ولدا اصطفاه نبيا وجعله من الصالحين، وقد أعطى الله لهذا الولد اسما لم يطلق مثله على أحد من قبل، عندما بشره الله بأن هذا الولد سيكون مباركًا له ورحمة لزوجته «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسمهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا(7)» مريم، كما منحه الله صفات ورد ذكرها في آية واحدة في قوله تعالى «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ(39)» آل عمران، لقد أنعم الله على يحيى ابن زكريا الحكمة قبل أن يبلغ الرشد، هذا ما جاء ذكره في القرآن الحكيم «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا(12)» مريم، كما وهبه الله الحنان وتزكية النفس وجعله تقيا، وذلك بقوله تعالى «وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا(13)» مريم.
أكرم الله يحيى عليه السلام بأن جعله بارا بوالديه بعد أن حماه من التجبر والعصيان، فقال جل شأنه عنه «وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا(14)» مريم، كما أسبغ عليه نعمة السلام منذ ولادته وحتى موته وبعثه، فقال تعالى «وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)» مريم.
عاش نبي الله زكريا عليه السلام حياته من دون أن يرزق بالذرية حتى بلغ به الكبر مبلغا، وقد وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبا، وكان هذا الوصف الدقيق المعبر قد جاء ترتيله في التنزيل الحكيم في قوله تعالى «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا(2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4)» مريم، كانت امرأة زكريا عاقرا لا تنجب وهي من أسرة طاهرة اصطفاها الله فيمن اصطفى على العالمين، فهي أخت زوجة عمران والدة مريم، وكان عمران من كبار الربانيين الذين كانوا يخدمون الهيكل فكان إمامهم ورئيسهم والكاهن الأكبر فيهم. وقد جاءت إحدى سور القرآن باسم آل عمران فقال فيها سبحانه وتعالى «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)» آل عمران.
بعد ولادة امرأة عمران بمريم استعاذت من الشيطان الرجيم، وقالت
مخاطبة ربها «.... وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)» آل عمران، فتقبل الله مريم وأنبتها نباتا حسنا وجعل نشأتها في طاعته وعبادته «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا....» آل عمران/37، أقبل القوم يتهافتون على مريم كل واحد منهم يريد أن يحظى بشرف كفالتها والإنفاق عليها والتعهد بخدمتها ورعاية شؤونها «.... وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)» آل عمران، فاتفق القوم على إجراء قرعة فيما بينهم لتحديد وتعيين من يكفل مريم، فكانت الكفالة من نصيب زوج خالتها زكريا عليه السلام «.... وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا....» آل عمران/37.
نشأت مريم منذ صغرها في بيت الطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى تصلي في المحراب وقد أنبتها الله نباتا حسنا، بعد أن صفت روحها الطاهرة إلى بارئها وكانت الملائكة تحفها من كل جانب ترعى شأنها وتحرسها من كل أذى قادم لها حتى ارتفعت بروحها إلى درجة ملائكية عالية ظهرت عليها، وكلما زارها زكريا وجد عندها الرزق الوفير «.... كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا....» آل عمران/37،
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثانية والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان: عـظــات وعـبـرفي حياة النبي زكريا عليه السلام
في الوقت الذي كان فيه زكريا يحمل بين يديه الطعام إليها فيجد بين يديها طعاما فيسألها «.... قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)» آل عمران، وفي هذه اللحظة وعند سماعه قول مريم ورأى طيبتها وصلاحها وتقواها وعبادتها المتواصلة لله الواحد الأحد الذي يرزق من يشاء من عباده الصالحين بغير حساب، تأثر عليه السلام من قولها وانتابته قشعريرة إيمانية وروح تفاؤلية فتذكر الخلفة وتمنى أن يكون له الولد، فتوجه ضارعا إلى الله ليرزقه بالخلفة الصالحة كما يرزق مريم بغير حساب «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ....» آل عمران/38، فماذا كان دعائه لربه؟ دعاه بنداء خفي في بضع كلمات جاءت في سورة آل عمران على النحو التالي «إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا(4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا(6)» مريم، ثم زاد من تضرعه وخشوعه لخالقه فقال «.... رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89)» الأنبياء، وكان كل أمله أن يهبه الله الذرية الطيبة الصالحة عندما تضرع إليه بقوله «.... قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38)» آل عمران.
استجاب الله لدعاء نبيه زكريا وأرسل إليه الملائكة تبشره بيحيى «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى....» آل عمران/39، فاطمأن زكريا لبشارة ربه وأيقن أن المولود سيكون غلاما لأنّ اسمه سيكون يحيى «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسمهُ يَحْيَى....» مريم/7، وسيكون من الذرية الصالحة، وسيحمل هذا الغلام صفات طيبة من بينها أن اسمه سيكون الأول من نوعه حيث لا مولود قبله سُمّي بهذا الاسم «.... لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا(7)» مريم، كما سيكون مصدّقا من الله «مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ.....» آل عمران/39، وسيكون سيدا «.... وَسَيِّدًا....» آل عمران/39، وحصورا «.... وَحَصُورًا....» آل عمران/39، وأخيرا سيكون نبيا ومن الصالحين «.... وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ(39)» آل عمران.[الأنترنت – موقع العـظـــات والـعـبـــرفي حياة النبي زكريا عليه السلام - بقلم: حسن علي البنفلاح]
وأيضاً من الفوائد على الآ ية : (...قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (37) آل عمران
وقوله تعالى : (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (212) البقرة
وقوله تعالى : (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (38) النور
وروى الحاكم في المستدرك بسند صحيح (عن ابن عباس رضي الله عنهما : في قوله عز و جل : { إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } آل عمران 35، وتلا إلى قول : { وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } آل عمران 37،
قال : كفلها زكريا فدخل عليها المحراب فوجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه قال زكريا : أنى لك هذا ؟ قالت : (هو من عند الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قال : إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولدا
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فلما بشر بيحيى {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } قال : يعتقل لسانك من غير مرض و أنت سوي )
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
من أقوال العلماء والمفسرين في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) :
قال الطبري : { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب
معروف، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب ) .
وقيل : {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} :أي: عطاء الله لا يدخل تحت عد أو حصر ، فهو بغير حساب أي لا يتناهى ،كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} (54) ص
وقيل :{ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. أي: لا يحسب ما يعطي لأنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم مقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته. (الرازي) فتكون الآية مشيرة على الغنى المطلق.
وقيل : { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب،(أبو حيان). فتكون الآية مشيرة إلى كرم الله : فهو يعطي مقابل الشيء عدلا ويزيد ما لا مقابل له تفضلا
وقيل : { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. أي: يرزق من يشاء ولا يحاسب نفسه على كثرة ما أعطى لأنه كريم. أو: لا يحاسبه أحد على فعله ولا يوجد من يحاسبه لأنه هو العلي الأعلى ، قال تعالى : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الانبياء (23) . فتكون الآية مشيرة إلى الربوبية المطلقة.
وقيل :{ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة، فقد وسع الله الدنيا على قارون، وضيقها على أيوب عليه السلام، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان، ولهذا قال تعالى: { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } [الزخرف: 33] (الرازي)
فتكون الآية تقريرا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء
المؤمنين ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين
وقيل : { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. أي :طائفة من الموحدين الذين يدخلهم الله الجنة بدون حساب وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كما في البخاري « هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ »
وقيل :{ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }. أي: من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابي، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية: أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين، قال القفال رحمه الله:
وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود، وبما فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. (الرازي)
فقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }..فيها من المعاني أيضا بغير حساب :
وهذه الآية الكريمة تحتمل أيضا أن يكون المراد بها رزق الآخرة أيضاً .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الرابعة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
معنى الآية على رزق الآخرة :
فإذا حملنا معنى الآية على رزق الآخرة احتمل المراد منها وجوهًا ، ومنها :
1– أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده المؤمنين في الآخرة رزقًا رغدًا واسعًا، لا فناء له ولا انقطاع، قال تعالى:
{فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] أي بدون تقدير ولا عدّ؛ لأن كل ما دخل تحت التقدير والعدّ والحساب متناه. وما لا يكون متناهيًا كان لا محالة خارجًا عن الحساب.
2– ويعطي الله المؤمن في الآخرة من النعيم أكثر مما يستحق أو يحسبه، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [ الطلاق 2-3] أي بغير احتساب من المرزوقين، ويرزقه من حيث لا يتوقع الرزق.
3– أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها بفضل من الله، كما في قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [النساء : 173] فالفضل منه بلا حساب.
4– وأن ثواب أهل الجنة ليس بمقدار أعمالهم؛ لأنه لو كان بمقدار أعمالهم لكان بحساب.
وإذا دققنا النظر في آيات الرزق في القرآن الكريم ، نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد ربط الرزق بأشياء أساسية ، ومنها :
أولا : ارتبط الرزق بمشيئة الله تعالى ، فقال سبحانه :(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ) الرعد 26 ،وقال تعالى : (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الشورى 19
ثانيا : ربط الله الرزق بالتقوى ، قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) الطلاق 2، 3 . وجميع الآيات التي تحدثت عن الرزق ربطت الرزق بالله تعالى مباشرة ، أي أن الله هو الذي يرزق فقط ، مهما اختلفت الأسباب ، لأنه هو مسبب الأسباب
وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، بقيت طلاقة القدرة لتلفت الناس إلى أن الذي خلق الأسباب لا تقيده هذه الأسباب في قدرته ،وإنه يفعل ما يشاء ، عندما يشاء ، وقتما يشاء . ولذلك نجد إنسانا يعمل قليلا ومع ذلك فرزقه وفيرا ، وإنسانا ضعيفا ينتصر بقدرة الله على إنسان قوي.. وتلك ليست القاعدة ..فالقاعدة هي الأسباب .. ولكن طلاقة القدرة .. تأتي بشكل ظاهر لتلفت الناس إلى قوة الله وقدرته
ولذلك قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ..ولم يقل سبحانه وتعالى أرزق كل الناس بغير حساب .. لأن كل رزق على قدر ما أتاحه الله من الأسباب من علم ،وجهد ، و..ولكن هناك المشيئة .. أو طلاقة القدرة .. تعطي بغير حساب .. أو بغير أسباب
والسؤال : لماذا أبقى الله سبحانه وتعالى طلاقة القدرة في الكون ولم يتركه يتفاعل بالأسباب وحدها ؟
والاجابة : أن الأسباب .. أو المعطيات المادية .. تعطينا ظاهر الحياة .. وتنظم سيرها العادي .. ولكن إبقاء هذه الأسباب وحدها فيه بعيد عن الله سبحانه وتعالى ..ذلك أن الله قد مكن بعض خلقه من الأسباب في الأرض .. ليسير الكون وتمضي الحياة ..
وأبقى سبحانه على الرزق بغير حساب حتى لا يغتر الانسان بأسبابه وينسب الرزق إليها وينسى الله خالق الأسباب ، وهذا ما قال به قارون عن كثرة ماله ، فقال الله تعالى على لسانه : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) القصص 78،وفي الوقت الذي نؤمن فيه يقينا (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، ومع ذلك فعلى المؤمن أن يعمل بالأسباب ، فالله سبحانه وتعالى هو القائل في محكم آياته ،(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (15) الملك وقال تعالى : (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (10) الجمعة
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (17) العنكبوت
فالرزق يحتاج إلى سعي وطلب عملا بالأسباب، وكذلك دعاء من بيده الرزق ، وتوكل على الله، فالجوارح تعمل بالأسباب ، والقلوب تتوكل على الله مسبب الأسباب
وفي مسند أحمد أنه(صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً »،وإذا تخلف الرزق فإن السبب تخلف شيء من أسبابه.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الخامسة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
آداب تُلازم العبد في طلبه للرزق ، ومنها :
1-أن يعلم العبد يقينا أن الرزق بيد الله وينزله بحكمة على من يشاء من عباده قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (30) الاسراء وفي سنن البيهقي وغيره (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لاَ تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ يَمُوتُ حَتَّى يَبْلُغَهُ آخِرُ رِزْقٍ هُوَ لَهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ مِنَ الْحَلاَلِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ ».
2-ومن الآداب : أن ينظر العبد إلى من هو دونه في الرزق ، ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-« انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ »
3-ومن الآداب : أن يبذل الإنسان ما في وسعه من الأسباب، ويعلم أن كثرة الرزق ليست دليلا على حب الله لعبده ، ولا قلته دليلا بغضه إياه ، بل ربما كان حظ الكافر أكثر من حظ المؤمن، فلا يعترض المؤمن ، قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (20) الفجر
4-وفي مسند أحمد ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ) [الأنترنت – موقع الخطباء ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السادسة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
المنح الإلهية لمريم ابنت عمران :
وضعت امرأة عمران طفلتها الصغيرة المنذورة وقد سمتها مريم أي العابدة لتكون العبادة وظيفتها وديدنها وعلى الفور أرسلتها لبيت المقدس وفاءا لنذرها وقدمتها هدية طيبة بها نفسها بين يدي ربها فليس لها فيها شيء فقد وهبتها كلها لله في المقابل قبل الله منها هذه الهدية وأفاض عليها من خزائن رحمته ثلاث منح إلهية بعد ولادتها عبرت عنها أداة العطف الفاء التي تعني السرعة والمقاربة يقول تعالي "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) آل عمران. وبعد أن كبرت أفاض عليها ثلاث منح أخري سنتناولها فيما بعد وحقا لقد كانت مولودة فريدة وعجيبة في ولادتها وفي نشأتها وفي حياتها لنري ذلك .
المنحة الأولى :- القبول الإلهي :-
يقول تعالي "فتقبلها ربها بقبول حسن " وللعلماء مباحث لغوية في تخريج هذه العبارة فلماذا لم يقل تقبلها ربها تقبلا حسنا إذا كانت قبولا مفعولا مطلقا ولهم فيها مشارب عديدة لا أري الخوض فيها الآن بل يحسن ان نتلمس آثارها الاجتماعية في النشأة الأولي لمريم فالإنسان عند ولادته يولد في غاية الضعف لا يد تبطش ولا رجل تسعي ولا سن تقطع و الله من رحمته يعوض ضعفه هذا بقبول يلقيه في قلب أبويه فلا ينامان حتى ينام ولا يشبعان حتي يشبع رحمة من الله وفضل وهذه المولودة الصغيرة خرجت من حضن أمها فالقي الله قبولها ومحبتها لا في قلب أمها فقط بل في قلوب كل من أحاطوا بها أو شاهدوها فما أن يلقي احد نظره عليها إلا ويتعلق بها تعلق الأم بمولودها وأكثر وهذا هو القبول الحسن لمريم بين العالمين لقد تلهف كبار بني إسرائيل من أحبار ورهبان إلى هذه المولودة يريد كل منهم أن يتكفل برعايتها ويصور القران الكريم هذه الحالة بقوله " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) آل عمران. تأمل قوله تعالي " يختصمون" في ما ذا يختصمون ؟ يختصمون أيهم يكفل مريم ؟!!! لم يستطيعوا حسم هذه الخصومة إلا بالاقتراع " يلقون أقلامهم" وهذه طريقة من طرق القرعة فوقعت القرعة على نبي كريم هو زكريا .
المنحة الثانية :- وأنبتها نباتا حسنا:-
الإنسان عموما ينموا كالنبات يبدأ بالضعف ثم من بعد الضعف قوة ثم من بعد القوة ضعفا وشيبة والله يقول عن الإنسان عموما " والله أنبتكم من الأرض نباتا " لكن وفي حالة مريم وصف إنباتها بالحسن فيمكن لنا ان نتصور النبتة الصغيرة وهي تنمو رويدا رويدا وفي كل يوم تزداد شيئا جميلا ورقة خضراء أو ساقا قوية او زهرة يانعة نشأت مريم في ظلال هذه المنحة كذلك فبدت جميلة في كل شيء في خلقتها وفي خُلقها مبرأة من العيوب في بدنها زاكية النفس طاهرة القلب هذا هو النبات الحسن
المنحة الثالثة :- وكفلها زكريا
أصحاب البيوت الراقية يختارون لأبنائهم أفخم المدارس وأكفأ المربين ولان مريم أصبحت في عهدة ربها فقد اختار لرعايتها والقيام بشأنها نبيا من أنبيائه وهل هناك في البشر من هو ارقي من الأنبياء ؟ واختار لها أفخم مكان في الأرض وهو المحراب فاطهر بقعة في الأرض هي المسجد وارقي ما في المسجد هو المحراب يقول تعالي" وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)آل عمران .و"كفلها" قرئت بتخفيف الفاء وبتشديدها فقرأ الجمهور بتخفيف الفاء أي تولى كفالتها ، وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف " وكفلها" ، بتشديد الفاء أي أن الله جعل زكريا كافلا لها ، فعلي التخفيف يكون زكريا في محل رفع فاعل أي أن زكريا هو الذي طلب أن يكفلها وعلى التشديد يكون زكريا في محل نصب مفعول به ثاني أي أن الله ألزم زكريا بكفالتها ونظرا لان القراءتين في الآية كالآيتين كما يقول علماء القرآن فان الذي حدث هو أن زكريا طلب مع من طلب من كبراء بني إسرائيل كفالة مريم والله هو الذي الزم زكريا بكفالتها وكان كلما دخل عليها وجد عندها رزقا وقد اشتهر القول بأنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وليس في الآية ما يدل على ذلك وليس هناك رواية صحيحة بذلك واختزال الرزق في انه كان يجد فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف هو تقليل لما أراد الله له التكثير فقد جاءت كلمة رزق نكرة للدلالة على كثرته وفخامته ،كقوله تعالى : (...إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) ((سورة الأعراف ٧/ ١١٣)) ومنه قول العرب : إن له لإبلاً , وإن له غنماً أي ابل كثيرة وغنم كثيرة . وترك كلمة رزق كما هي في الاية دون تحديد تعني الكثير ففكل مرة يدخل عليها زكريا المحراب يجد رزقا مختلفا عما رآه من قبل رزق كثير ومتنوع وشامل رزق مادي ومعنوي الى ابعد الحدود انه العطاء الالهي اللا محدود وكما قالت مريم عندما سالها زكريا " ان الله يرزق من يشاء بغير حساب
إن هذه الألطاف والمنح الإلهية التي أحاطت بمريم كانت استجابةً لدعاء أمها الصالحة " فتقبل مني " وقابل تضحيتها بمولودتها بعطاء بلا حدود وألطاف إلهية واسعة وشاملة جعلت من مريم آية للعالمين وقد حدث ذلك مع آل إبراهيم كما رأينا وهو درس لنا ليفتح كل منا قلبه لله ويسلم أمر أولاده وأمواله وشئونه لله ويقف فيهم عند حدود ربه, ويكل إليه رعايتهم فيتولى الله رعايتهم وينبتهم النبات الحسن ويتقبلهم القبول الحسن ويعيذهم من الشيطان الرجيم فإن الله قد تكفّل لعباده المؤمنين باستجابة دعائهم بما فيه المصلحة لهم، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نلجأ إليه في كل ما يتعلق بحياتنا وحياة أولادنا. وفي الحلقة القادمة ننتقل إلى المنح والألطاف الإلهية لمريم بعد أن كبرت.
[الأنترنت – موقع ملتقى أهل الحديث - تأملات وعبر من قصة آل عمران في القران(6)" المنح الإلهية لمريم ابنت عمران - ابو العزايم عبد الحميد ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السابعة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
{ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ} :
ورد في التفسير الميسر : لله ملك السماوات والأرض وما فيهما ملكًا وتدبيرًا وإحاطة، لا يخفى عليه شيء. وما تظهروه مما في أنفسكم أو تخفوه فإن الله يعلمه، وسيحاسبكم به، فيعفو عمن يشاء، ويؤاخذ من يشاء. والله قادر على كل شيء، وقد أكرم الله المسلمين بعد ذلك فعفا عن حديث النفس وخطرات القلب ما لم يتبعها كلام أو عمل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السعدى : هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، { فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه
وقال الطنطاوي : وما دام الأمر كذلك فعليكم- أيها المؤمنون-
أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين، فأنفقوا من هذا المال- الذي هو أمانة بين أيديكم- في وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم، بل كانوا كما قالوا: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ بيان لشمول علم الله- تعالى- لما أظهره الإنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر.
والجملة الكريمة صريحة في أن الله- تعالى- يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه.
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته: كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها.
أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس، وتعرض للإنسان دون أن يعزم على تنفيذها، فإنها ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلا للثواب.
ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله- تعالى-: إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا .
وروى الجماعة في كتبهم عن أبى هريرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تجاوز لي عن أمتى ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم» .
قال الفخر الرازي: الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين: فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس.
فالقسم الأول يكون مؤاخذا به.
والثاني لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله- تعالى-: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثامنة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
{ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ......}
وقال الآلوسى: المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس- أى من خواطر لا تصميم ولا عزم معها- قال بعضهم:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
وقوله- تعالى-: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» بيان لنتيجة المحاسبة التي تكون من الخالق- عز وجل- لعباده.
أى: أنه- سبحانه- بمقتضى علمه الشامل، وإرادته النافذة، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال، فيغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وقوله: فَيَغْفِرُ ويعذب، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أى فهو يغفر. وقرأ الباقون بإسكانهما عطفا على جواب الشرط وهو قوله: يُحاسِبْكُمْ.
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته- سبحانه- على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.
ثم ختم- سبحانه- سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها، وبين في الثانية أنه- سبحانه- لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء. قال- تعالى-:
وقال البغوى :( لله ما في السماوات وما في الأرض ) مَلِكًا وأهلها له عبيد وهو مالكهم ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم: هي خاصة ثم اختلفوا في وجه[خصوصها] فقال بعضهم : هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة وقال بعضهم : نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به الله وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى أن قال " قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله " ( 29 - آل عمران )
قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا بل قولوا " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى:" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال نعم " ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا " قال نعم " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال نعم " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال نعم"وفي رواية (وقال في كل ذلك: قد فعلت)
وروى بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ".
وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله " يحاسبكم به الله " خبر لايرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسباً فقال " بما كسبت قلوبكم " (225-البقرة) فليس لله عبد أسر عملاً أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا {(36-الإسراء)
وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعملوه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ".
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
التاسعة والستون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
{ لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ......}
القرطبى : قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيه مسألتان :
الأولى : اختلف الناس في معنى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله على أقوال خمسة :
( الأول ) أنها منسوخة ، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين ، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ....
( الثاني ) قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد : إنها محكمة
مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب .
( الثالث ) أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ، وقاله مجاهد أيضا .
( الرابع ) أنها محكمة عامة غير منسوخة ، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ذكره الطبري عن قوم ، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا .
روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : لم تنسخ ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول : ( إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم ) فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب ، فذلك قوله : يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو قوله عز وجل : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم من الشك والنفاق . وقال الضحاك : يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه . وفي الخبر : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء ) فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين ، وهذا أصح ما في الباب ، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه ، لا يقال : فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به . فإنا نقول : ذلك محمول على أحكام الدنيا ، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به ، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة . وقال الحسن : الآية محكمة ليست بمنسوخة . قال الطبري : وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ، إلا أنهم قالوا : إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها . ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى ، وهو ( القول الخامس ) : ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة : قال ابن عطية : وهذا هو الصواب
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
السبعون في موضوع ( الحسيب ) وهي بعنوان:
*الجمع بين قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ}
وحديث: (إن الله تجاوز عن أمة محمد ...) :
السؤال : ما معنى قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة:284] وكيف نجمع بين معناها وبين الحديث الشريف الذي معناه:(أن الله تعالى تجاوز عن أمة محمد ما حدثت به أنفسها مالم تفعله أو تتكلم به ؟
الجواب: هذه الآية الكريمة قد أشكلت على كثير من الصحابة رضى الله عنهم لما نزلت وهي قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[البقرة:284]، شق عليهم هذا الأمر وجاءوا إلى النبي ﷺ وذكروا أن هذا شيء لا يطيقونه فقال لهم ﷺ: أتريدون أن تقولوا كما قال من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم أنزل الله بعدها قوله سبحانه: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286] الآية.
فسامحهم الله وعفا عنهم ، ونسخ ما دل عليه مضمون هذه الآية وأنهم لا يؤاخذون إلا بما عملوا وبما أصروا عليه وثبتوا
عليه، وأما ما يخطر من الخطرات في النفوس والقلوب فهذا معفو عنه، ولهذا صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم فزال هذا الأمر والحمد لله، وصار المؤمن غير مؤاخذ إلا بما عمله، أو قاله، أو أصر عليه بقلبه عملًا بقلبه، كإصراره على ما يقع له من الكبر والنفاق ونحو ذلك.
أما الخواطر التي تعرض والشكوك التي تعرض ثم تزول بالإيمان واليقين فهذه لا تضر بل هي عارضة من الشيطان ولا تضر، ولهذا لما قال الصحابة: «يا رسول الله! إن أحدنا يجد في قلبه ما لئن يخر من السماء أسهل عليه من أن ينطق به - أو كما قالوا - قال: ذاك صريح الإيمان وفي لفظ: تلك الوسوسة فهي من الشيطان، إذا رأى من المؤمن الصدق والإخلاص وصحة الإيمان والرغبة فيما عند الله وسوس عليه بعض الشيء وألقى في قلبه خواطر خبيثة فإذا جاهدها وحاربها بالإيمان والتعوذ بالله من الشيطان سلم من شرها، ولهذا جاء في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسله وفي لفظ: فليستعذ بالله ولينتهي.
فهذا يدلنا على أن الإنسان عرضة للوساوس الشيطانية، فإذا عرض له وساوس خبيثة وخطرات منكرة فليبتعد عنها وليقل: آمنت بالله ورسله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينتهي ولا يلتفت إليها فإنها باطلة ولا تضره، وهي من الخطرات التي عفا الله عنها .
[الأنترنت – موقع ابن باز - الجمع بين قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ...} وحديث: (إن الله تجاوز عن أمتي...)]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الواحدة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان : بصمات الوجه
* لكل واحد منا بصمة وجه خاصة به ولا يمكن أن تتشابه بصمتان لوجهين على مستوى العالم..
سؤال يحير العلماء: كيف يتم تشكل وجه الإنسان عندما يكون جنيناً، ولماذا لا يوجد وجهين متشابهين في العالم؟
إن كل واحد منا له وجه يختلف عن الآخر مثل بصمة الإصبع. ويكمن السر في الجينات الخاصة بكل واحد منا، حيث تقوم هذه الجينات بترتيب نفسها بطريقة تجعل لكل شخص وجه مميز عن غيره.
النتيجة التي وصل إليها العلماء تؤكد وجود برامج تشبه البرامج التي يستخدمها العلماء للتشفير في الكمبيوتر، ولذلك فمن الصعوبة أن نقبل أن الأمر يتم عن طريق المصادفة أو التطور الطبيعي، ولو كان خلق الإنسان قد تم بفعل التطور والانتقاء الطبيعي فإن احتمال تشابه الوجود يكون كبيراً، لأن الطبيعة تختار الأفضل كما يقول داروين!
ولذلك يعتقد العلماء اليوم بوجود برامج خاصة مخزنة في داخل خلايا كل منا تدفع جيناته للانتظام والعمل بطريقة محددة وليست طريقة عشوائية. وهذا يدل على قوة خفية وراء هذا الاختلاف في الوجوه.
الباحث Axel Visel يقوم بتجارب لإثبات أن لكل شخص في العالم بصمة وجه حاصه به لا يشاركه فيها أحد غيره، ويقوم العلماء بمحاولة لتطوير برامج تجعلنا قادرين على رؤية هذه البصمة والتعرف على الأشخاص من خلال وجوههم. (المرجع مختبرات بيركلي – جامعة كاليفورنيا)
ماذا عن حديث القرآن؟
لقد خص القرآن وجه الإنسان في كثير من الآيات وربطه بسمات محددة وبخاصة المسلم الذي يكثرمن السجود لله،قال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]. فهذه آية تؤكد أن ملامح الوجه تتغير نتيجة تصرفات محددة يقوم بها الإنسان.
وكم تمنيت لو يقوم أحد علماء المسلمين بتجربة لاختبار وجوه أناس ملحدين لم يسجدوا لله سجدة واحدة، ومقارنتها بوجوه مؤمنين يحافظون على الصلاة وقيام الليل والإكثار من السجود كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القرب منه يوم القيامة: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)!
لذلك فقد ركز القرآن على الوجه وأهميته وبخاصة في العبادة والتوجه والإخلاص لله تعالى.. قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)الأعراف: 29].
وهكذا يمكن القول إن بصمة الوجه تتغير نتيجة تصرفات البشر، ولكنها تبقى مميزة لكل واحد منهم ويبقى لكل إنسان بصمته الخاصة. وقد عبر القرآن عن هذه البصمة بالسمة أو العلامة المميزة، وبالتالي فإن المجرم سوف يُعرف يوم القيامة بسماته أو بصمته في منطقة الناصية قال تعالى: (ُيعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)الرحمن: 41
وكذلك هذه البصمة أو السمة سوف تكون واضحة يوم القيامة للمؤمنين، قال تعالى: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) [الأعراف: 46].
ولكن في الدنيا هناك سمات لمن يتعفف عن سؤال الناس أعطوه أو منعوه، قال تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273]، وقال أيضاً مخاطباً حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) [محمد: 30]. فلو شاء الله لجعل النبي يرى هذه السمات الخاصة بالمنافقين..
إذاً بصمة الوجه أو سمات الوجه تميز كل إنسان منا، والمنافق له سمات خاصة لا نستطيع رؤيتها، ولكن الله قادر على إظهارها.. واليوم سخر الله علماء وأعطاهم القدرة على اختراع أجهزة تستطيع أن تميز هذه البصمة..
والنتيجة أن القرآن يأتي دائماً مطابقاً وموافقاً للحقائق العلمية.. وهذا يشهد على أنه كتاب الحقائق وليس كتاب أساطير كما يدعي بعضهم.. والحمد لله على نعمة الإسلام. [ الأنترنت- موقع أسرار الإعجاز العلمي - لكل واحد منا بصمة وجه خاصة به ولا يمكن أن تتشابه بصمتان لوجهين على مستوى العالم - بقلم عبد الدائم الكحيل ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثانية والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان : *ملامح الوجه هل يمكن لملامح الوجه أن تلعب دوراً أساسياً في تحديد مصير الإنسان ، وهل يمكن أن تعبر عن شخصية الإنسان وحقيقته؟ دعونا نتأمل ….
في مجموعة تجارب جديدة أجريت في فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وجد العلماء أن ملامج الوجه تؤثر بشكل كبير على حياته ومستقبله ونظرة الآخرين له.. فالصادق يمكن معرفة صدقه أو التنبؤ بذلك من خلال النظرة الأولى لملامح وجهه.. وهكذا اللص والمجرم وحتى المؤمن والملحد…
إن الأحداث التي يمر بها الإنسان خلال حياته تترك آثاراً على وجهه يمكن اكتشافها وتمييزها بالدراسة والبحث، أي يمكن التمييز بين الملحد والمؤمن من خلال ملامح الوجه فقط، وهذا الأمر يحتاج لمزيد من الدراسة.
*كيف أشار القرآن إلى علاقة الوجه بشخصية الإنسان
القرآن الكريم يحوي الكثير من الحقائق العلمية التي لم يتم اكتشافها بعد، وهو كتاب غني جداً بالأفكار البحثية التي تحتاج من يدرسها ويكتشفها ويقوم بتجارب علمية من أجل ذلك. فالله تعالى أخبرنا ومن قبل أربعة عشر قرناً عن تغير ملامح الوجه تبعاً لأعمال الإنسان..
فالإنسان الذي عوّد نفسه على الترفع والتعفف والزهد يظهر ذلك على وجهه.. قال تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273]. وبالمقابل نجد الإنسان الذي يكثر السؤال ويستجدي الناس ويشكو لهم وينسى الله الكريم، يظهر ذلك على وجهه.
أيضاً الإنسان الذي يكثر من السجود يظهر ذلك على وجهه، قال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]. وبالمقابل فإن الملحد الذي لم يسجد لله تعالى يظهر ذلك على وجهه.. سبحان الله!
هذه الملامح سوف تظهر على وجه الإنسان يوم القيامة أيضاً.. قال تعالى عن أولئك المجرمين (ليس المجرم الذي يرتكب جريمة قتل، بل المجرم من ينكر وجود خالقه ورازقه.. فجريمة الإلحاد هي أكبر جريمة على الإطلاق).. قال تعالى:(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)الرحمن: 41
إنه كتاب العجائب، كتاب الله تعالى،والذي يحوي كل شيء يخطر ببالك من العلوم، ولذلك هذه الآيات تؤكد أن القرآن لا يتناقض مع العلم.. [الأنترنت – موقع الإعجاز في الطب - ملامح الوجه - بقلم عبد الدائم الكحيل ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة
الثالثة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* التعفف عما في أيدي الناس :
وإذا كان الإسلام يطلب من المسلم أن يرضى بما قسمه الله له، ويقنع ويكتفي برزقه الحلال، فإنه يطلب منه كذلك أن يعف نفسه عما في أيدي غيره مما لا حق له فيه فيستغني بما أوتي، ولا يطمع في كسب غير مشروع ، أو زيادة من غير حلها؛ وبذلك يتحقق المطلوب من العفة وهو اليأس وقطع الطمع عما في أيدي الناس .
وقد مدح الله تعالى قومًا اتصفوا بالعفة في مظهرهم، مع فقرهم وحاجتهم، فقال :{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}البقرة: 273]
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : «.. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه
الله» ( أخرجه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي) .
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» (أخرجه مسلم والترمذي).
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم معياراً للمسلم إذا جعله نصب عينيه فسيكون قرير العين بما آتاه الله راضياً به عفيفاً عن التطلع والنظر إلى ما عند غيره .
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا نظر أحدكم إلى من فَضُلَ عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه»(أخرجه البخاري ومسلم والترمذي) .
وبهذا المعنى أمرنا رب العالمين فقال : " وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى " [طه: 131] .
كما أمر القرآن من لا يملكون نفقة الزواج أن يعفوا نفوسهم عن الحرام حتى يغنيهم الله من فضله فقال : " وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه " [النور: 33] .
وهذا الغنى وهذه العفة عما في أيدي الناس رغب فيها الإسلام وحث عليها وجعلها سبباً موصلاً إلى الجنة بل إن المتصف بها يكون من أهلها .
عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رفيق القلب لكل مسلم، وعفيف متعفف ذو عيال..» (من حديث طويل أخرجه مسلم) .
وبعد : فهذه لمحة موجزة عن هدي الإسلام في طلب الكسب الحلال والاكتفاء به والقناعة برزق الله، والعفة عن الحرام، وهي حصن قوي ودرع واق للمسلم من الوقوع في الحرام أو التطلع إ
[الأنترنت – موقع الكلم الطيب- " التعفف عما في أيدي الناس "]
وقال السعدى: ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله: { أحصروا في سبيل الله } أي: قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال: {لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي: سفرا للتكسب، الرابع قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم. الخامس: أنه قال: { تعرفهم بسيماهم } أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: { لا يسألون الناس إلحافا } أي: لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي: إلحاح، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر، فلهذا قال: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان : * التعفف عما في أيدي الناس :
وقال الطنطاوي في الوسيط على الآية: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير، خص- سبحانه- بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولى الناس بالعون والمساعدة، ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجتهم استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور حالة هذه الطائفة من المؤمنين تصويرا كريما نبيلا يستجيش المشاعر، ويحرك القلوب لمساعدة هذه الطائفة المتعففة فيقول: لِلْفُقَراءِ، الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ، لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.
لقد وصفهم الله- تعالى- أولا بالفقراء، أى الذين هم في حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم واحتياجهم إلى ضرورات الحياة.
وقوله: لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف يفهم من الكلام السابق والتقدير: اجعلوا نفقتكم وصدقتكم للفقراء لأن الكلام السابق موضوعه للإنفاق في سبيل الله، وما يتعلق بذلك من آداب وفوائد.
والجملة استئناف بيانى، فكأنهم لما أمروا بالصدقات سألوا لمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء الذين ذكرت الآية صفاتهم.
ومن فوائد الحذف هنا للمتعلق: تعليم المؤمنين الأدب في عطائهم للفقراء بأن لا يصرحوا لهم بأن ما يعطونه إياهم هو صدقة حتى لا يشعروهم بالمذلة والضعف، وأيضا ففي هذا الحذف لون من الإيجاز البليغ الذي قل فيه اللفظ مع الوفاء بحق المعنى.
وقال القرطبي: والمراد بهؤلاء الفقراء، فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفتهم غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر، لأنه لم يكن هناك سواهم، وهم أهل الصفة» وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يأتون فقراء وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في المسجد النبوي بالمدينة فقيل لهم: «أهل الصفة» .
أما الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين هم أولى الناس بالعون والمساعدة فهي قوله- تعالى-: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. والإحصار في اللغة هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين ما يريده بسبب مرض أو شيخوخة أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجرى مجرى هذه الأشياء.
والمعنى: اجعلوا الكثير مما تنفقونه- أيها المؤمنون- لهؤلاء الفقراء الذين حصروا أنفسهم ووقفوها على الطاعات المتنوعة التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله،أو الذين منعوا من الكسب بسبب مرضهم أو شيخوختهم ، أو غير ذلك من الأسباب التي جعلتهم في حالة شديدة من الفاقة والاحتياج.
وعبر في الجملة الكريمة «بأحصروا» بالبناء للمجهول، للإشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب، وإنما كان لأسباب خارجة عن إرادتهم.
وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ تكريم وتشريف لهم، أى أن ما نزل بهم من فقر واحتياج كان بسبب إيثارهم إعلاء كلمة الله على أى شيء آخر، ففي سبيل الله هاجروا، وفي سبيل الله تركوا أموالهم فصاروا فقراء، وفي سبيل الله وقفوا أنفسهم على الجهاد، وفي سبيل الله أصابهم ما أصابهم وهم يطلبون أداء ما كلفهم- سبحانه- بأدائه.
أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقال فيها لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ والضرب في الأرض هو السير فيها للتكسب والتجارة وغيرهما.
أى أنهم عاجزون عن السير في الأرض لتحصيل رزقهم بسبب اشتغالهم بالجهاد، أو بسبب ضعفهم وقلة ذات يدهم.
والصفة الرابعة من صفاتهم هي قوله- تعالى-: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
والتعفف: ترك الشيء والتنزه عن طلبه، بقهر النفس والتغلب عليها. يقال عف عن الشيء يعف إذا كف عنه. والحسبان بمعنى الظن.
أى يظنهم الجاهل بحالهم، أو الذي لا فراسة عنده، يظنهم أغنياء من أجل تجملهم وتعففهم عن السؤال، أما صاحب الفراسة الصادقة، والبصيرة النافذة فإنه يرحمهم ويعطف عليهم لأنه يعرف ما لا يعرفه غيره.
ومِنَ في قوله: مِنَ التَّعَفُّفِ للتعليل، أو لابتداء الغاية لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان.
أما الصفة الخامسة من صفاتهم فهي قوله- تعالى-: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ والسيما والسيماء: العلامة التي يعرف بها الشيء،وأصلها من الوسم بمعنى العلامة. والمعنى: تعرف فقرهم وحاجتهم- أيها الرسول الكريم أو أيها المؤمن العاقل-
بما ترى في هيئتهم من آثار تشهد بقلة ذات يدهم.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان : * التعفف عما في أيدي الناس :
قال الإمام الرازي ما ملخصه: قال مجاهد: «سيماهم» التخشع والتواضع. أى- تعرفهم بتخشعهم وتواضعهم- وقال السدى: - تعرفهم بسيماهم- أى بأثر الجهد من الفقر والحاجة. وقال الضحاك: أى بصفرة ألوانهم ورثاثة ثيابهم ... ثم قال- رحمه الله-: وعندي أن كل ذلك فيه نظر والمراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق، وكل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم، وذلك له إدراكات روحانية، لا علامات جسمانية. ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هنا ...
وقد ذكر- سبحانه- في الجملة السابقة أن الجاهل بحالهم يظنهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال، وذكر هنا أنهم يعرفون بسيماهم، وذلك للإشعار بأن أنظار الناس تختلف باختلاف فراستهم ونفاذ بصيرتهم. فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء، أما أصحاب البصيرة المستنيرة، والحس المرهف، والفراسة الصائبة، فإنهم يدركون ما عليه أولئك القوم من احتياج، بسبب ما منحهم الله من فكر صائب ونظر نافذ، وفي الحديث الشريف: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».
أما الصفة السادسة من صفاتهم فهي قوله- تعالى-: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً والإلحاف- كما يقول صاحب الكشاف: هو الإلحاح بأن لا يفارق- السائل المسئول- إلا بشيء يعطاه. من قولهم: لحفني من فضل لحافه أى أعطانى من فضل ما عنده. ومعناه:
أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. وقيل هو نفى للسؤال والإلحاف».
والذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الإلحاف أى أنهم لا يسألون أصلا تعففا منهم، لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك.
قوله: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ الغرض منه بيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم»
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تمدح المتعففين عن السؤال، وتذم الملحفين فيه ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف. اقرؤا إن شئتم: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.
وروى مسلّم في صحيحه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» .
وروى مسلّم- أيضا- في صحيحه عن عوف بن مالك قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه» .
والخلاصة أن السؤال إنما يجوز عند الضرورة، وأنه لا يصح لمؤمن أن يسأل الناس وعنده ما يكفيه، لأن السؤال ذل يربأ بنفسه عنه كل من يحافظ على مروءته وكرامته وشرفه.
[الأنترنت – موقع { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ (البقرة - 273) } ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السادسة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان : *{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة - 214)
قال البغوى : قوله تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) قال قتادة والسدي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال الله تعالى : " وبلغت القلوب الحناجر " ( 10 - الأحزاب ) وقيل نزلت في حرب أحد .
وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا الله ورسوله وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر قوم النفاق فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم ( أم حسبتم ) أي : أحسبتم والميم صلة قاله الفراء وقال الزجاج : بل حسبتم ومعنى الآية : أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ( ولما يأتكم ) وما صلة ( مثل الذين خلوا ) شبه الذين مضوا ( من قبلكم ) النبيين والمؤمنين ( مستهم البأساء ) الفقر والشدة والبلاء ) ( والضراء ) المرض والزمانة ) ( وزلزلوا ) أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا وخوفوا ( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) ما زال البلاء بهم حتى استبطئوا النصر .
وقال ابن كثير : يقول تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا ، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ; ولهذا قال : ( ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) وهي : الأمراض ; والأسقام ، والآلام ، والمصائب والنوائب .
قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومرة الهمداني ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : ( البأساء ) الفقر . قال ابن عباس : ( والضراء ) السقم .
وقال الله تعالى : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [ العنكبوت : 1 3 ] .
وقال الطبرى : القول في تأويل قوله تعالى : " أم حسبتم "، كأنه استفهم بـ " أم " في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (26) ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر: " أم عندك أخوك "؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال: " أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟" كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من " البأساء "- وهو شدة الحاجة والفاقة " والضراء " -وهي العلل والأوصاب (27) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي بعنوان : *{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة - 214)
وقال ابن عاشور : قوله : { أم حسبتم } إضراباً عن قوله : { فهدى الله الذين آمنوا } وليكون ذلك تصبيراً لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العُمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل ، ويكون أيضاً تمهيداً لقوله : { كتب عليكم القتال } [ البقرة : 216 ] الآية ، وقد روي عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجَهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة .
و { أم } في الإضراب ك {بل} إلا أن {أَمْ} تؤذن بالاستفهام وهو هنا تقرير بذلك وإنكاره إن كان حاصلاً أي {بل أحسبتم أن تدخلوا } دون بلْوَى – من الإمتحان -وهو حسبان باطل لا ينبغي اعتقاده .
و{حَسِب} بكسر السين في الماضي : فعل من أفعال القلوب أخواتِ {ظن} ، وفي مضارعه وجهان كسر السين وهو أجود وفتحها وهو أقيس وقد قرىء بهما في المشهور ، ومصدره الحِسبان بكسر الحاء وأصله من الحساب بمعنى العد فاستعمل في الظن تشبيهاً لجولان النفس في استخراج علم ما يقع بجولان اليد في الأشياء لتعيين عددها ومثله في ذلك فعل عَدَّ بمعنى ظن .
والخطاب للمسلمين وهو إقبال عليهم بالخطاب بعد أن كان الكلام على غيرهم فليس فيه التفات ، وجعل صاحب الكشاف } التفاتا بناء على تقدم قوله{ فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] وأنه يقتضي أن يقال أم حسبوا أي الذين آمنوا ، والأظهرُ أنه لما وقع الانتقال من غرض إلى غرض بالإضراب الانتقالي الحاصل بأم ، صار الكلام افتتاحاً محضاً وبذلك يُتأكد اعتبار الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ، فالالتفات هنا غير منظور إليه على التحقيق .
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى ، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شيء منه ، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتتهُ ولم يصبر عليها ، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه موجب لغفران الذنوب ، أو المراد من ذلك أن تنالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين ، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفاً على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى ، وتطرقُ (هاته) – وهي بمعنى هذه للمؤنث ، ومثناها(هاتان ) - الحالة سنة من سنن الله تعالى في أَتْباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل ، فلذلك هُيِّءَ المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفاً بهم ليكون حصوله أهون عليهم .
وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساءَ والضراءَ وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة ، فلما وردوا المدينة لقُوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم ، كما أن الأنصار لقُوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم .
[الأنترنت – موقع { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة - 214)]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* من هم الرازقون في قوله تعالى (خير الرازقين)؟وبيان الفروقات بين رزق الله ورزق خلقه :
السؤال : إذا كان الله " خير الرازقين " : من هم الرازقون ؟ .
نص الجواب : الحمد لله
أولاً : ذكر الله تعالى عن نفسه أنه ( خَيْر الرَّازِقين )في خمسة مواضع وهي :المائدة/ 114،الحج/ 58،المؤمنون/ 72، سـبأ/ 39،الجمعة/ 11
ثانياً : لم يمنع إطلاق صفة الرزق وفعلها على رب العالمين أن تُطلق على المخلوقين ، كما في قوله تعالى ( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ) البقرة/ 233 ، وقوله ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) النساء/ 5 ، وقوله ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) النساء/ 8 . ولذا تجد معنى " الرازق " في كتب التفسير : السلطان ، والسيد ، والوالد ، والقريب الغني .
وليس ذلك بمشكل عند أهل العلم ؛ لأننا نعتقد أن الفرق بين رزق العباد ورزق الله تعالى هو الفرق بين المخلوق والخالق ، والعبد والمعبود ، وهو كما وصف الله تعالى نفسه بالعلم ووصفه عباده بالعلم ، وعلم العباد سُبق بجهل ويلحقه نسيان ، وأما الرب تعالى فلا يضل ولا ينسى ، وهو – أيضاً - كما وصف الله تعالى نفسه بالخلْق ووصف عباده به ، وخلْق العبيد ليس من العدم إنما هو تحويل مادة لأخرى ، وهو خلق ناقص كنقصهم ، وقاصر كقصر أفهامهم ، وقابل للهلاك كقابليتهم –
ثالثاً : بتأمل يسير للفرق بين رزق الله تعالى لخلقه ورزق العباد تتبين فروقات عظيمة ، وبه يُعلم أنه إنما أُطلق على العباد لفظ " الرزق " وفعله بحسب حالهم اللائق بهم من الفقر والضعف والحاجة والعبودية .
ومن هذه الفروقات :
1. رزق الله تعالى لا ينفد ، وأما رزق العباد فمهما عظم فهو قابل للنفاد . قال تعالى ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) النحل/ 96 .
2. رزق الله تعالى لا يُقطع عن الكافر والفاجر ، والعباد لا يرزقون المخالف لهم فضلاً عن الشاتم لهم والكافر بهم .
قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) البقرة/ 126 .
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أبي موسى الأشعري قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ ) .رواه مسلم ( 2804 ) . وقال تعالى ( كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الإسراء/ 20 .
قال الحسن البصري – رحمه الله - :كلاًّ نعطي من الدنيا : البرّ والفاجر ." تفسير الطبري " ( 17 / 411 ) .
3. رزق الله في الدنيا والآخرة ، ورزق العباد محدود بقدر يسير وفي الدنيا فقط .
قال تعالى ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة/ 25 .
4. رزق الله لكل مخلوقاته حتى البهائم ، والعباد لا يملكون ذلك مهما بلغت أموالهم .قال تعالى ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) هود/ 6 ، وقال ( وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العنكبوت/ 60 .
5. رزق الله مخلوق من عدم – ومنه المطر والذهب والثمر - ولم يكن بيد غيره قبله بلا شك ولا ريب ، ورزق العباد موروث عمن قبلهم وتتناقله الأيدي ، ولا يخلقون شيئاً من عدم ، ثم هو ـ فوق ذلك كله ـ مستفاد من خزائن الله تعالى وعطائه لعباده .
قال تعالى ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد/ 16 ، وقال ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) الواقعة/ 68 ، 69 .
6. رزق الله تعالى مملوك له لا يشاركه فيه أحد ، ورزق العباد ملَّكهم
الله تعالى إياه ، ولولا تسخير الله تعالى لهم أسبابه ما ملكوه .
قال تعالى ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) النحل/ 7 ، وقال ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور/ 33 ، وقال ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) الحديد/ 7 ، وقال ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) فاطر/ 13 .
7. رزق الله لكماله وعظمته ورحمته ، ورزق المخلوق لفعل واجب أو تحصيل ثناء أو رجاء ثواب ، ولو ملك الإنسان خزائن الرزق لبخل بالإعطاء . قال تعالى ( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً ) الإسراء/ 100 .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة والسبعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
* من هم الرازقون في قوله تعالى (خير الرازقين)؟وبيان الفروقات بين رزق الله ورزق خلقه :
8. رزق الله مادي ومعنوي ، فهو يرزق الخلق المطر والثمر ويرزقهم الإيمان والقناعة والسعادة ، وإذا ملك العباد بعض الرزق المادي فأنَى لهم رزق غيرهم الرزق المعنوي ؟! . قال تعالى ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) البقرة/ 212 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : قال تعالى ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك : فلا يعطيها إلا من يحب ." تفسير السعدي " ( ص 95 ) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ) .رواه البخاري ( 3036 ) ومسلم ( 2643 ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله - :(رِزْقه) الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن : هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق الذي يقوم به الدين : هو العلم ، والإيمان ، وكلاهما مراد بهذا الحديث ." شرح الأربعين النووية " ( ص 101 ، 102 ) طبعة الثريا . ولهذا فإن الرازق والرزاق على الحقيقة هو الله وحده لا شريك له ، وقد استدل الله برزقه للعباد على إبطال الشرك وتسفيه المشركين ، فقال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) فاطر/ 3 .
رابعاً : ونختم جوابنا هذا برائعة جامعة في الموضوع :
قال الدكتور عبد الله دراز - رحمه الله - : اقرأ قوله تعالى ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) البقرة/ 222 ، وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس ، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة :
فإنك لو قلت في معناها :
1. إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقْدِره على هؤلاء : أصبتَ
2. ولو قلت : إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد : أصبتَ .
3. ولو قلتَ : إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب : أصبت
4. ولو قلت إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله : أصبتَ .
5. ولو قلتَ : يرزقه رزقا كثيراً لا يدخل تحت حصر وحساب : أصبتَ
فعلى الأول : يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا ، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله ، بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء ، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين ، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين .
وعلى الثاني : يكون تنبيهاً على سعة خزائن الله وبسطة يده جل شأنه .
وعلى الثالث : يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً ، وفقرهم غنًى ، من حيث لا يظنون .
وعلى الرابع والخامس : يكون وعداً للصالحين : إما بدخولهم الجنة بغير حساب ، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافا كثيرة لا يحصرها العد . ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب .[" النبأ العظيم " ( ص 147 ، 148 ) .
[الأنترنت – موقع الإسلام سؤال وجواب - من هم الرازقون في قوله تعالى (خير الرازقين)؟وبيان الفروقات بين رزق الله ورزق خلقه]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* أسرار الإعجاز في قوله تعالى : {والله يرزق من يشاء بغير حساب }
إن من معجزة هذا الكتاب العظيم أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم،
الذي تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلآت الدنيوية عن استيفائه، مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة لقمان، الآية: 27].
ومن معجزة هذا الكتاب العظيم كذلك أنه لو نزعت منه لفظة واحدة، ثم أدير على لسان العرب في أن يوجد خير منها لم يوجد. ونحن قد تبين لنا البراعة في بعض آياته، ولكن الذي يخفى علينا أكثر بكثير؛ وذلك لقصور علمنا، وكثرة ذنوبنا وجهلنا، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
والأمثلة التي تبين هذا الكلام لا تعد ولا تحصى، منها ما نجده في أسرار قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة البقرة، الآية: 212]. فإن هذه الآية الكريمة تحمتل أن يكون المراد بها رزق الدنيا ورزق الآخرة أيضاً. فإذا حملنا معناها على رزق الآخرة احتمل المراد منها وجوهًا:
- أحدها: أنه يرزق عباده المؤمنين في الآخرة رزقًا رغدًا واسعًا، لا فناء له ولا انقطاع، فهو كقوله تعالى: {فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة غافر، الآية: 40] أي بدون تقدير ولا عدّ؛ لأن كل ما دخل تحت التقدير والعدّ والحساب متناه. وما لا يكون متناهيًا كان لا محالة خارجًا عن الحساب.
- ثانيها: قيل في تفسيره: يعطيه عطاء كثيرًا لا يمكن للبشر احصاؤه؛ لأن ما دخل تحت الحساب كان قليلًا.
- ثالثها: يعطيه أكثر مما يستحق أو يحسبه، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق، الآيات: 2-3] أي بغير احتساب من المرزوقين، ويرزقه من حيث لا يتوقع الرزق.
- رابعها: يعطيه ولا يحاسبه عليه.
- خامسها: يعطيه ولا يأخذه منه.
- سادسها: يعطيه بحسب ما يعرفه من مصلحته لا حسب حسابهم وتقديرهم.
- سابعها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها بفضل من الله، كما في قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [سورة النساء، الآية: 173] فالفضل منه بلا حساب.
- ثامنها: أنه لا يخاف نفادها من عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج
منه؛ لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم مقدار ما يخرج وما يبقى، فلا يتجاوز في عطاياه حتى لا ينقص عليه شيء، والله لا يحتاج إلى الحساب؛ لأنه غني حميد ولا نهاية لغناوه أو لمقدوراته.
- تاسعها: أن ثواب أهل الجنة ليس بمقدار أعمالهم؛ لأنه لو كان بمقدار أعمالهم لكان بحساب.
- عاشرها: بغير استحقاق، يقال: لفلان على فلان حساب، أي حق أو دين، وهذا يدل على أن ثواب أهل الجنة فضل من الله تعالى، وليس لأحد معه حساب.
وهذه الوجوه كلها صحيحة ومحتملة، ولا تعارض بينها، فيجوز أن يكون جميعها مراد الآية الكريمة.
أما إذا كان المراد بالآية حساب الدنيا، فتحتمل وجوهًا أخرى أيضًا، نذكر منها وجهين:
- الأول : أن الكفار كانوا يسخرون من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدنيوية على أنهم على حق، فأبطل الله تعالى هذا الاعتقاد بقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة البقرة، الآية: 212] يعني أنه تعالى يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئًا عن كون المعطى محقًا أو محسنًا أو غير ذلك، وإنما ذلك متعلق بمحض مشيئتة سبحانه، فقد يوسع على العاصي أو الفاجر كما وسع على قارون، ويضيق على المؤمنين والصالحين زيادة في الابتلاء والامتحان، ولهذا قال: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ} [سورة الزخرف، الآية: 33]
- الثاني : جائز أن يكون المعنى: أنه يرزق في الدنيا عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبون. فإن قيل: قد قال الله تعالى في وصف المتقين وما يصل إليهم: {جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [سورة النبأ، الآية: 36] أليس ذلك مناقضًا لما في هذه الآية؟ والجواب: لا؛ لأن المقصود بقوله سبحانه {عَطَاءً حِسَابًا} أقوال، منها:
- أولًا: أن يكون بمعنى كافيًا، من قولهم: حسبي كذا، أي يكفيني. والمعنى: أن الله تعالى يكرمه ويعطيه حتى يقول: حسبي حسبي.
- ثانيًا: قوله سبحانه {حِسَابًا} مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته
وقدرته، أي: بقدر ما وجب له فيما وعده الله تعالى به من الأضعاف المضاعفة، للحسنة عشرًا أو سبعمائة أو بدون مقدار، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر، الآية: 10].
- ثالثًا: أنه كثيرًا، فيقال: أحسبت فلانًا، أي: أكثرت له العطاء.
- رابعًا: أنه حسب أعمالهم.
- خامسًا: أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار {جَزَاءً وِفَاقًا} [سورة النبأ، الآية: 26] قال في وعد أهل الجنة {عَطَاءً حِسَابًا} [سورة النبأ، الآية: 36] كأنه يقول: راعيت في ثواب أعمالكم الحساب؛ لألا يقع في ثواب أعمالكم بخس أو نقصان.
فانظر إلى عظمة هذا الكتاب وكثرة معانيه:
كالبدر من حيث التفت رأيته *** يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا
كالشمس في كبد السماء وضوئها *** يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا
بيد أن محاسن أنوار هذا الكتاب العظيم لا يمكن أن تثقفها إلا البصائر الجلية، وأطايب ثمره لا تقطفها إلا الأيادي الزكية، ومنافع شفائه لا تنالها إلا النفوس الزكية النقية، كما صرح في وصفه سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [سورة الواقعة، الآيات: 77-79]، وقوله عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [سورة فصلت، الآية: 44].[الأنترنت – موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية - أسرارالإعجاز في قوله تعالى :{والله يرزق من يشاء بغير حساب }
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الواحدة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
(البقرة - 206) العزة بالحق والعزة بالإثم
العزة في الحق جهاد، والعزة في الباطل نفاق، والإنسان أي إنسان يحب العزة لنفسه، ويكره الذل لها.. والناس يتلمسون مواطن العزة ويطلبونها لأنفسهم؛ ولذا يسعون للجاه؛ لما فيه من عزة على من يعرفونهم، ويكدحون في جمع المال لنيل العزة به، يستوي في ذلك المؤمن والكافر والبر والفاجر، إلا أن المؤمن قوي بإيمانه، عزيز بدينه، قد ذل لله تعالى فأعزه الله سبحانه، فلا يذل لسواه، ولا يخشى غيره..
إن العزة قد تكون في الحق، فيكون صاحبها عزيزا ولو كان ضعيفا مستضاما، لا يذل للخلق، ولا يتنازل عن شيء من دينه.. عزيز بعزة الله تعالى؛ لأنه قد شرف بعبوديته له، والانتساب لدينه، والفخر بإسلامه، وتطبيق شريعته، ولو سخر منه الساخرون، واستهزأ به المنافقون.. فهذه هي العزة بالحق؛ لأنها اعتزاز بمن يملك العزة، وانتساب لدينه، وتطبيق لشريعته، والله تعالى متصف بالعزة الكاملة التي لا نقص فيها، ولا أحد أعز منه سبحانه وتعالى، بل لا عزة لمخلوق إلابه عزوجل (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصَّفات:180] (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10]
ومن أوصاف أهل هذه العزة أنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29] ونعتهم الله تعالى بقوله سبحانه (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ) [المائدة:54] فلا يلينون في الحق، ولا يداهنون الخلق، ولا يستكينون للعدو، ولا يتنازلون عن شيء من دينهم مهما رُغبوا أو رُهبوا، قال الله تعالى في وصفهم في الأمم السابقة (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) [آل عمران:146] وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: " لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون" أي غيرة لله تعالى، ونصرة لدينه، واعتزازا بالحق.
وعلى المؤمن أن لا ييأس لما يرى من عزة الكافرين والمنافقين وقوتهم وغلبتهم؛ لأنه معتز بالله تعالى وهو سبحانه فوقهم؛ ولأن الأيام دول والعاقبة للتقوى (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا) [يونس:65]. إن أهل الكفر والنفاق تغرهم قوتهم، وتعجبهم كثرتهم، فيعتزون بها، ومن أمثال العرب في ذلك قولهم: "وإنما العزة للكاثر"، وقولهم: "لن نغلب من قلة" فيكون إعجابهم بقوتهم أو كثرتهم باعثا لهم على رفض الحق، والعلو في الأرض. والضعيف منهم يعتز بالقوي كما اعتز السحرة بفرعون؛ لأنه أقوى منهم (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ) [الشعراء:44].
وأما أهل النفاق فهم معتزون بالكفار يذلون لهم، ويسارعون فيهم،
ويطبقون مناهجهم، ويتبعونهم في ضلالهم؛ طلبا
للعزة منهم، كما حكى الله تعالى عنهم فقال سبحانه (بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا) [النساء:138-139].
ومن اعتز بغير الله تعالى فإن عاقبته إلى ذل، وانظروا إلى حال بعض طغاة العصر كيف هووا من ذرى العلياء والمجد إلى أسفل دركات الذل؛ لأنهم اعتزوا بغير الله تعالى فأذلهم الله تعالى، وتخلى عنهم من اعتزوا بهم.. وجميل في هذا قول عبيدة بن أبي لبابة رحمه الله تعالى: "من طلب عزاً بباطل وجور أورثه الله ذلاً بإنصاف وعدل".
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
(البقرة - 206) العزة بالحق والعزة بالإثم
وكثيرا ما تمنع العزة بالإثم أصحابها من قبول الحق سواء كانوا من الكفار أم من المنافقين أم من عصاة المسلمين.. فإذا دعي الواحد منهم إلى الإيمان والتقوى أخذته العزة بالإثم، فرفض الانصياع للحق، واستكبر عن قبول النصح، وما منعهم من ذلك إلا عزتهم بالإثم قال الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة:206] وفي آية أخرى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) [ص:2] أي: ما يحسونه من عزة بالباطل وحمية له يمنعهم من الخضوع للحق.
وعزتهم بالإثم جعلتهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويعادونه، ويصدونه عن البيت لما جاء معتمرا، وقالوا في تعليل ذلك: "قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا" وفي هذا يقول الله تعالى (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ)[الفتح:26].
وإذا ذكروا بالقرآن، ووعظوا بآياته، وقرعهم وعده ووعيده؛ منعتهم عزتهم بالإثم من التأثر بالقرآن ومواعظه، وأصروا على ضلالهم أنفةً وعزة وحمية وكبرا (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا) [الحج:72] .
ويجري ذلك على بعض عصاة المسلمين، فيرفضون الحق؛ عزة وكبرا، ويُخشى على من كان كذلك أن يهوي إلى درك النفاق؛ لأن الأصل في المؤمن خضوعه للحق، ولين قلبه للذكر، وتأثره بالموعظة، وفي قول الله تعالى (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال:2] قال السدي: "إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له اتق الله كف ووجل قلبه".
وعلى العكس منه أهل الاستكبار فإن الواحد منهم إذا قيل له (اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة:206] قال قتادة رحمه الله تعالى: "المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية".
وإذا أمر المؤمن بالتقوى وجب عليه الخضوع والقبول، ولو كان هو محقا، وكان آمره مبطلا، فإنه ما أمره إلا بحق. وأتقى الناس وأعبدهم محتاج إلى التذكير بالتقوى، ولا يلزم لقبول التذكرة أن يكون من يذكره تقياً، فوجب أن يقبلها منه ولو كان فاسقا أو كافرا؛ لعظيم ما ذُكر به، وفي هذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا إذا قِيلَ له اتَّقِ الله غَضِبَ"، وفي رواية: "كفى بالرجل إثما أن يقول له أخوه اتق الله فيقول: عليك نفسك أأنت تأمرني؟!" وتالله ما أكثر من يرد بهذا الرد إن وعظ أو ذكر بالتقوى!!
بل إن القاضي في مجلس الحكم بين الخصمين إذا حكم على أحدهما فقال المحكوم عليه للقاضي: اتق الله، فلا يغضب ولا يعاقبه، ويرد عليه بقوله: رزقني الله التقوى، أو ما أمرتَ إلا بخير، أو نحو ذلك، ويبين له وجه الحكم عليه.. نص على ذلك بعض فقهاء المالكية.
أيها الناس: حفل تاريخ البشر بقوم ذُكروا بالله تعالى فتذكروا، ودعوا إلى تقواه فاستجابوا، وخوفوا به فخافوا، فكان خيرا لهم..
كما وجد في تاريخ البشر أقوام ذكروا فلم يتذكروا، ودعوا إلى التقوى فلم يستجيبوا، وخوفوا بالله تعالى فلم يرتدعوا، بل أخذتهم العزة بالإثم، وأصروا على الذنب، فكان ذلك شؤما عليهم..
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
(البقرة - 206) العزة بالحق والعزة بالإثم
وممن تذكروا واستجابوا: ذلك الرجل الذي كان يحب ابنة عمه حبا شديدا، وراودها فأبت حتى إذا احتاجت إلى المال شارطها على عرضها فوافقت مضطرة فلما تمكن منها، وجلس بين رجليها وعظته فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فاستجاب لداعي التقوى، وأسعفه خوفه من الله تعالى في تلك اللحظة، فقام عنها وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ مما أعطاها شيئا، فلما حُصر هو وأصحابه في الغار فرج الله تعالى عنه بهذا العمل الجليل، مع ما ادخر له من ثواب الآخرة وجزائها..
ومن مشاهير المستجيبين للتذكير بالتقوى في هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع قوته وعدله وجاهه فهو خليفة المسلمين، روى الحسن أن رجلا قال لعمر : اتق الله، قال : "وما فينا خير إن لم يقل لنا، وما فيهم خير إن لم يقولوا لنا".
وكان رضي الله عنه يقبل التذكير من أي أحد؛ كما روى عمر بن شبَّةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "خَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ بَرْزَةٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، أَوْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هِيهْ يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ عُكَاظٍ تُصَارِعُ الصِّبْيَانَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى سُمِّيتَ عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الْوَعِيدَ قَرُبَ مِنْهُ الْبَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ، فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْجَارُودُ: هِيهْ، فَقَدْ أَكْثَرْتِ وَأَبْكَيْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهَا: أَوَمَا تَعْرِفُ هَذِهِ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ سَمَائِهِ فَعُمَرُ وَاللَّهِ أَجْدَرُ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا".
وغضب محمد بن سليمان في دولة بني العباس على رجل فأمر أن يطرح من القصر، فقال الرجل: "اتق الله. فقال: خلوا سبيله؛ فإني كرهت أن أكون من الذين قال الله تعالى فيهم (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة:206]".
وفي مقابل ذلك فإن قوما أنفوا من الموعظة، ولم يستجيبوا للتذكرة، وأخذتهم العزة بالإثم فبؤسا لهم، مرَّ مالك بن دينار على رجل فرآه على بعض ما يكره فقال: "يا هذا، اتق الله، قال: يا مالك، دعنا ندق العيش دقا، فلما حضرت الرجل الوفاة قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: إني أجد على رأسي ملكا يقول: والله لأدقنك دقا".
وقال رجل لأحد الكبراء: "اتق الله، قال أومثلك يأمر مثلي بتقوى الله؟! فرد عليه قائلا: لا أحد فوق أن يُوصَى بتقوى الله، ولا دون أن يوصِي بتقوى الله".
أيها الإخوة: إن من الناس من إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر؛ أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر، فأخذته الكبرياء والأنفة، وتخطفته العزة والحمية، وسيطر عليه طيش السفه، فيكون كالمأخوذ بالسحر، لا يستقيم له فكر؛ لأنه يتخيل النصح والإرشاد ذلة تنافي العزة المطلوبة. فحذار حذار عباد الله من ذلك؛ فإن صاحب العزة بالإثم موعود بالعذاب (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ) [البقرة:206].[ الأنترنت – موقع الخطباء -العزة بالحق والعزة بالإثم - الشيخ د. : إبراهيم بن محمد الحقيل خطيب]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*" عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم "
ذمَّ الله – عز وجل - صنفاً من عباده إذا قيل له : اتق الله، أخذته العزة بالإثم، وهؤلاء حسبهم جهنم وبئس المهاد، قال تعالى : " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " [البقرة: 206] ولا شك أن هذا الصنف من الناس صنف باغ طاغ متجبر، ولذا فإنه إذا قيل للواحد منهم: اتق الله، تجده بغى، وطغا، وثار، وأرغى وأزبد، وقد يؤذي مخاطبه، وقد يقتله، ويفتك به .
وحسبك أن تعلم أن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ " [الأحزاب: 1] وقد سقت النصوص الكثيرة القرآنية والنبوية الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ " [البقرة: 278] .
وتقوى الله وصية الله للأولين والآخرين من البشر، والمؤمن إذا قيل له : اتق الله، تواضع لها، وأخبت، ورقَّ قلبه، وإذا كان قد زلَّ وأخطأ، فإنك تجده قد ارعوى، واستغر وتاب، وأناب .
" تأسيس الأعمال على التقوى "
ينبغي أن تؤسس الأعمال على التقوى، ومن ذلك بناء المساجد، ودور الأيتام، والمدارس، والجامعات، وقد ذمَّ الله
تعالى في العهد النبوي الذين بنوا في المدينة في منطقة قباء مسجداً ضراراً، أرادوا من ورائه أن يتخذوه موضعاً للتآمر على رسول الله وعلى المؤمنين معه، فنهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن افتتاحه والصلاة فيه، وكان بناته قد دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فيه، فكشف الله سترهم، فضح أسرارهم، وأنزل فيهم قرآناً يتلى تحذيراً من كلِّ من فعل مثل فعلهم، ورغَّب الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في المسجد الذي بني على التقوى، وهو الذي بني لعبادة الله، وفيه الذين يحبُّون أن يتظهروا، قال تعالى : " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرُ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ " [التوبة: 107- 110] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات : " سبب نزول هذه الآيات الكريات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : أبو عامر الراهب، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرفٌ في الخزرج كبير .
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، واظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارّاً إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحدٍ، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين .
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصَّفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشجّ رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق ، يا عدوَّ الله ! ونالوا منه وسبّوه ، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شرّ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحدٍ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنَّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول لله صلى الله عليه وسلم ، ويغلبه ويردُّه عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلِّي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال : «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم على التقوى .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا " : وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجداً واستعدُّوا بما استطعتم من وقوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله تعالى : " لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ " إلى " وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة، وغير واحد من العلماء .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
*" عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم "
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك – حتى نزل بذي أوان – بلدٍ بينه وبين المدينة ساعةٌ من نهار، وكان أصحاب مسجد الضِّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا : يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال : «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ولو قدمنا – إن شاء الله تعالى – أتيناكم فصلينا لكم فيه» .
فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدُّخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عديٍّ – أو : أخاه عامر بن عديٍّ – أخا بلعجلان، فقال : «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن : انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرَّقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن مانزل:وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا "إلى آخر القصة
وقوله : " وَلَيَحْلِفُنَّ " أي : الذين بنوه " إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى " أي : ما أردناه ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال الله تعالى : " وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أي : فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً بالله، وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الفاسق، الذي يقال له : الراهب، لعنه الله .
وقوله : " لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا " نهي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك، عن أن يقوم فيه، أي : يصلي فيه أبداً، ثم حثَّه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله. ولهذا قال تعالى : " لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ " والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء .
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [الترمذي، ابن ماجه] .وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً [البخاري ومسلم] .
وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جف المدينة، هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح،ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى .
ولهذا روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بسنده من حديث أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا» تفرد به أحمد [مسند أحمد، صحح متنه محقق ابن كثير] .
وروى الإمام أحمد بسنده من حديث سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر : هو مسجد قباء ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال : «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد أيضاً [قال محقق ابن كثير: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مصنفه والطبري في تفسيره والطبراني في الكبير وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح. ابن كثير] .
وروى الإمام أحمد بسنده من حديث سعيد بن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما : هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد [قال محقق ابن كثير : صحيح، أخرجه أحمد] .
وروى الإمام أحمد بسنده من حديث ابن أبي سعيد، عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل : هو مسجد قباء، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو مسجدي» [وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة، عن الليث – وصححه الترمذي – ورواه مسلم كما سيأتي [وصححه محقق ابن كثير، أخرجه أحمد] .
[تفسير ابن كثير، بشيء من الاختصار] .[الأنترنت – موقع الكلم الطيب- تأسيس الأعمال على التقوى - عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* من فوائد الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة : 206]
1- أن هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات يأنف أن يؤمر بتقوى الله؛ لقوله تعالى: { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } فهو يأنف، كأنه يقول في نفسه: أنا أرفع من أن تأمرني بتقوى الله عزّ وجلّ؛ وكأن هذا الجاهل تعامى عن قول الله تعالى لأتقى البشر: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [الأحزاب: 1] ؛ وقال تعالى في قصة زينب: { وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [الأحزاب: 37] .
2- ومنها: البلاغة التامة في حذف الفاعل في قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ }؛ ليشمل كل من يقول له ذلك؛ فيكون رده لكراهة الحق.
3- ومنها: التحذير من رد الناصحين؛ لأن الله تعالى جعل هذا من أوصاف هؤلاء المنافقين؛ فمن رد آمراً بتقوى الله ففيه شبه من المنافقين؛ والواجب على المرء إذا قيل له: « اتق الله » أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» تعظيماً لتقوى الله.
4- ومنها: أن الأنفة قد تحمل صاحبها على الإثم؛ لقوله تعالى: { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ }.
5- ومنها: أن هذا العمل موجب لدخول النار؛لقوله تعالى:{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ }.
6- ومنها: القدح في النار، والذم لها؛ لقوله تعالى: { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }؛ ولا شك أن جهنم بئس المهاد.[ الأنترنت – موقع الآجري - قال الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في فوائد الآية:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة : 206] ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*"أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب "
قال الطبري: القول في تأويل قوله تعالى ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب } فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : أولئك لهم نصيب مما كسبوا هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الإسلام ، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء ، فإن دعاء المؤمن عبادة ، وقيل : يرجع أولئك إلى الفريقين ، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه ، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا ، وهو مثل قوله تعالى : ولكل درجات مما عملوا .
الثانية : قوله تعالى : والله سريع الحساب من سرع يسرع - مثل عظم
يعظم - سرعا وسرعة ، فهو سريع . " الحساب " : مصدر كالمحاسبة ، وقد يسمى المحسوب حسابا ، والحساب العد ، يقال : حسب يحسب حسابا وحسابة وحسباناوحسبانا وحسبا،أي عد،وأنشد ابن الأعرابي :
يا جمل أسقاك بلا حسابه سقيا ****مليك حسن الربابه قتلتني بالدل والخلابه
ولهذا قال وقوله الحق : وكفى بنا حاسبين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم منزل الكتاب سريع الحساب الحديث ، فالله جل وعز عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل ، إذ قد علم ما للمحاسب وعليه ; لأن الفائدة في الحساب علم حقيقته ، وقيل : سريع المجازاة للعباد بأعمالهم وقيل : المعنى لا يشغله شأن عن شأن ، فيحاسبهم في حالة واحدة ، كما قال وقوله الحق : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . قال الحسن : حسابه أسرع من لمح البصر ، وفي الخبر إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ، وقيل : هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق ، وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ قال : كما يرزقهم في يوم ! ، ومعنى الحساب : تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم ، وتذكيره إياهم بما قد نسوه ، بدليل قوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه ، وقيل : معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب ، فالمقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة .
قلت : والكل محتمل فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة ، وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا
الثالثة : قال ابن عباس في قوله تعالى : أولئك لهم نصيب مما كسبوا هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره ، فيكون له ثواب ، وروي عنه في هذه الآية أن رجلا قال : يا رسول الله ، مات أبي ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي . قال نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى . قال : فهل لي من أجر ؟ فأنزل الله تعالى : أولئك لهم نصيب مما كسبوا يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت . قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه : قول ابن عباس نحو قول مالك ; لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة ، والحجة للحاج ، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله ، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه ; ولهذا قلنا : لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج ; لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد ، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا . ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه ، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه ، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه .
[الأنترنت – موقع إسلام ويب - تفسير الطبري » تفسير سورة البقرة » القول في تأويل قوله تعالى "أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة والثمانون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا }39 الأحزاب
قال ابن كثير : يمدح تبارك وتعالى { الذين يبلغون رسالات اللّه}
أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها { ويخشونه} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات اللّه تعالى { وكفى باللّه حسيباً} أي وكفى اللّه ناصراً ومعيناً، وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي اللّه عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي اللّه عنهم وأرضاهم، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر اللّه فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول اللّه: ما يمنعك أن تقول منه، فيقول رب خشيت الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى) ""أخرجه أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري"". وقوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي اللّه عنها فماتوا صغاراً، وولد له صلى اللّه عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له صلى اللّه عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي اللّه عنهم أجمعين، فمات في حياته صلى اللّه عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي اللّه عنها حتى أصيبت به صلى اللّه عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر، وقوله تعالى: { ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليماً} فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة. وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) ""أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح"". حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي) قال فشق ذلك على الناس فقال: ( ولكن المبشرات) قالوا: يا رسول اللّه وما المبشرات؟ قال: (رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة) ""أخرجه أحمد والترمذي"". حديث آخر: روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها الإ موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) ""أخرجه الطيالسي ورواه البخاري ومسلم والترمذي بنحوه"".
حديث آخر: عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو اللّه تعالى به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي) ""أخرجاه في الصحيحين عن طريق الزهري"".
فمن رحمة اللّه تعالى بالعباد إرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال، ضال مضل
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا }39 الأحزاب
قال الطبري
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَات اللَّه وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّه وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : سُنَّة اللَّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْل مُحَمَّد مِنْ الرُّسُل , الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَات اللَّه إِلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ , وَيَخَافُونَ اللَّهَ فِي تَرْكهمْ تَبْلِيغَ ذَلِكَ إِيَّاهُمْ , وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّه , فَإِنَّهُمْ إِيَّاهُ يَرْهَبُونَ إِنْ هُمْ قَصَّرُوا عَنْ تَبْلِيغهمْ رِسَالَةَ اللَّه إِلَى مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ . يَقُول لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد : فَمِنْ أُولَئِكَ الرُّسُل الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتهمْ , فَكُنْ وَلَا تَخْشَ أَحَدًا إِلَّا اللَّه , فَإِنَّ اللَّهَ يَمْنَعك مِنْ جَمِيع خَلْقه , وَلَا يَمْنَعك أَحَد مِنْ خَلْقه مِنْهُ , إِنْ أَرَادَ بِك سُوءًا . " وَالَّذِينَ " مِنْ قَوْله : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَات اللَّه } خَفَضَ رَدًّا عَلَى " الَّذِينَ " الَّتِي فِي قَوْله : { سُنَّةَ اللَّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا } ,
وَقَوْله : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَكَفَاك يَا مُحَمَّد بِاللَّهِ حَافِظًا لِأَعْمَالِ خَلْقه , وَمُحَاسِبًا لَهُمْ عَلَيْهَا.
وقال القرطبي
قوله تعالى: { سنة الله في الذين خلوا من قبل} هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة. أعلمهم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحله لهم، أي سن لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سنة الأنبياء الماضية، كداود وسليمان. فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية. وذكر الثعلبي عن مقاتل وابن الكلبي أن الإشارة إلى داود عليه السلام، حيث جمع الله بينه وبين من فتن بها. و { سنة} نصب على المصدر، أي سن الله له سنة واسعة و { الذين خلوا} هم الأنبياء، بدليل وصفهم بعد بقوله: { الذين يبلغون رسالات الله} .[الأنترنت – موقع {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا }39 الأحزاب]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الواحدة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }(الإسراء - 14)
ورد في التفسير الميسر : يقال له: اقرأ كتاب أعمالك، فيقرأ، وإن لم يكن يعرف القراءة في الدنيا، تكفيك نفسك اليوم محصية عليك عملك، فتعرف ما عليها من جزاء. وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسِبْ نفسك، كفى بها حسيبًا عليك.
وقال السعدى : يقال له:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
وقال الطنطاوي : بين - سبحانه - ما يخاطب به الإِنسان بعد أن فتح كتابه أمامه،فقال تعالى ( اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً ) .
أى : ويقال له بعد أن وجد كتابه منشورا أمامه ، اقرأ كتابك هذا ،
وما اشتمل عليه من أعمال صدرت عنك فى الدنيا ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .أى : محاسبا ، كجليس بمعنى مجالس ، أو حاسبا وعادًّا كصريم بمعنى صارم يقال حسب فلان على فلان قوله ، إذا عده عليه . ولفظ ( كفى ) هنا لازم ، ويطرد فى هذه الحالة جر فاعله بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية و ( حسيبا ) تمييز ، وعليك متعلق به . وتارة يأتى لفظ ( كفى ) متعديا ، كما فى قوله - تعالى - : ( وَكَفَى الله المؤمنين القتال ).
البغوى : اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
( اقرأ كتابك ( أي : يقال له : اقرأ كتابك . قوله تعالى : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( محاسبا . قال الحسن : لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك . قال قتادة : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا .
وقال ابن كثير : أي : إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت ؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي .
وقوله [ تعالى ] ( ألزمناه طائره في عنقه ) إنما ذكر العنق ؛ لأنه عضو لا
نظير له في الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال الشاعر : اذهب بها اذهب بها *** طوقتها طوق الحمامة
قال قتادة ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوى ولا طيرة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " . كذا رواه ابن جرير .
وقد رواه الإمام عبد بن حميد ، رحمه الله ، في مسنده متصلا فقال : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر [ رضي الله عنه ] قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " طير كل عبد في عنقه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني يزيد : أن أبا الخير حدثه : أنه سمع عقبة بن عامر [ رضي الله عنه ] يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه ، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا ، عبدك فلان ، قد حبسته ؟ فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله ، حتى يبرأ أو يموت " .إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه .
وقال معمر ، عن قتادة : ( ألزمناه طائره في عنقه ) قال : عمله . ( ونخرج له يوم القيامة ) قال : نخرج ذلك العمل ( كتابا يلقاه منشورا ) قال معمر : وتلا الحسن البصري ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ) [ ق : 17 ] يا ابن آدم ، بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) قد عدل - والله - عليك من جعلك حسيب نفسك . هذا من حسن كلام الحسن ، رحمه الله .
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*حظ المؤمن من اسم الله "الحسيب"
لا مفر من حساب الله:
الله لا يشغله حساب أحد عن أحد، فأنت حينما كنت تلميذا تنتظر حساب معلمك لك وتصغى بأذنك لصوته وهو ينادي أسماء من حولك، تقول في نفسك لعل الوقت ينتهى وأنجو من هذه المواجهه، لعله ينشغل مع تلميذ قبلي، وتظل تحدث نفسك وتنظر في الوقت منتظرا الجرس، وهكذا إلى أن يصل دورك أو أن تنجو..
الله سبحانه وتعالى لا يشغله حساب أحد عن أحد ولن يكون هناك دور تنتظر فيه ولن يكون هناك مفر من هذا الحساب، الكل سيحاسب وبدقة شديدة عن كل صغيرة وكبيرة، قال جلّ في علاه :{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر : 17] وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى.
إن الحسيب معناه الكافي انظر إلى هذا الدعاء الجميل الذي نردده كثيرا لكن نحتاج أن نستشعره بقلوبنا، في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-حين ألقي في النار وقالها محمّد -صل الله عليه وسلم - حين قالوا{ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ( آل عمران173)" (صحيح البخاري)
ما أحبّ هذا الدعاء إلى القلوب "حسبنا الله" تشعر بها بالسكينة على قلبك، الله يكفيني، يكفي قلبي فلا أقلق ولا أنزعج ولا أرتاب ولا تصيبني من جرّاء الخوف أي إساءة ولا أي إشكال كيف وقد أنزل ربي سبحانه وتعالى على قلبي برد الرضا فصرت ساكناً هادئاً مرتاحاً.
كل هذا حين تقول : "حسبي الله" فيكفيك..قد تبتلى ولكن هذا البلاء لا يؤثر على نفسيتك فلا تشعر به بلاءا وقد قلت هذا كثيراً، وقد يحدث العكس فالبعض يُبتلى فيعيش في البلاء دون أن يمسّه البلاء، يكون دائما خائفا، تحدّثه نفسه: سوف يحدث كذا، سأفقد فلانا، سأخسر صفقة، سأتعرض لحادث..فتصيبه الأمراض النفسية والقلق والإكتئاب والمشاكل من دون أن يمسه شيء، أو يحدث له أي مشكلة.
إنما المؤمن موقفه حيال هذه الإبتلاءات { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فزادهم إيمانا} فلم يقعوا في شراك شرك الخوف بل اعتمدوا على ربهم ، السيّد الذي لا يعتمد إلا عليه سبحانه ..{ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }، فكان هذا الرزق العميم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } وجاءت "فضل" نكرة في سياق الاثبات على اعتبار أن تكون مطلقة. وكان يمكن أن يقول فانقبلوا "بنعمة وفضل" لكن أضاف من الله لكي يشعر قيمة هذه النعمة، فهى نعمة خاصة جدا مميزة جدا { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي كل سوء، سواء كان هذا السوء مشاكل نفسية سواء كانت ابتلاءات تصيبه بأذى في جسده أو بأذى في نفسيته أو في أهله في ماله، لم يقربه أدنى شئ {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم } فرضى عنهم ربهم فأرضاهم ولا شك هذا هو الفوز العظيم
إذاً فمن حظ المؤمن أن يستشعر أن الله الحسيب هو الذي يكفيه لا غنىً له عنه بل لا يتصور العبد حياته دون ربه، فيديم اتصاله به ويديم افتقاره له ويتجسد ذلك في دوام الدعاء.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
*{ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }(الإسراء - 14)
ويشير العلماء هنا إلى معنى دقيق من معانى الكفاية: فيقولون هل احتياج الإنسان لملاذ الحياة يقدح في شعوره بكفاية الله له؟ فأنت إذا احتجت إلى طعام وشراب وإلى شمس وإلى أرض وإلى مسكن وإلى زوجة وسعيت في تحصيل ذلك هل هذا يقدح في فهمك بأن الله هو كافيك؟
فقالوا: الكفاية حصلت بهذه الأسباب لكن الله وحده المتفرد بخلقها للعبد فهذا لا يُسمى في الاعتبار إنشغالاً عن الله إلا إذا كان هذا قاطعاً عن الله، يعنى العبد إذا خرج من بيته ليعمل متوكلا على الله سائلا منه الرزق والفتح موقن بأن الله هو الفتاح الرزاق يختلف عن عبد آخر خرج مشغولا بالأسباب ناسيا للاستعانة معتمدا على عقله وحوله وقوته ومهارته فيأبى الله عزّ وجل إلا أن ينقض عزيمته ولا يحصل مراده، بل وقد يُفتن. إذاً فمتى استعان فلا قدح في سعيه إلا أن يتعلّق بالأسباب دون مسببها.
" حسبنا الله ونعم الوكيل " ما حقها منك؟:
أعني ذلك الرجل الذي وقف معك ذلك الموقف وقت ضعفك فحفظك وأمنك ونصرك على ظروفك، بماذا ستقابل فعله هذا معك ؟ لعلك تريد أن تقبّل يديه وقدميه أو تفعل له أي جميل وخدمة جزاء وقوفه بجانبك في شدتك.
فحق هذه الآية الجميلة، قول الله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 36] أن يكون ردك : بلى يارب ومن يكفيني غيرك؟ يقولها قلبك فتشعر بلذة تودده إليك وقربه منك، فتزداد بدورك حبا وقربا له سبحانه.
لاشك أن المعنى الثالث :الذي ينبغي أن نتوقف عنده ملياً في اسم الله تعالى الحسيب هي مسألة المحاسبة : وضع العلماء للمحاسبة شروطاً وأركاناً ينبغي أن نفقهها.
أول الأمر : أن يكون الإنسان دائماً أبداً محاسباً لنفسه " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فمن حاسب نفسه بدقه في حياته خُفّف عليه من الحساب يوم القيامة.
يقول الله سبحانه وتعالى :{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى،وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل : 5، 6،7] فيكون حسابه يسيراً وهو مجرد العرض كما أخبر النبيّ صلّ الله عليه وسلم. فلا يمر بك يوم دون أن تنظر أين أنت من الطريق ؟ هل تقدمت أم تأخرت ؟
وقد تسأل الآن: على أي شيئ أحاسب نفسي؟
- حاسبها كما يحاسبك ربك، إبدأ أولاً بالأمور العظام الكبار وانظر فيها فإن وجدتها خفيفة عندك فاعلم أن هذا وزنك، يعني ماشأن الصلوات عندك؟ عظيمة هي عند الله، ما شأنها عندك وما وزنها ؟هل هي عظيمة في قلبك ؟
ماذا عن انظر أخلاقك وسلوكياتك ! فالأخلاق عظيمة عند الله..ألم يأتي في الحديث "الرجل يدرك بحسن خلقه منزلة الصائم القائم" فهل للأخلاق مكانة عندك..؟
وهكذا سل نفسك كثيراً هذه الأسئلة، ابدأ بالعظام من الأعمال عند الله ثم تدرج شيئا فشيئا إلى أن تصل بالمحاسبة إلى خطرات النفوس.
فمثلا تضع جدولا أسبوعيا للمحاسبة ولو ابتداءا لكي تضبط أمورك، فتحاسب نفسك مثلا على إدراك تكبيرة الإحرام، وتحدد مدة للثبات أسبوعين أوثلاثة حتى ينضبط حالك في هذا الأمر، ثم تركز على غيره.
وهكذا تتدرج في الأقل فالأقل، فتبحث عن الأعمال التي لم تفعلها من قبل إذ يجب ان تضرب فيها بسهم، وضع لك قائمة بمثل هذه الأعمال تراجعها كل فترة لتعرف أي الأبواب لم تدقها بعد فتسعى لها. هذا مثال للمحاسبة على الأوامر
- كذلك تحاسب نفسك على النواهي، فتعرف ما الكبائر التي تقع فيها فتسارع في التوبة والإقلاع عنها لعل الله يكفر عنك ما سواها، قال الله عزّ وجلّ :{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}..
واحذر من بعض الكبائر المغفول عنها، كالغيبة والكبر والعجب وآفات النفوس بشكل عام، ويساعدك في هذا كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيثمي، فأنصحك بطبعة محققة له تعينك. تقرأ فيه وتحاسب نفسك على كل كبيرة من هذه الكبائر وتسعى للتنزه منها، حتى تصل إلى باقي الذنوب واللمم الأخرى.
وأقول لك استعن وابدأ وتدرج، وكل أسبوع خصص له أمرا ونهيا تحاسب نفسك عليه، أو أكثر إن استطعت إلى أن يصل بك الأمر إلى أن تحاسب نفسك على الكلمة، " إن الرجل ليتفوه بالكلمة لا يعطي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا " فتصبح الكلمة عندك بميزان، وهذه أحوال المحسنين، أحوال عباد الله تعالى المقربين إلى الله.
واعلم أنك لو فعلت هذا سيتبين لك أنك لا تعمل إلا على عدة ذنوب مكررة لا تحاسب نفسك إلا عليها، وسيتكشف لك أمور أعظم وأخطر أنت غافل عنها تماما، مما يجعلك على خطر عظيم. فغالبا ما تجد الشباب لا يؤرقه إلا ذنوب مثل إطلاق البصر، العادة السرية، مقدمات الزنا بشكل عام من حب وعشق محرم وغيره. وهو يرتكب أمور أشد وأخطر لكنه لا يعتبرها ذنباً أو غافل عن خطرها..فأنت في حاجة شديدة لتفقد ذلك.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
فلشدة الحاجة إلى التقوى ولعظم شأنها، ولكون كل واحد منا، بل كل واحد من المسلمين في أشد الحاجة إلى التقوى والاستقامة عليها، رأيت أن أكتب فيها كلمة موجزة عسى الله أن ينفع بها المسلمين فأقول: كل من تدبر موارد التقوى في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، علم أنها سبب كل خير في الدنيا والآخرة.
فأنت يا عبد الله إذا قرأت كتاب ربك من أوله إلى آخره، تجد التقوى رأس كل خير، ومفتاح كل خير، وسبب كل خير في الدنيا والآخرة، وإنما تأتي المصائب والبلايا والمحن والعقوبات بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها، فالتقوى هي سبب السعادة والنجاة وتفريج الكروب والعز والنصر في الدنيا والآخرة.
ولنذكر في هذا آيات من كتاب الله، ترشد إلى ما ذكرنا، من ذلك قوله جل وعلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] قال بعض السلف: هذه الآية أجمع آية في كتاب الله، أو قال: من أجمع آية في كتاب الله، وما ذاك إلا لأن الله رتب عليها خير الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله جعل له مخرجا من مضائق الدنيا ومضائق الآخرة، والإنسان في أشد الحاجة، بل في أشد الضرورة إلى الأسباب التي تخلصه من المضائق في الدنيا والآخرة، ولكنه في الآخرة أشد حاجة وأعظم ضرورة، وأعظم الكربات وأعظم المضائق كربات يوم القيامة، وشدائدها، فمن اتقى الله في هذه الدار فرج الله عنه كربات يوم القيامة، وفاز بالسعادة والنجاة في ذلك اليوم العظيم العصيب، فمن وقع في كربة من الكربات فعليه أن يتقي الله في جميع الأمور، حتى يفوز بالفرج والتيسير، فالتقوى باب لتفريج كربة العسر وكربة الفقر وكربة الظلم وكربة الجهل وكربة السيئات والمعاصي وكربة الشرك والكفر إلى غير ذلك، فدواء هذه الأمور وغيرها أن يتقي الله بترك الأمور التي حرمها الله ورسوله، وبالتعلم والتفقه في الدين حتى يسلم من داء الجهل، وبالحذر من المعاصي والسيئات حتى يسلم من عواقبها في الدنيا والآخرة.
فالسيئات لها عواقب في الدنيا من عقوبات قدرية، أو عقوبات شرعية،
من الحدود والتعزيرات والقصاص، ولها عقوبات في الآخرة، أولها عذاب القبر، ثم بعد الخروج من المقابر بعد البعث والنشور عقوبات وشدائد يوم القيامة، ومن عقوباتها أيضا أن الإنسان يخف ميزانه بسبب إضاعة التقوى ويرجح ميزانه بسبب استقامته على التقوى، ويعطى كتابه بيمينه إذا استقام على التقوى، وبشماله إذا انحرف عن التقوى، ويدعى إلى الجنة إذا استقام على التقوى، ويساق إلى النار إذا ضيع التقوى، وخالف التقوى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والإنسان محتاج أيضا إلى الرزق الحلال الطيب في هذه الدار، وإلى النعيم المقيم في الآخرة، وهو أحسن نعيم وأعظم النعيم ولا نعيم فوقه، ولا طريق إلى ذلك ولا سبيل إلا بالتقوى، فمن أراد عز الدنيا والرزق الحلال فيها، والنعيم في الآخرة، فعليه بالتقوى.
والإنسان محتاج إلى العلم، والبصيرة والهدى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] والفرقان كما قال أهل العلم: هو: النور الذي يفصل به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. الاجتهاد في طلب العلم والتفقه في الدين من جملة التقوى، وبذلك يحصل النور والهدى، وهما الفرقان. فالتقوى كلمة جامعة حقيقتها الإيمان والعمل الصالحولا يخفى على من تأمل أن الاجتهاد في طلب العلم والتفقه في الدين من جملة التقوى، وبذلك يحصل النور والهدى، وهما الفرقان. فالتقوى كلمة جامعة حقيقتها الإيمان والعمل الصالح كما قال الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [لقمان:8] وكما قال عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواا يَعْمَلُونَ [النحل:97] فالتقوى حقيقتها إيمان صادق بالله ورسوله، وبما أخبرت به الرسل عما كان وعما يكون، ثم عمل صالح وهو مقتضى الإيمان وموجبه، ومن ذلك التعلم والتفقه في الدين وهما من التقوى كما تقدم ولذلك رتب الله على التقوى الفرقان، لأن من شعبها التعلم والتفقه في الدين والتبصر في ما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
* {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
فالإنسان قد تضيق أمامه الدروب وتسد في وجهه الأبواب في بعض حاجاته، فالتقوى هي المفتاح لهذه المضائق وهي سبب التيسير لها، كما قال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4] وقد جرب سلفنا الصالح وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، كما جرب قبلهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله لهداية البشر، وحصلوا بالتقوى على كل خير، وفتحوا بها باب السعادة وانتصروا بها على الأعداء، وفتحوا بها القلوب، وهدوا بها البشرية إلى الصراط المستقيم.
وإنما حصلت لهم القيادة للأمم والذكر الجميل والفتوحات المتتابعة بسبب تقواهم لله، وقيامهم بأمره، وانتصارهم لدينه، وجمع كلمتهم على توحيده وطاعته، كما أن الناس في أشد الحاجة إلى تكفير السيئات وحط الخطايا وغفران الذنوب وسبيل هذا هو التقوى، كما قال عز وجل: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29] وقال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5] ومن أعظم الأجر الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهكذا المسلمون في أشد الحاجة إلى النصر على أعدائهم والسلامة من مكايد الأعداء ولا سبيل إلى هذا إلا بالتقوى، كما قال عز وجل: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
فالمسلمون إذا صبروا في طاعة الله وفي جهاد أعدائه واتقوا ربهم في ذلك بإعداد العدة المستطاعة: البدنية والمالية والزراعية والسلاحية وغير ذلك، نصروا على عدوهم. لأن هذا كله من تقوى الله، ومن أهم ذلك إعداد العدة المستطاعة من جميع الوجوه، كالتدريب البدني والمهني والتدريب على أنواع الأسلحة، ومن ذلك إعداد المال وتشجيع الزراعة والصناعة وغير ذلك مما يستعان به على الجهاد، والاستغناء عما لدى الأعداء، وكل ذلك داخل في قوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ولا يتم ذلك إلا بالصبر.
والصبر من أعظم شعب التقوى وعطفها عليه في قوله سبحانه: وَإِنْْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:120] من عطف العام على الخاص، فلابد من صبر في جهاد الأعداء، ولابد من صبر في الرباط في الثغور، ولابد من صبر في إعداد المستطاع من الزاد والبدن القوي المدرب، كما أنه لابد من الصبر في إعداد الأسلحة المستطاعة التي تماثل سلاح العدو أو تفوقه حسب الإمكان، ومع هذا الصبر لابد من تقوى الله في أداء فرائضه وترك محارمه والوقوف عند حدوده والانكسار بين يديه والإيمان بأنه الناصر وأن النصر من عنده لا بكثرة الجنود ولا بكثرة العدة ولا بغير ذلك من أنواع الأسباب، وإنما النصر من عنده سبحانه وإنما جعل الأسباب لتطمين القلوب وتبشيرها بأسباب النصر، كما قال جل وعلا: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10] الآية وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] وقال عز وجل: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40، 41] الآية.
وهذه الأعمال من شعب التقوى، وبهذا يعلم معنى قوله سبحانه: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120] فإذا أراد المسلمون النصر والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة وتفريج الكروب وتيسير الأمور وغفران الذنوب وتكفير السيئات والفوز بالجنات إلى غير هذا من وجوه الخير فعليهم بتقوى الله عز وجل، والله وصف أهل الجنة بالتقوى فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الذاريات:15] وقال عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17] وقال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34] فبين سبحانه أنه أعد الجنة لأهل التقوى، فعلمت يا أخي أنك في أشد الحاجة إلى أن تتقي ربك، ومتى اتقيته سبحانه حق التقوى فزت بكل خير ونجوت من كل شر، وليس المعنى أنك لا تبتلى، بل قد تبتلى وتمتحن، وقد ابتلي الرسل وهم أفضل الخلق وأفضل المتقين حتى يتبين للناس صبرهم وشكرهم وليقتدي بهم في ذلك، فبالابتلاء يتبين صبر العبد وشكره ونجاته وقوته في دين الله عز وجل، كما قال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]
وقال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السادسة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان :
* {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
فلا بد من الامتحان والفتنة كما تقدم، وكما قال جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] وقال سبحانه: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] وقال سبحانه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168] فالاختبار لابد منه، فالرسل وهم خير الناس امتحنوا بأعداء الله. نوح ما جرى عليه من قومه وهكذا هود وصالح وغيرهم وعلى رأسهم نبينا محمد ﷺ خاتم النبيين وإمام المتقين وأفضل المجاهدين ورسول رب العالمين، قد علم ما أصابه بمكة وفي المدينة وفي الحروب، ولكنه صبر صبرا عظيما حتى أظهره الله على أعدائه وخصومه، ثم ختم له سبحانه وتعالى بأن فتح عليه مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما أتم الله النعمة عليه وعلى أمته وأكمل لهم الدين اختاره إلى الرفيق الأعلى وإلى جواره عليه الصلاة والسلام بعد المحنة العظيمة والصبر العظيم والبلاء الشديد، فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم أو يقول متى كنت متقيا أو مؤمنا فلا يصيبني شيء ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان، ومن صبر حمد العاقبة، كما قال الله جل وعلا: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى، متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس، فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فأنت يا عبد الله في أشد الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى ما جرى من الامتحان، ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالي، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم
ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر فإن قلت ما هي التقوى؟ فقد سبق لك شيء من بيانها، وقد تنوعت عبارات العلماء في التقوى، وروي عن عمر بن عبدالعزيز أمير المؤمنين رضي الله عنه ورحمه أنه قال: (ليس تقوى الله بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء فرائض الله وترك محارمه، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير) ا. هـ. فمن رزق بعد أداء الفرائض وترك المحارم نشاطا في فعل النوافل وترك المكروهات والمشتبهات فهو خير إلى خير.
وقال طلق بن حبيب التابعي المشهور رحمه الله: (تقوى الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تدع معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله) وقال بعضهم في تفسيرها التقوى طاعة الله ورسوله، وقال آخرون: التقوى: أن تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيك ذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، وكل هذه العبارات معانيها صحيحة ، فالتقوى حقيقتها هي : دين الإسلام، وهي : الإيمان والعمل الصالح، وهي: العلم النافع والعمل به، وهي: الصراط المستقيم، وهي: الاستسلام لله والانقياد له جل وعلا بفعل الأوامر، وترك النواهي عن إخلاص كامل له سبحانه وعن إيمانه به ورسله، وعن إيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، إيمانا صادقا يثمر أداء الخير والحذر من الشر والوقوف عند الحدود، وإنما سمى الله دينه تقوى لأنه يقي من استقام عليه عذاب الله وغضبه، ويحسن لربه العاقبة جل وعلا، وسمى هذا الدين إسلاما، لأن المسلم. يسلم نفسه لله وينقاد لأمره، يقال أسلم فلان لفلان أي انقاد له، ولهذا سمى الله دينه إسلاما في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] وغيرها من الآيات، لأن المسلم انقاد لأمر الله وذل لعظمته، فالمسلم حقا ينقاد لأمر الله، ويبتعد عن نهيه ويقف عند حدوده، قد أعطى القيادة لربه فهو عبد مأمور، رضاه وأنسه ومحبته ونعيمه في امتثال أمر الله وترك نهيه، هذا هو المسلم الحق.
ولهذا قيل له مسلم، يعني منقادا لأمر الله تاركا لمحارمه واقفا عند حدوده، يعلم أنه عبد مأمور عليه الامتثال، ولهذا سمي الدين عبادة كما سمي إسلاما، سمي عبادة كما في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21] وفي قوله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فسمي عبادة. لأن العباد يؤدون أوامر الله ويتركون نواهيه عن ذل وخضوع وانكسار، وعن اعتراف بالعبودية وأنهم مماليك لله وأنه سيدهم، وأنه القاهر فوقهم، وأنه العالم بأحوالهم وأنه المدبر لشؤونهم، فهم عبيد مأمورون ذليلون منقادون لأمره سبحانه وتعالى، فلهذا سمى الله دينه عبادة؛ لأن العبادة عند العرب هي: التذلل والخضوع والانكسار، يقولون طريق معبد، يعني مذلل قد وطأته الأقدام.
ويقولون أيضا: بعير معبد، يعني قد شد ورحل حتى ذل للركوب والشد عليه، فسميت طاعاتنا لله عباده؛ لأننا نؤديها بالذل والخضوع لله جل وعلا، وسمي العبد عبدا، لأنه ذليل بين يدي الله مقهور مربوب للذي خلقه وأوجده، وهو المتصرف فيه سبحانه وتعالى.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
وسمي هذا الدين إيمانا
وسمي هذا الدين أيضا إيمانا؛ لأن العباد يؤدونه عن إيمان بالله وتصديق به ورسله، فلهذا سمي دين الله إيمانا لهذا المعنى كما في الحديث الصحيح من قول النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن الدين كله إيمان وأن أعلاه قول لا إله إلا الله، فعلمنا بذلك أن الدين كله عند الله إيمان، ولهذا قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72] فسماهم بذلك، لأنك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر تؤدي أعمالك وطاعتك وتترك المحارم عن إيمان وتصديق بأن الله أمرك بذلك ونهاك عن المحارم وأنه يرضى منك هذا العمل ويثيبك عليه وأنه ربك ولم يغفل عنك وأنت تؤمن بهذا، ولهذا فعلت ما فعلت فأديت الفرائض وتركت المحارم ووقفت عند الحدود وجاهدت نفسك لله عز وجل. سُمِّي الدين برًّا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمالوسمى الدين برًّا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمالسُمِّي الدين برًّا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمالوسمى الدين برًّا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمال، لأن الله بعث نبيه ﷺ ليكمل مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: إنما بعثت لأتممم مكارم الأخلاق وفي حديث أنيس أخي أبي ذر قال: سمعت رسول الله ﷺ يدعو إلى مكارم الأخلاق فهذا الدين سمي هدى، لأنه يهدي من استقام عليه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] وقال في أهله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5] وقال في أهله أيضا: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] وبهذا تعلم يا أخي معنى هذه الألفاظ (الإسلام)، (الإيمان) (التقوى)، (الهدى) (البر): العبادة، إلى غير ذلك.
وتعلم أيضا أن هذا الدين الإسلامي قد جمع الخير كله فمن استقام عليه وحافظ عليه وأدى حقه وجاهد نفسه بذلك فهو متق لله، وهو موعود بالجنة والكرامة، وهو موعود بتفريج الكروب وتيسير الأمور، وهو الموعود بغفران الذنوب وحط الخطايا، وهو الموعود بالنصر على الأعداء والسلامة من مكائدهم إذا استقام على دين الله وصبر عليه وجاهد نفسه لله وأدى حق الله وحق عباده، فهذا هو المتقي وهو المؤمن، وهو البر، وهو المفلح، وهو المهتدي والصالح، وهو المتقي لله عز وجل، وهو المسلم الحق.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للتقوى، وأن يأخذ بأيدينا جميعا لما يرضيه وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين ومن حزبه المفلحين، وأن يمن علينا بالاستقامة على تقواه في كل أقوالنا وأعمالنا والدعوة إلى ذلك والصبر عليه إنه سبحانه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين
[نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد الثاني السنة التاسعة ذو الحجة سنة ١٣٩٦ هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 2/ 283). [الأنترنت – موقع ابن باز - التقوى سبب كل خير]
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
*{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
لقد ظن الكثير أن عمر الإنسان ورزقه وعمله مكتوب عليه سلفا، والمكتوب جاءت بمعنى المقدر عليه سلفا، وبذلك يصبح الإنسان فاقد الإرادة والخيار له في أعماله وأرزاقه ويصبح الطب والعلاج والعمليات الجراحية بدون معنى وكذلك يصبح دعاء الإنسان لله تعالى ضربا من ضروب العبث واللهو.
أما رأي القرآن فهو غير ذلك، ففي بحثنا عن القرآن والكتاب عرفنا أن فعل “كتب” تعني تجميع الأشياء بعضها إلى بعض لإخراج موضوع معين محدد. ومن هنا جاءت كلمة الكتاب وهو مجموعة المواضيع التي جاءت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وحيا، والتي جمع فيها نبوته ورسالته معاً.
فعندما تأتي لفظة “كتاب” في مواضيع أم الكتاب كقوله: {كتب عليكم الصيام} (البقرة 183). فهذا يعني أن الصوم هو أحد المواضيع التعبدية التي فرضها الله عليكم كما فرضها على الذين من قبلكم، وقوله: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء 103) أي أن الصلاة هي أحد المواضيع التعبدية التي تؤدي في أوقات محددة سلفا، وهي (أي هذا الكتاب “الموضوع التعبدي”) مؤلف من عناصر الطهارة والوضوء والقيام والركوع والسجود…الخ أي أن مجموعة هذه المواضيع بعضها مع بعض تؤلف كتاب الصلاة.
أما عندما تأتي لفظة “كتاب” في القرآن فهي تعني مجموعة الشروط الموضوعية التي إذا اجتمعت بعضها مع بعض يخرج منها ظاهرة موضوعية ما.
هكذا يجب أن نفهم كلمة “كتاب” عندما تأتي في القرآن، فمثلا كتاب الموت هو مجموعة الشروط الموضوعية بحيث إذا اجتمعت بعضها مع بعض “كتبت” وقع الموت لا محالة. وكذلك كتاب النصر وهو مجموعة الشروط الموضوعية التي إذا اجتمعت بعضها مع بعض وقع النصر، وكذلك كتاب الهزيمة.
وعندما حاضت عائشة رضي الله عنها عند خروجها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم “مالك أنفست؟ قالت: نعم. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم”. هنا سمى الدورة الشهرية للمرأة كتابا أي هو إحدى الظواهر الطبيعية للمرأة. وإذا أردنا أن ندرس كتاب الحيض فعلينا أن نراجع الطب النسائي لمعرفة تفاصيل هذا الكتاب.
إن علاقة الإنسان بكتب الطبيعة والتي هي “القدر” هي علاقة دراسة ومعرفة، فكلما زادت معلومات الإنسان عن كتاب الموت استطاع أن يؤجل وقوعه ولكنه لا يلغيه.
بعد هذه المقدمة لندخل إلى صلب البحث:
الفرع الأول: الأعمار:
لنقارن بين الآيتين التاليتين:
{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} (آل عمران 145).
{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء 103).
الآية الأولى في آل عمران هي من القرآن “نبوة” أما الآية الثانية من سورة النساء فهي من أم الكتاب “رسالة” وقلنا إن النبوة فيها قوانين القدر، والرسالة فيها القضاء الإنساني. فعندما قال إن الموت كتاب مؤجل أي إن كتاب الموت هو مجموعة الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى الموت، وإن الموت مؤجل حتى تتحقق شروط هذا الكتاب. وعندما يدرس الإنسان كتاب الموت وتزيد معرفته به يستطيع أن يؤجل هذه الشروط ويطيل الأعمار.
فمثلا عندما تقدم طب الأطفال والنظافة العامة، خفت وفيات الأطفال بشكل ملحوظ وألغيت بعض الأمراض السارية.
وعندما تقدم طب القلب والعمليات الجراحية أصبحت فرص النجاة من أمراض كانت سابقا لا أمل من النجاة منها كثيرة، وهذا ما أدى إلى ارتفاع متوسط الأعمار في هذا المضمار، فكلما زاد تقدم البلد في الطب وفي النظافة وفي تطبيق قواعد السلامة في العمل وفي الحياة العامة، ارتفع متوسط الأعمار فيه، لذا قال عن الموت {كتابا مؤجلا}. أما إذا اجتمعت الشروط الموضوعية التي تؤدي إلى الموت فالأجل لا محالة حاصل،ولذلك قال:{فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف 34).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة والتسعون في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
ولكنه ربط أي أجل بكتاب بقوله: {لكل أجل كتاب} (الرعد 38) أي أن الواقع الحتمي لأي حدث “أجله” لابد أن يسبقه كتاب هذا الحدث وهو مجموعة الشروط الموضوعية التي تؤدي حتما إليه والتي تخضع للدراسة من قبل الإنسان فكلما زادت معرفة الإنسان بالكتب الطبيعية زادت إمكانيته لتسخيرها لمصلحته والمناورة بها وقد خبرنا الله سبحانه وتعالى أن كل شيء له كتاب بقوله: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29)
. أما الآية الثانية من سورة النساء فهي من أم الكتاب وهي من قضاء الإنسان لذا قال عنها أي الصلاة هي من المواضيع التي تؤدي في أوقاتها المحددة والمعروفة سلفا. لذا فإن كتاب الصلاة هو من أم الكتاب وكتاب الموت هو من القرآن فالأول كتاب قضاء والثاني كتاب قدر.
من هذا المنطلق نفهم أن أعمار الإنسان غير ثابتة. بل متغيرة لقوله: {كتابا مؤجلا}. وجاء هذا البلاغ بشكل صريح في قوله تعالى: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} (فاطر 11). لاحظ في هذه الآية كيف صرح أن نقصان العمر أو زيادته لا تكون إلا في كتاب، أي أن هناك مجموعة ما لشروط الموضوعية تؤدي إلى نقصان العمر أو زيادته لا تكون إلا في كتاب، أي أن هناك مجموع من الشروط الموضوعية تؤدي إلى نقصان الأعمار، وأخرى تؤدي إلى زيادتها، وما اختصاص علم الطب إلا في هذه الكتب، وإن الأموال المصروفة على الأبحاث الطبية في العالم لا تصرف هدرا وبدون فائدة لأن هذه الأموال تصرف على البحث في شروط طول العمر وقصره.
أما ما جاء من اللف والدوران في بعض كتب التفسير بأن الضمير في “ينقص من عمره” تعود على شخص آخر فهذا ما لا تحتمله اللغة لأنه لو كان يريد ذلك لقال “ولا ينقص من عمر آخر” ولكن الفكرة المسبقة عن الأعمار وأنها ثابتة أدت إلى هذا المخرج الساذج.
لقد آن لنا نحن المسلمين أن نفهم أن الأعمار غير ثابتة، وآن لأطبائنا أن يفهموا أن الأعمار غير ثابتة ويتحملوا مسؤولياتهم الكاملة تجاه المرضى، وآن للمسؤولين في البلاد العربية والإسلامية أن يفهموا ذلك ويتحملوا مسؤولياتهم تجاه حياة الناس في دولهم.
إن عدم ثبات الأعمار يوضح لنا لماذا كانت عقوبة القاتل هي القتل، لأن القاتل قد نقص من عمر المقتول فكانت عقوبته إنقاص عمره.
وإن عدم ثبات الأعمار يوضح لنا لماذا أعز الله الشهيد وأعطاه المرتبة العالية، لأنه تبرع بأغلى ما عنده وهو الحياة، ولأنه وافق طوعاً على إنقاص عمره في سبيل الله.
وهذا أيضا يبين لنا لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحرص الناس على حياة أصحابه وعلى حياة العرب وكان يعدهم بأجر الشهادة عند الله، ولكنه لم يأمر أحدا منهم بأن يذهب في مهمة انتحارية لقتل نفسه، ونرى هذا أيضاً في تحريم الله تعالى للانتحار بأمره {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء 29). ونرى أيضا كيف أجل الهلاك على قوم يونس بقوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي. في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} (يونس 98).
لنشرح الآن قوله تعالى في الآيات التالية: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} (التوبة 51). إن هذه الآية تفهم في ضوء قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29). هذا يعني أن كل شيء في الطبيعة عبارة عن شروط مجتمعة بعضها مع بعض “كتب”.
فلا يمكن لأي إنسان أن يصيبه شيء غلا من خلال هذه الكتب.
فإذا مرض فإنه لن يمرض إلا بمرض من الأمراض الموجودة في الطبيعة والموجودة ضمن الشروط التي يعيشها، أي تنطبق عليه، لذا وضع {لن يصيبنا}. جمعا ولم يضعها مفردة. -{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهاإن ذلك على الله يسير}(الحديد 22
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} (الحديد 23).
في هاتين الآيتين يتبين أن كل المصائب التي تحصل في الأرض من زراعة
وأملاك وهلاك دول وقيامها والزلازل والمصائب التي تحصل في الأنفس لا تكون إلا في كتاب، أي من خلال الشروط الموضوعية الموجودة فعلا.
ففي حالة الهزيمة مثلا، فهذا يعني ن هناك شروطا موضوعية وجدت نتج عنها الهزيمة “كتاب الهزيمة”، وفي حال النصر يعني وجود شروط موضوعية اجتمعت مع بعضها أدت إلى النصر “كتاب النصر”. وبالتالي فيجب على المنتصر أن لا يفرح بنصره، وعلى المهزوم أن لا ييأس من هزيمته بحيث إذا درسا كتاب النصر وكتاب الهزيمة فيمكن أن يتبادلا الأدوار، فالمنتصر يمكن أن يهزم والمهزوم يمكن أن ينتصر لذا قال: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة ومثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد… إلى أخر الحديث” “انظر صحيح مسلم ج4 ص 2036”
إن قول النبي هذا يبين لنا الأمور التالية:
1 – إن الروح ليس لها علاقة بالحياة لأن المَلك عندما ينفخ الروح في الجنين وهو كائن حي، فالحيوان المنوي كائن حي والبويضة كذلك وبعد اللقاح يحصل التكاثر، وهذه كلها ظواهر كائن حي، أما الروح فهي شيء آخر تماما وليست سر الحياة، كما سبق لنا أن بينا.
2 – بعد أن يتحول الكائن البشري في الرحم إلى كائن إنسان يبدأ التسجيل عليه في ثلاثة فروع:
أ – تسجيل الحياة العضوية أثناء الحياة “تجميع وهذا يعني يكتب”.
ب – تسجيل الأعمال حين وقوعها.
ج – تسجيل الأرزاق حين وقوعها.
وبعد أن يموت ينتهي عمره ورزقه وعمله فيمكن أن يعمل له كشف بأعماله فتظهر نتيجة ذلك الكشف بأنه شقي أم سعيد.
إن هذا الحديث متطابق تماما مع النص القرآني، فقد بينا أن الروح في النص القرآني ليست سر الحياة، وأن أعمال الإنسان في النص القرآني إنما تسجل عليه حين وقوعها لا قبل وقوعها وذلك واضح في قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية 29). وقوله تعالى: {كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} (الانفطار 11 و12) فنحن نعلم أن النسخ لا يكون إلا من أصل، فأصل الأعمال هو أعمالنا نحن، أي النسخة الأصلية لأعمالنا هي أعمالنا حين وقوعها وحين نقوم بها يؤخذ نسخة عنها(صوت وصورة) لذا قال: {ينطق عليكم بالحق).
لقد فهم كثير من الناس هذا الحديث فهما معاكسا تماما حيث ظنوا أن الجنين في بطن أمه يكتب عليه سلفا عمره ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. لقد أخطأوا هنا بفهم كلمة “كتب”.
وقد أكدت الآيات التالية أن الأساس هو أعمالنا والله ينسخها ويجمعها لنا حين وقوعها وذلك في قوله تعالى: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء 94). وقوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} (يونس 21).
وقوله: {كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا} (مريم 79).
هنا لاحظ قوله: (له كاتبون، سنكتب، يكتبون) كلها للدلالة على أن أساس الأعمال هو نحن وتسجل علينا وتجمع وتصنف حين وقوعها.
الفرع الثاني: الأرزاق:
{وفي السماء رزقكم وما توعدون} (الذاريات 22).
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف 31).
{أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون} (الزخرف 32).
لقد ظن الكثير أن أرزاق الناس محددة سلفا.
هذا صحيح إذا فهمناها على معنى الجمع الكلي الاحتمالي وغير صحيح إذا
فهمناها على معنى الإفراد.
فإذا فهمناها على معنى الجمع فهذا يعني أن أرزاق الناس لا تأتي إلا من خيرات الطبيعة ومن العمل هذان هما المصدران الوحيدان للرزق لقوله: {ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون} (يس 35). هنا “ما” اسم موصول بمعنى الذي، أي والذي عملته أيديهم.
أما خيرات الطبيعة من طعام وشراب وأنعام فأساسها الماء لذا سمي ماء المطر “الرزق” لقوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من ا لسماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية 5). لاحظ كيف سمى الماء من السماء رزقا، أما قوله: {وما توعدون}. بمعنى والذي توعدون، فإن كل وعود رب العالمين تأتي من السماء لقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} (السجدة 5).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الواحدة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
أما قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا…الآية}. فهذه الآية تعطينا قواعد التنظيم الاجتماعي المتحضر بأن الناس تمارس عملا واحدا في معاشها فهناك مجال الزراعة وهناك مجال الصناعة وهناك مجال الخدمات، كل هذه الأعمال هي مجالا لحياة ولا خروج عنها لذا قال: {قسمنا بينهم معيشتهم}.
وهنا جاء مفهوم التسخير: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}. فالذي يزرع مسخر لإطعام الذي يعمل في المصانع والطبيب مسخر لكي يعالج العامل والفلاح، والعامل مسخر لكي ينتج للفلاح والطبيب، والمعلم مسخر لكي يعلم أبناء هؤلاء… وهكذا دواليك حيث لا يمكن لأي تجمع حضاري متقدم أن يعيش إلا على أساس تخصص المهن وطرق المعاش بحيث أن كل صاحب عمل مسخر لخدمة الباقين، وقد أكدنا أن التسخير لا يكون دون مقابل أي أن السخرة هي عمل له مقابل لذا قال: {ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}.
أي أن هذه الآية ليس لها علاقة بالتحديد المسبق لأرزاق الأفراد كل على حدة. أما التحديد المسبق للرزق فهو الطبيعة وخيراتها وعمل الإنسان ثم إنه في عمل الإنسان هناك القسمة في المهن بين الناس التي تعتبر قانونا لا مناص منه.
أما قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا…الآية} (الطلاق 2)، {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} (الطلاق 3). فعلينا هنا أن نُعرف التقوى أولا، فالتقوى الاجتماعية هي اتباع وصايا أم الكتاب حصرا. {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153).
هذه هي الوصية العاشرة في الفرقان. فعندما يتبع الإنسان الوصايا فإن الله يسهل له عمله ورزقه ولكن هذا التسهيل لا يكون إلا من خلال الكتب أي من خلال الشروط الموضوعية التي يعيشها هذا الإنسان لا من خراجها أي من خلال المقدرات الموجودة فعلا، لذا أنهى الآية بأهم شرط بقوله {قد جعل الله لكل شيء قدرا}. فإذا أراد الله أن يرزق إنسانا يعمل في حقل الهندسة المدنية “كتاب الهندسة” فلا يرزقه من حقول القمح والبطاطا إلا إذا غير مهنته إلى حقل الزراعة “كتاب الزراعة”. أي عندما يريد الله سبحانه وتعالى أن يرزق إنسانا ما يجعل كل الظروف الموضوعية التي يعيشها تعمل لصالحه. والله أعلم.
الفرع الثالث: الأعمال:
ما هي الأعمال؟ وهل أعمال الإنسان مقدرة عليه سلفا؟ وما هو المقدر عليه سلفا من أعماله؟ وما هو الشيء المفتوح؟ قبل أن نخوض في هذا البحث علينا أن نعرف المصطلحات التالية:
“العمل”، “الفعل”، “الصنع”، “الكسب”:
– العمل: هو حركة واعية يقوم بها الإنسان على وجه العموم (WORK).
– الفعل: هو عمل معرف محدد (do) فنقول “ضرب” فعل ماض أي عمل معرف بالضرب، و”أكل” فعل ماض أي عمل معرف بالأكل، ولا نقول عمل ماض. فإذا أخذنا كل آيات الكتاب المذكور فيها “فعل وعمل” رأيناها لا تخرج عن هذين المعنيين. فالله سبحانه وتعالى يعلم ماذا يفعل فقال: {فعال لما يريد} (البروج 16). ولم يقل عمال لما يريد.
وعندما تسجل الملائكة أعمال الإنسان فإنها تعلمها وتسجلها لذا قال: {كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون} (الانفطار 11، 12). وعندما كسر إبراهيم الأصنام وجاء قومه يسألونه عمن كسرها: {قالوا من فعل هذا بآلهتنا} (الأنبياء 59). كانوا يسألون عن الكسر فأجابهم إبراهيم: {بل فعله كبيرهم} (الأنبياء 63). أي كسره. وعندما رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه: {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} (الصافات 102). فأجابه ابنه قائلا: {قال يا أبت افعل ما تؤمر} (الصافات 102). هنا قال “افعل” أي اذبح.
وعندما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة 67). هنا قال: {وإن لم تفعل}. أي لم تبلغ.
وعندما قال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (الأنعام 112). هنا جاء قوله: {ولو شاء ربك ما فعلوه}. تعليقاً على قوله: {يوحي بعضهم إلى بعض}. وعندما قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (البقرة 278، 279) هنا قال: {فإن لم تفعلوا}. أي لم تذروا ما بقي من الربا، أي جاءت لشيء محدد معرف.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثانية بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
وبما أن الله يعلم أفعال الإنسان تحديدا عندما يقوم بها فقد قال: {إن الله يعلم ما تفعلون} (النحل 91). هنا جاءت معرفة الله بأفعال الإنسان بصفتين: الصفة الأولى وهي إثبات المعرفة بقوله: {إن الله يعلم ما تفعلون}. والثانية نفيا لجهل بقوله: {وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل 93) ولو قال “ليس الله بغافل عما تفعلون” فالفعل أصلا معرف محدد فلا داعي أن يقول ليس بغافل ولا تأتي الصفة قبلها إلا بصيغة يعلم. وبما أن العمل منكر أي على وجه العموم لا التحديد جاءت الصيغة قبله بنفي الجهل بقوله تعالى: {ليس بغافل} ولا نجد في الكتاب أبدا صيغة “وليس الله بغافل عما تفعلون”.
أما قوله: {إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88). فالخبرة تسبقها معرفة، أي أن الخبرة معرفة وممارسة معا لذا نقول إن الله عليم خبير. ولا نجد في الكتاب أبدا صيغة “إن الله يعمل ما يشاء” بل نجد صيغة {إن الله يفعل ما يريد} (الحج 14)، وصيغة {ويفعل الله ما يشاء} (إبراهيم 27) لأن إرادة الله وأفعاله كلها معرفة له. فعندما قال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} (الكهف 107) لم يحدد ما هي الصالحات، قالها على وجه العموم لأن الصالحات متغيرة مع تغير الزمن، وعندما قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة 7، 8) قالها على وجه العموم لأنه لو قال “ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره” لقالت له العرب ما هو الفعل الذي إذا فعلناه
لكان مثقال ذرة من الخير أي لوجب عليه تعريفه تحديدا.
ولو قال “إن الذين آمنوا وفعلوا الصالحات” لأتبعها بتحديد الصالحات حصرا، أو لسأله العرب ما هي هذه الصالحات؟ ومثال على ذلك قوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}. إذ أتبعها مباشرة بتحديد هذا الفعل بقوله: {ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل}. حتى آخر السورة. وهكذا نرى عندما يقول {عملوا الصالحات}. تأتي على وجه العموم لا على وجه الخصوص دون أن تعرف ما هي هذه الصالحات ، لأنها متغيرة حسب الزمان والمكان وتطور التاريخ فيبقيها دون تعريف.
فالعمل عام، والفعل خاص ومعرف. فنقول إن زيدا من الناس يعمل نجارا ولا نقول يفعل نجارا، فيقول بالأفعال التالية: ينشر الخشب ويدقا لمسامير ويلصق الألواح الخشبية بعضها ببعض. أي أن العمل بشكل عام والعمل الإنتاجي بشكل خاص يمكن أن يقسم إلى أفعال أولية معرفة كل على حدة.
الآن بعد أن عرفنا الفعل والعمل نرى أن حالة إثبات المعرفة لله سبحانه وتعالى جاءت في الكتاب على ثلاث حالات:
الحالة الأولى:حالة إثبات المعرفة على وجه الخصوص أي جاءت المعرفة
للحدث المعروض في الآية وقد جاءت على وجهين:
أ- تقديم العلم على الفعل: {إن الله يعلم ما تفعلون} (النحل 91).
{إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88) “الخبرة = العلم + الممارسة”.
{ويعلم ما تفعلون} (الشورى 25).
{ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام 159).
{إن الله عليم بما يفعلون} (يونس 36).
ب- تقديم الفعل على العلم:
{وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} (النساء 127).
{وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} (البقرة 215).
{وما تفعلوا من خير يعلمه الله} (البقرة 197).
هنا قدم الفعل على العلم بصيغة واحدة فقط هي {من خير}. حيث ذكر الخير في حالة التبعيض في بداية الآيات، وبما أن علم الله يحمل كل الاحتمالات وضع العلم بعد صيغة “من خير”.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثالثة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
الحالة الثانية: حالة إثبات المعرفة على وجه العموم أي أن المعرفة لم تقتصر على الأحداث المذكورة في الآية بل معرفة عامة كاملة وجاءت في صيغتين:
أ- حالة تقديم العلم على العمل: وقد جاءت هذه الصيغة في الكتاب/36/مرة بالأشكال التالية:
{والله خبير بما تعملون} (آل عمران 153).
{والله بصير بما يعملون} (البقرة 96).
{والله عليم بما يعملون} (يوسف 19).
{والله شهيد على ما تعملون} (آل عمران 98).
{فينبئهم بما عملوا} (النور 64).
{فينظر كيف تعملون} (الأعراف 129).
{إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية 29).
ب- حالة تقديم العمل على العلم: وقد جاءت هذه الصيغة في الكتاب/37/ مرة بالأشكال التالية:
{إن الله بما تعملون بصير} (البقرة 110).
{والله بما تعملون خبير} (البقرة 234).
{ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا} (يونس 61).
{إن ربي بما تعملون محيط} (هود 92).
{إني بما تعملون عليم} (المؤمنون 51).
الحالة الثالثة:
حالة نفي الجهل جاءت حصرا على وجه العموم أي وردت كلمة “عمل” ولا نجد في الكتاب صيغة “فعل” مع نفي الجهل وذلك لنفي الجهل على العموم لا لنفي الجهل بالموضوع المذكور بالآية ولو جاء نفي الجهل مع “يفعلون” لنفي جهله في الفعل المعرف مع زمن حدوثه بالآية فقط مع إمكانية جهله بمواضيع أخرى وفي أزمنة أخرى:
{وما الله بغافل عما تعلمون} (البقرة 74).
{وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة 85).
{وما الله بغافل عما تعلمون} (البقرة 149).
{وما ربك بغافل عما يعملون} (الأنعام 132).
{وما الله بغافل عما تعملون} (آل عمران 99).
{وما ربك بغافل عما تعلمون} (هود 123).
{وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل 93).
{ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} (فصلت 22).
{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} (إبراهيم 42).
إرادة الله وأفعاله كلها مُعرفة له:
{ولكن الله يفعل ما يريد} (البقرة 253).
{كذلك الله يفعل ما يشاء} (آل عمران 40).
{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} (النساء 147).
{ويفعل الله ما يشاء} (إبراهيم 27).
{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء 23).
{إن الله يفعل ما يريد} (الحج 14).
{إن الله يفعل ما يشاء} (الحج 18).
{فعال لما يريد} (هود 107).
{فعال لما يريد} (البروج 16).
{وكان أمر الله مفعولا} (النساء 47).
{ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال 42).
{ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال 44).
{وكان وعدا مفعولا} (الإسراء 5).
{إن كان وعد ربنا لمفعولا} (الإسراء 108).
{وكان أمر الله مفعولا} (الأحزاب 37).
{كان وعده مفعولا} (المزمل).
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الرابعة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
شرح قوله تعالى:
{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون} (يس 71).
هنا لو قال “مما فعلت أيدينا أنعاما” فهذا يعني أن المخاطب وهو الإنسان يعلم كل الأفعال المتتالية والمتوازية المعرفة التي تمت في خلق الأنعام ابتداء من أول خلية حية حتى الوصول إلى الأنعام أو لذكر ما هي كل الأفعال التي نفذت حتى تم خلق الأنعام، ولو كانت هذه الأفعال مُعرفة للمخاطب لاستطاع هذا المخاطب أن يخلق أنعاما بنفسه. وهنا يجب أن نشرح كلمة {أيدينا}: فالأيدي جاءت من فعل “أيد” ومنه جاءت الأيدي والأيادي والتأييد، فنقول إن فلانا أيد فلانا في موقفه فهذا يعني أنه وافقه وبالتالي مد له يد المساعدة “دعمه” وهكذا نفهم قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (الفتح 10).
إن الله سبحانه وتعالى أيد الصحابة في بيعة الرضوان في موقفهم هذا ومد لهم يد المساعدة وكذلك نفهم قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات 47) فالآية تدل على القدرة والحفظ على وجه العموم لا الحصر.
وإذا جاءت من “يد” فهي تعني المنعة والقوة والإصلاح “ضرب بيد من حديد” أي ضرب بمنعة وقوة، أي اتخذ موقفا منيعا وقويا.
– معنى فعل “صنع”:
استعمل الفعل صنع في الكتاب للدلالة على تاج عمل كقوله لنوح {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} (هود 37). وقوله: {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} (المؤمنون 27). وبما أن السحر كان مهنة أيام موسى قال: {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر} (طه 69). وفي قوله عن داوود قال: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} (الأنبياء 80). وعن الطبيعة التي هي من صنع الله قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} (النمل 88). أما قوله تعالى عن قوم هود {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} (الشعراء 129). هنا بما أن قوم هود كانوا يبنون بيوتهم في الأماكن العالية لقوله: {تبنون بكل ريع آية تعبثون} (الشعراء 128).
والريع هو المكان العالي، وبما أن هذا المكان العالي بحاجة إلى مياه فقد صنعوا أيضا حفرا لتجميع المياه، سميت مصانع، وإلى الآن تستعمل في بعض البلاد العربية كلمة “مصنع مياه” أي خزان ماء. وعندما قال: {إن الله خبير بما يصنعون} (النور 30} {إن الله عليم بما يصنعون} (فاطر8)، {والله يعلم ما تصنعون} (العنكبوت 45). فالصناعة تحتاج إلى علم وخبرة ومؤلفة من مجموعة من الأفعال المحددة لإنتاج شيء ما لذا رافعه: عليم وخبير بما يصنعون فوضع “عليم وخبير” قبل “يصنعون” لا بعدها لأنه قالها على وجه الخصوص لا على وجه العموم. أما قوله لموسى {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} (طه 39). حيث تربى في بيت فرعون وقام فرعون بتربيته وتنشئته والله يرعاه قال: {ولتصنع على عيني} لذا فقولنا “الجامعة هي مصنع العلماء” يعتبر قولا عربيا صحيحا أي لتحويل الجاهل إلى متعلم.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الخامسة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
ولنشرح الآن الآيتين التاليتين:
1 – {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل 112). إذ أن آيات الأمثال هيمن على القرآن دائما لقوله {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل} (الكهف 54). ففي هذه الآية قانون موضوعي، هذا القانون هو أن كل مجتمع إنساني مستقر “قرية” كفر بأنعم الله فهناك عقابان هما نتيجة صنع الإنسان نفسه، هنا “الباء” في “بما” هي باء الاستعانة كقولنا “ضربتك بيدي” العقاب الأول هو الجوع، والعقاب الثاني هو الخوف. وسببهما هو صناعة الإنسان نفسه. فإذا نظرنا الآن مثلا إلى العالم رأينا أنه يصنع القنابل الذرية وحاملات الطائرات والغواصات والصواريخ فإذا عرفنا الآن أن حاملة طائرات واحدة مع ملحقاتها تكلف حوالي/20/مليار دولار لعرفنا النفقات الهائلة الأسطورية التي تنفق على سباق التسليح.
هذا السباق ينتج عنه مشكلتان:
الأولى: الجوع حيث أن هذه النفقات تذهب على حساب متطلبات الإنسان ورفاهيته.
والثانية: الخوف حيث أن هذه الأسلحة تسبب الدمار الهائل فأصبحت تشكل كابوسا على الإنسان، وهذه الأسلحة هي من صناعة الإنسان أصلا أي من نتاج عمله لذا قال: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. وهذا أيضا يدل على أن القرية عندما تكفر بالله لا يقطع الله عنها الرزق من ماء وشجر وزراعة…الخ، لأنه ربها. فسباق التسلح هو عذاب الله على الكفر بنعمته في العصر الحديث. فعلى الإنسانية المؤمنة أن تسعى لوضع حد لهذا العذاب. إن مقياس إخلاص الإنسان تجاه الإنسانية هو موقفه من سباق التسلح وهدر المليارات من النقود على آلة الرعب وسبب الجوع.
وهكذا نفهم قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} (هود 15} (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} (هود 16).
هذه الآيات تقول للذين لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا ويظنون أنها نهاية المطاف وأنه لا آخرة بعدها فالله يوف إليهم أعمالهم فيها ولا يبخسهم فيها شيئا. أما في الآخرة فلا تفيدهم كل صناعاتهم المنتجة في الدنيا لذا قال: {وحبط ما صنعوا فيها}. يظن بعضهم أن الدنيا للكافر والآخرة للمؤمن! وهذا غير صحيح. فالدنيا للكافر والمؤمن على حد سواء، والمؤمن له ثواب الآخرة بالإضافة إلى الدنيا. أما الكافر فلا يوجد له ثواب في الآخرة.
2 – {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به
الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} (الرعد 31).
تدل هذه الآية على أن مواضيع القرآن هي العلم فقط لذا قال {قطعت به الأرض أو كلم به الموتى… الخ) وإن العلم متاح لكل إنسان لذا قال عن القرآن: {هدى للناس}. هذه العلوم متاحة للمؤمن والكافر على حد سواء لذا قال للمؤمن إن قوانين الجدل هي قوانين موضوعية وإنه لا مناص من وجود الكفر والإيمان معا وإن الكفر لا ينتهي والإيمان لا ينتهي بل هما في علاقة جدلية مادامت الإنسانية موجودة.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السادسة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
أما الذين كفروا فيصيبهم {بما صنعوا} فالباء هنا باء الاستعانة أي بصناعتهم التي هي نتاج عملهم ستصيبهم {قارعة} وهي من فعل “قرع” وهي الضربة القاصمة القوية {أو تحل قريبا من دارهم} وهنا يجب أن نميز بين الدار والديار، فالدار هي قطعة من الأرض تسمى الوطن، فالأرض التركية هي دار الأتراك، أما الديار فهي أبنية لها جدران لذا قال {أو تحل قريبا من دارهم} أي مجاورة لحدودهم وهذا المعنى جاء في قوم ثمود فهناك فئتان من لناس في ثمود، الفئة الأولى تسكن البيوت المنحوتة في الجبال وهذه البيوت لها أبواب وجدران ولكنها دون نوافذ فهلك سكانها بالصيحة “الموجة الصوتية” لذا قال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (هود 67).
أما الفئة الثانية من الناس فكانت تعيش خارج البيوت المنحوتة في السهول ولا تؤثر فيها الموجة الصوتية وكانوا يعيشون على قطع من الأرض لها حدود فيها بينها لقوله: {تتخذون من سهولها قصورا} (الأعراف 74). والقصور جاءت من “قصر” أي أن إنسانا ما أخذ قطعة من الأرض ووضع لها حدودا وأصبحت هذه الأرض مقتصرة له، وبدون أن يبني عليها مبنى له جدران فهؤلاء أهلكهم الله بالزلزال، لذا قال: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} (الأعراف 78).
– الكسب: هو المردود الإيجابي للعمل لذا قال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت…الآية} (البقرة 286). أما الاكتساب فهو المردود السلبي للعمل لذا قال عن الكسب لها وعن الاكتساب عليها.
الآن لنلخص معاني المفردات الأربع بالمفهوم الإنساني العاقل، لا بالمفهوم الطبيعي:
– العمل: حركة واعية يبذلها الإنسان العاقل ويحمل معنى العموم هنا وقلنا الإنسان العاقل لنميزها عن العمل الناتج عن الحركة الميكانيكية للأجسام أي المعنى الفيزيائي البحت.
الفعل: هو عمل مُعرف محدد ويحمل معنى الخصوص “أكل، شرب، ضرب، نام”.
الصنع: هو نتاج العمل “أو نتاج تربية”.
الكسب: هوا لمردود الإيجابي للعمل.
الأجر: هو ما يعطيه رب العمل للإنسان مقابل عمل هو للمأجور كسب.
فنقول إن زيدا من الناس يعمل نجارا ويقوم بالأفعال التالية: يقطع الخشب ويدق المسامير ويلصق الخشب ثم يدهنه فيصنع كرسيا ويكسب نقودا. ونقول ضرب زيد عمرا فاكتسب إثما، فالضرب فعل والإثم اكتساب. فهل هذه المعاني تنطبق على الزراعة؟ لا تنطبق كليا لأنه إذا قلنا إن زيدا من الناس يعمل في الزراعة فإنه يقوم بالأفعال التالية: يشق الأرض ويبذر البذر ويذر السماد ويقوم هو بعدة أفعال لكي تنتج الأرض المحصول فالإنسان يعمل في الأرض، والأرض هي التي تنتج المحصول لذا قال الله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} (الواقعة 63-64) فالحرث هو غلة الأرض الزراعية لا شق الأرض الزراعية، لذا فحرث الأرض هو كسب لمن عمل فيها وهو كسب.
فالمزارع يقوم بالأفعال المذكورة لكي تنتج الأرض، لأن الأرض يمكن أن تنتج دون تدخل الإنسان كما نرى في الغطاء النباتي الطبيعي للكرة الأرضية وفي ا لبحار. لقد ذكر تدخل الإنسان “بالعمل بالأرض وفي الحرث” لا في الزراعة نفسها. وأن مصطلح الزراعة والصناعة مفصولان عن بعضهما وهذا صحيح، فالإنسان يعمل في الزراعة ويجني الحرث، والأرض تنتج. ويعمل في الصناعة وهو ينتج لذا قال في سورة يس عن خيرات الأرض من النبات: {ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم} (يس 35). هنا قال عن النبات: {ليأكلوا من ثمره}. ومن عمل الإنسان {وما عملته أيديهم}. أي والذي عملته أيديهم.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة السابعة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
لنشرح الآن لماذا فصل القول ولم يعتبره فعلا حيث قال {لم تقولون مالا تفعلون} (الصف 2)، أليس القول فعل يقوم به الفم واللسان والجهاز الصوتي؟ أقول لا ليس هذا بالقول، وإنما هو الكلام. فالكلام فعل وليس قولا فعندما يتكلم الإنسان فيصدر أصواتا هي الكلام وهذا الإصدار حقيقة موضوعية لأنه صوت وهذا ما نسميه بالنطق، فالنطق فعل وحقيقة لذا قال: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} (الذاريات 23)
ولم يقل مثلما أنكم تقولون، فالنطق للكلمات لا للأقوال لذا قال سليمان: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} (النمل 16) ولم يقل قول الطير.
أما القول فهو عندما تصل الكلمات إلى ذهن السامع فتتحول إلى معنى في الذهن فهذا المعنى هو القول، فالإنسان نطقه حق وليس من الضروري أن يكون قوله حقا. أما الله سبحانه وتعالى فالقول والوجود بالنسبة له واحد لذا قال: {قوله الحق)، وإن الكون كله ما هو إلا عين كلمات رب العالمين لذا قال: {إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس 82).
هل أعمال الإنسان محددة سلفا؟ وما معنى قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} (الصافات 96).
لاحظ أنه قال “وما تعملون” ليضعها على وجه العموم علما بأن الأفعال هي أعمال معرفة.
ولنأخذ الآن أعمال الإنسان على العموم لنحولها إلى أفعال على الخصوص،
ولكن بعد شرح معاني الأفعال التالية في اللسان العربي:
– خلق، سوى، جعل:
1- خلق: فعل خلق في اللسان العربي له أصلان صحيحان، الأول يعني التقدير قبل التنفيذ كقولنا خلق الخياط القميص من القماش أي قدره قبل القطع. فعندما يأخذ الخياط قطعة القماش ويضع عليها علامات تبين الأكمام والصدر والظهر…الخ قبل القص فهذا يعني أنه يخلق قميصا، وهذا ما نقول عنه في اللغة المعاصرة “التصميم” فعندما نخلق سيارة “نصمم” نخلق الأسطوانة والمكبس وكل قطع المحرك وبقية السيارة، كل هذا الخلق يتم على المخططات طبقا لقوانين الميكانيك والترموديناميك، فكل ما تقوم به السيارة من عمل هو طبقا للتصميم الموضوع “
الخلق” مؤلف من أفعال أولية موجودة في بنية التصميم.
وعندما نقول خلق المهندس بيتا أي وضع له مخططات معماري وإنشائي وصحي وكهربائي قبل التنفيذ، فالله يخلق والإنسان يخلق، ولكن الله أحسن الخالقين كما في قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين) وذلك لأنه بكل خلق عليم، فالله هو خالق السموات والأرض ولكن الخلق يمكن أن يكون منقولا فليس من الضروري أن كل بيت يخلقه مهندس هو تصميم لا سابق له فإذا كان لا سابقة له فهذا يسمى الإبداع لذا قال: {بديع السموات والأرض} (البقرة 117) أي أن السموات والأرض التي نراها حاليا ليس لها سابقة فالله هو خالق السموات والأرض وهو بديع السموات والأرض.
وهنا يجب أن نفهم بشكل واضح وجلي أن الخلق لا يعني الإيجاد من العدم كما يظن البعض فنرى أنه لا توجد آية واحدة في الكتاب تقول إن الخلق من العدم وإنما من شيء كقوله: {خلق الإنسان من علق} (العلق 2)، فهل العلق عدم؟! وقوله: {إني خالق بشرا من طين} (ص 71). وقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف 12) وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى} (القيامة 38) وقوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} (الفرقان 54) وقوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف 12) وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى} (القيامة 38) وقوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا} (الفرقان 54) وقوله: {وبدأ خلق الإنسان من طين} (السجدة 7).
فعندما يذكر فعل خلق فإما أن يقول: من ماذا؟ كالآيات السابق ذكرها، أو لا يقول شيئا كقوله: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1). أما لماذا سميت بعض النواحي في السلوك الإنساني أخلاقا وهي من فعل “خلق” هذا فلأن الإنسان في تصميمه “خلق” مهيأ لهذا السلوك فنقول: خلق سيء وخلق حسن، وجاءت في هذا المعنى “الخلاق” وهو ما يستحقه الإنسان نتيجة لسلوك معين فنقول أن زيدا من الناس خليق بكذا وكذا كقوله تعالى: {ما له في الآخرة من خلاق} (البقرة 102). وقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم4). أما المعنى الثاني لفعل “خلق” هوا لتمليس فنقول صخرة خلقاء أي صخرة ملساء.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الثامنة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
2- سوى: وله في اللسان العربي عدة أصول صحيحة:
أولها: المساواة فنقول أن 3+1=4، ثلاثة مضاف إليها واحد تساوي الأربعة. وفي هذا المعنى جاءت في قوله تعالى: {وقدر فيه أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت 10) أي أن الأرض تعطي أقواتها وخيراتها للذي يعمل فيها ويأخذها كافر أو مؤمن على حد سواء. وقوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة 6). وبما أن المساواة في المعادلة تكون في الوسط وعلى طرفيها حدود المعادلة فيستنتج منها المعنى الثاني وهو الوسط كقوله تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات 55) هنا سواء الجحيم أي في وسط الجحيم.
أما المعنى الثالث فهو بعد التصميم نقوم بما نسميه بالتسوية فإن أي تصميم “خلق” يحتاج بعده إلى عملية تنفيذ فعلية لتحويل المخطط المخلوق إلى شيء واقعي منفذ على أرض الحقيقة لذا فإن أي تصميم يعقبه تنفيذ مباشر لذا قال: {سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى} (الأعلى 1، 2) فالخلق يعقبه تسوية ولاحظ أن “فاء” التعقيب والسببية جاءت بين فعلين “خلق، سوى”.
والتسوية هي التنفيذ الكامل للتصميم بدون أي نقصان أو عيب فعندما نقول إن زيدا من الناس “إنسان غير سوي”: فيه عيب ونقص. وهكذا نفهم: {فتمثل لها بشرا سويا} (مريم 17) أي أن جبريل تمثل لمريم بصورة بشر سوي لا عيب فيه ولا نقص. ولم تلاحظ مريم أي شيء غير بشري. لاحظ قوله: {بشرا سويا}. ولم يقل إنسانا سويا للتأكيد على كمال الناحية الفيزيولوجية.
وعندما قال الله للملائكة عن خلق البشر أعقبه مباشرة بالتسوية بقوله: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص 71، 72) فلاحظ كيف أن الخلق هو التصميم الذي أعقبه التسوية “التنفيذ”.
أما المعنى الأخير لفعل “سوى” فهو الاستقرار والتحكم كقوله تعالى: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} (الزخرف 13). فالاستواء على ظهور الأنعام هو عملية الاستقرار عليها، فيمكن للإنسان أن يركب على ظهر الجواد ثم يقع عن ظهره أثناء التذليل. أما الاستواء فهو الاستقرار والتحكم وهكذا نفهم قوله تعالى:
{الرحمن على العرش استوى} (طه 5).
3- جعل: وتعني في اللسان العربي انتقالا من حالة إلى حالة أو تغيرا في الصيرورة لشيء موجود فعلا كقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (الزخرف 3). فهنا “جعل” تدل على أن القرآن كان موجودا فأخذت منه نسخة مترجمة إلى العربية لذا قال: {إنا جعلناه}. ولم يقل “إنا خلقناه” فالجعل يمكن أن يتم بتغيرات أثناء عملية التسوية أو بعدها كقوله عن أحد مراحل التسوية في لأرض {وجعل فيها رواسي من فوقها} (فصلت 10). أي أن الأرض كانت كرة ملتهبة سائلة وتجمد قسم منها وهو القشرة الخارجية لذا قال: {رواسي من فوقها} (فصلت 10).
أي أن الأرض كانت كرة ملتهبة سائلة وتجمد قسم منها وهو القشرة الخارجية لذا قال: {رواسي من فوقها}.
وقال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما} (البقرة 124) أي أن إبراهيم لم يكن إمام للنسا فأصبح إماما لهم، أي أضيفت له صفة صار بها إماما للناس. وقوله تعالى: {وجعلنا منا لماء كل شيء حي} (الأنبياء 30) أي أن الماء يغير في صيرورة الأشياء من كائن غير حي إلى كائن حي وقوله: {ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} (القيامة 38، 39) لاحظ كيف جاءت الأفعال الثالثة متتالية “خلق، سوى، جعل” هنا جاء التصميم ثم التنفيذ ثم تغير من صيرورة إلى صيرورة أخرى.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة التاسعة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي إستكمالا للماضية والتي هي بعنوان : *{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} أي "في أوقات محددة " (النساء 103)
ولنعد الآن إلى الموضوع الأساسي وهو قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون) (الصافات 96). ولنأخذ أعضاء الحركة عند الإنسان:
1 – اليد: تألف من الكف والزند والذراع وفيها عدة مفاصل فإذانظرنا إلى اليد من حيث البنية فنرى أن الأفعال التالية موجودة في تصميم هذه البنية “الخلق”. فنرى أن الكف يحوي في بنيته “خلقه” على إمكانية الحركة باتجاهين متضادين، القبض والبسط وكذلك الأصابع مع مفاصلها تحتوي في بنيتها على مجموعة منالأفعال. وكذلك الذراع والزند يحتويان في بنيتهما على مجموعة من الأفعال، وكل هذه الأفعال الموجودة ضمن مجال حركتها البنيوي عبارة عن أضداد قاليد اليمنى واليد اليسرى أزواج والحركات ضمن اليد اليمنى واليسرى أضداد، فالقبض والبسط في الكف وعملية الكب والاستلقاء في الزند وعملية الرفع والتنزيل في الزند وفي الذراع وعملية الحركة إلى الأمام والخلف في الذراع… وهكذا دواليك وكذلك الأرجل ففي بنيتها تحوي أفعالا وتوجد فيها أفعال على شكل أضداد “الوقوف والمشي” وفي الحوض والأرجل “الجلوس والنهوض”.
وكذلك الأعين عين يمنى وعين يسرى “أزواج” فيها تدخل إمكانية العمى والبصر “أضداد” والأذن فيها إمكانية الصمم والسمع واللسان فيه إمكانية البكامة والكلام والبلعوم فيه إمكانية التقيؤ والبلع.
فإذا أراد الإنسان أن يقوم بعمل ما على وجه العموم فإن هذا العمل يتألف من مجموعة من الأفعال الأولية على وجه الخصوص وإمكانية هذه الأفعال موجودة في بنيته فلا يستطيع أي إنسان أن يمضغ الطعام برجليه ويمشي بأسنانه.
فكل أفعال الإنسان التي يقوم بها على وجه الخصوص للقيام بعمل على وجه العموم هي ممكنة التنفيذ في بنيته “خلقه” وعلى هذا فالإنسان لا يخلق ولا يستطيع أن يخلق أي فعل غير موجود في بنيته أو في الطبيعة. فرب سائل يقول إن الإنسان صنع السيارة والصاروخ والغواصة والرافعة والطائرة والأدوية. أقول إن الإنسان صنع هذه الأشياء من قوانين موجودة في الطبيعة، فالإنسان صنع الطائرة نتيجة استيعابه لقوانين الطيران الموجودة فعلا في الطبيعة والتي شاهدها أولا من خلال الطيور والحشرات الطائرة لذا فقد سمى القرآن ظواهر الطبيعة {آيات الله}. فالإنسان بعد أن عرف هذه الأفعال الموجودة بالإدراك الفؤادي أولا، ثم بالتجريد العقلي “القوننة” وصل إلى ظاهرة الإبتكار والتخيل فقلد أفعال الطبيعة وأبدع فيها وسخرها لمصلحته “للإعمار أو الدمار” وابتكر آلاف الأدوات والتجهيزات الجديدة، لذا لم يقل أبدا في الكتاب “والله خلقكم وما تصنعون” بل قال: {إن الله عليم بما يصنعون} (فاطر 8).
وقال: {إن الله خبير بما يصنعون} (النور 30). فكل ما ذكر سابقا عن
الأفعال ووجودها في الطبيعة هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الوعي
الإنساني “حق” وهي تعتبر من قوانين القدر “الوجود”.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دور الإنسان في هذا وأين الخيار والحرية للإنسان؟ أي أين قضاء الإنسان؟ وما علاقة الإنسان بقوانين القدر القائمة في ظواهرها على الأضداد وفي ذاتها على المتناقضات الأزواج “التأثير والتأثر المتبادل”؟
الجواب هو أن العلاقة تتحدد حصرا بالمعرفة فعندما عرف الإنسان قوانين القدر في الدورة الدموية وفي دورة الدم في القلب والشرايين استطاع أن يقضي فيها وذلك بالعمليات الجراحية وبالتالي زادت حريته فيما يتعلق بهذا الموضوع. وعندما عرف قوانين الطيران استطاع أن يصمم الطائرة وينتجها وبالتالي ازدادت درجة حريته في التنقل، وعندما عرف قوانين الكيمياء زادت درجة حريته في اختراع الأدوية… وهكذا دواليك، فالإنسان يتعلم ظواهر الطبيعة والأفعال المقدرة فيها لكي يمارس القضاء من خلالها حيث أن حريته تكمن فيهما معا.
فالموت قدر والقتل قضاء ولولا الموت لما كان هناك قتل. ووجود إمكانية الضرب باليد قدر والقيام بعملية الضرب قضاء وهذا نراه في قوله تعالى: {هو يحي ويميت} (يونس 56). “قدر إلهي”. وقوله: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} (المائدة 28) “قضاء إنساني”.
فكلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد شعوره بالجبرية، فالإنسان يطلب الأشياء حسب معرفته لها، والذي لا يعرف شيئا لا يطلب شيئا لذا قال: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} (الأنفال 22) فمثلا كان الإنسان سابقا يظن أن وجوده على الأرض وجود جبري، ولكن عندما عرف قوانين الجاذبية وقوانين الطيران والدفع الصاروخي تخطى هذه الجبرية فأصبح يخرج من الأرض ثم يعود إليها.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة العاشرة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان : * تعريف القضاء والقدر والحرية
لنضع الآن تعريفا للقضاء والقدر والحرية:
القدر: هو الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها خارج الوعي الإنساني.
القضاء: هو ظاهرة تتمثل في السلوك الواعي “إرادة إنسانية” قائم على
الحركة بين الأضداد، أي سلوك بين نفي وإثبات في ظواهر الوجود “القدر”.
فالقضاء الإنساني المتحرك دائما يتولد من القدر من خلال المعرفة المتحركة دائما “والتي تعتبر المقادير أعلى شكل للتعبير عنها”.
وبما أن المعرفة الإنسانية لظواهر الوجود متحركة دائما إلى الأعلى وبالتالي فالقضاء الإنساني متحرك دائما إلى الأعلى.
هذه التعاريف يمكن أن نمثلها بالشكل الرمزي التالي:
فكلما زادت معرفة الإنسان بالقدر زاد قضاؤه وبالتالي زادت حريته وانخفض مفهوم الجبرية عنده. فالقضاء دون قدر وهم وأحلام يقظة “لا موضوعية”، والقدر دون قضاء جهل ورجعية أو رجوع إلى المملكة الحيوانية.
من هذا التعريف للقضاء والقدر نستطيع ن نضع تعريفا جامعا مانعا للحرية والتقدمية:
1 – الحرية: هي إرادة إنسانية واعية دائمة الحركة بين النفي والإثبات في الأضداد “ظواهر الوجود”.
فالسؤال الآن: كيف بدأت حرية الإنسان “الومضة الأولى للحرية”؟ بدأت هذه الومضة الأولى مع بداية المعرفة الإنسانية وهذه الومضة جاءت مع نفخة الروح وهي الحلقة المفقودة بين البشر “المملكة الحيوانية” والإنسان وقد تم شرحها في مقال سابق.
ولنعبر عن هذا الانتقال بالمعادلات التالية:
من هذا التعريف نرى أن ظاهرة الحرية لها مركبتان: المركبة الأولى موضوعية وهي الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها.
والمركبة الثانية ذاتية وجاءت من نفخة الروح وهي المعرفة التي نتج عنها إرادة واعية. فأول شيء مارسه آدم بعد المعرفة مباشرة هو الحرية، وكانت هذه الحرية في معصية أمر الله. لذا فإن الذي يطلب الحرية لا يطلب وهما ولا يعيش في وهم، وإن أحد الأسباب الرئيسية لمعاداة العرب للنبي صلى الله عليه وسلم هو الجهل لذا كان الني صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
أما التعريف القائل إن الحرية هي “وعي الضرورة” فهو تعريف ناقص، فوعي الضرورة لا يكفي لممارسة الحرية حيث أن هذا الوعي والذي أطلقنا عليه مصطلح المعرفة بالموجودات هو شرط لازم غير كاف لممارسة الحرية حيث قلنا إن الحرية ظاهرة وليست شيئا. لذا فإنها تقوم على الأضداد.
فحتى يمارس الإنسان حريته يجب ن يكون هناك مجال للاختيار بين ضدين أي مجال للنفي والإثبات وهنا يكمن سر جدل الإنسان في الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. فحتى يتحقق جدل الإنسان في الفكر يجب أن يكون هناك الفكر والفكر المضاد والرأي والرأي المضاد “جدل غير متخاصم” وهذه الخاصية تعتبر أهم خاصية في المجتمعات الإنسانية الحرة المتحضرة.
وإذا سأل سائل: ما هي وحدة الفكر والفكر المضاد في المجتمعات المتحضرة؟ أقول: وحجتهما هي البحث عن الحقيقة في المعرفة والوطنية في السياسة والاقتصاد.
2 – التقدمية: بما أن المعرفة الإنسانية هي معرفة صاعدة إلى الأعلى وغير ثابتة وتحمل مفهوم النسبية، لذا فإن التقدمية
هي الانتقال من درجة في الحرية كيفا وكما إلى درجة أعلى في كل نواحي الحياة. وإذا فقدت هذه الخاصية في رفع الحرية كما وكيفا للناس فقد فقدت أهم مبررات وجودها.
إلى هنا ونكمل في اللقاء القادم والسلام عليكم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : فهذه الحلقة الحادية عشرة بعد المائة في موضوع(الحسيب)وهي بعنوان :
* ومن يتوكل على الله فهو حسبه :
في سورة الطلاق أو سورة النساء الصغرى - كما تسمى - وردت أربع آيات كريمة، ربطت بين الفعل والجزاء، ورتبت النتيج